المحتوى الرئيسى

أحمد مدحت يكتب: هن يبعن الهوى.. فمن يشتريه؟

05/30 10:13

كنا بعد الفجر بقليل، حين تختلط ظلمه الليل بشحوب النهار الزاحف بخجل.. وقفتُ مستندا الي مقدمه السياره، بينما صديقي يقف بالقرب مني، يلتهم السيجاره التهاما من شده الغضب، بينما الميكانيكي يجلس علي كرسي وضعه علي باب الورشه.. بدا اننا جميعا كمن ينتظرون هنا منذ بدايه الخليقه.

تعطّلت سياره صديقي، ونحن في رحله العوده بعد سهره حافله؛ فبحثنا حتي اهدتنا الصدفه هذا الميكانيكي الذي يحب السهر، في هذه المنطقة الشعبيه، قبل ان تلفظ السياره انفاسها الاخيره، وتكف عن التحرك.

وبينما نحن في انتظار الصبي الصغير، الذي ارسله “المَعلم” صاحب الورشه؛ لاحضار قطعه غيار معينه من مخزن علي بعد شارعين من الورشه، رايناها تتقدم نحونا.. تسير ببطء، بخطوات ثابته، مرتديه عباءه سوداء واسعه، وتحكم لف الطرحه حول راسها، وفي يدها اليمني كيس بلاستيكي كبير الحجم.. مرت بجوارنا، والقت السلام بصوت واضح علي “المَعلم”، الذي بدا انه يعرفها جيدا، قبل ان تدلف الي داخل بيت قريب، يبعد عن الورشه مسافه امتار قليله.

في مرورها السريع بجواري، لمحتُ الجانب الايمن من وجهها.. كانت عينها اليمني متورمه بشكل واضح.. كدمه زرقاء ضخمه، تحيط بالعين، كانها جزء اصيل من الوجه.

التقت عينايّ بعينيّ صديقي؛ ففهمنا سويا ان ما رايناه اثار فضولنا معا.. ناول صديقي المعلم سيجاره، وكان قد نال رضاه الكامل بعد ان اهداه شريطا من الفياجرا قبل ربع ساعه، وساله بشكل عارض: الست دي شكلها غريب اوي.. كانها مضروبه في وشها.. وراجعه وش الصبح كده! شكل حكايتها حكايه.

فرد المعلم بحماس، وهو ينفخ دخان السيجاره “الاجنبيه” مستمتعا: لا حكايه ولا حاجه.. دي بت غلبانه اسمها “….”، بتجري ورا اكل عيشها.

ثم صمت هنيهه، واكمل بصوت خفيض، مُحمَّل بالتعاطف: بيقولوا انها شغّاله في البَطّال.. وامها العجوزه طبعا ماتعرفش حاجه.. ربنا يستر علي ولايانا.. ملهومش راجل يحميهم ولا ياخد باله منهم.

قبل ان يختم حديثه، وهوينهض من مكانه للعمل بعد ان عاد الصبي اخيرا، قال وهو يبصق السيجاره المنتهيه: غيروا السيره دي بقي.. بت نجسه!

وتناسي “المَعلِّم” تعاطفه تماما في ثوان!

مازلتُ اتذكر هذه الحلقه جيدا.

كنا في اعقاب الثوره بشهور، وحينها، كانت استضافه شيوخ السلفيه هي موضه الفضائيات. بدا علي الشيخ السلفي الذي استضافوه الغضب الحقيقي من “نجيب محفوظ” وما كتبه.

لم يكن اشد ما يغضبه هي روايه “اولاد حارتنا”، كما تجري العاده في الاوساط السلفيه، بل شنَّ هجوما شديدا علي محفوظ الذي قدم “العاهره”، خلال رواياته، بشكل انساني؛ يدفع القارئ للتعاطف مع من يعملن في هذه المهنه الرخيصه.

لم يهتم الشيخ السلفي بالنسق المجتمعي والسياسي الذي طرحه نجيب محفوظ، كبيئه تفرز العاملات في مهنه كالدعاره.. كل ما اهتم به ان “نجيب محفوظ” قدم عاملات الجنس كبشر.

في راي الشيخ السلفي، وفي راي الكثيرين في مصر في واقع الامر، عاملات الجنس لا يجب الحديث عنهن بصفتهن بشر.

في نظر الغالبيه الساحقه من المجتمع المصري: هن عاهرات، لا اكثر، و”انسنه” الحديث عنهن، باي شكل، هو تحريض علني علي الفجور.

ما اريده هو العدل، لا التعاطف.

تعمل الصحف، والقنوات الفضائيه، ووسائل الاعلام المختلفه علي تقديم قضيه تجاره الجنس في مصر، باكثر الطرق ابتذالا، وجذبا للجمهور.. يخلقون من الحديث عن من يعملن في تجاره الجنس حكايات شيقه، مثيره، هنَّ المتهمات فيها دائما، دون اي محاوله لتناول المناخ المجتمعي والظروف السياسيه والاقتصاديه التي تدفعهن للكسب من بيع الجسد.

هناك استثناءات بالطبع، واوضح هذه الاستثناءات هو الموضوع الذي نُشر علي موقع “مدي مصر”، في 5 نوفمبر 2014، تحت عنوان: “عاملات الجنس في مصر: نبيع الهوي ونشتري قهرا”.. عرض الموضوع عده وجهات نظر، لفتيات يعملن في تجاره الجنس، متباينات من حيث الظروف والدوافع، بعد ان تم تزييف اسمائهن عند النشر بالطبع.

عندما ارسلتُ لينك الموضوع لاحد معارفي، رد عليَ بمنتهي الثقه: ده موضوع متلفق!

بعد ان استفسرت منه عن الكيفيه التي تيقن عبرها من تلفيق الموضوع، جاءني رده بانه تاكد من هذا من خلال حديث احدي النساء، والتي قالت انها متزوجه، ولديها اسره مستقره، وتعمل في الدعاره لتوفير نفقات الدروس الخصوصيه لابنائها، وعندما توفر المال اللازم لذلك، تتوقف عن العمل حتي مجئ الشهر التالي.

راي صديقنا هذا ان ما حكته تلك السيده غير واقعي، ولا يمكن ان يكون حقيقيا.. بعض البشر يلجاون للتكذيب؛ هربا من قسوه الواقع.

الواقع يقول ان تجاره الجنس في مصر اكثر عمقا وخطوره، من هذا الشكل النمطي شديد السطحيه، والذي يصمم المعظم علي تناول القضيه من خلاله.

الفتاه التي تعمل في تجاره الجنس ليست بالضروره علي هذه الصوره الذهنيه النمطيه، التي عملت السينما علي تثبيتها في اذهان المشاهدين، علي مر السنين.. قد تجلس بجوارك في الميكروباص فتاه عاديه تماما، لا ترتدي ملابس مكشوفه، ولا تضع مكياجا صارخا، ولا تلوك لبانه بطريقه توحي بالرقاعه.. قد تجدها عاديه تماما، والحقيقه انها احدي اللائي يبعن اجسادهن لمن يقدر علي الدفع، وقد فرغت في تلك اللحظه من مشوار عمل لتوِّها.

من تعمل في الدعاره لا تقف علي باب منزلها تغازل الرجال، وتطلب وصلهم بالفاظ فجه.. للاسف، الواقع اكثر تعقيدا.. ليته كان كذلك!

الواقع يقول، وهو الذي يهرب منه الجميع، ان الضغوط الاقتصاديه تدفع الاف الفتيات، ولن اقول الملايين – حتي لا اُتهم بالمبالغه- للتغاضي عن التحرش الجنسي، بمختلف درجاته، من بعض اصحاب الاعمال الخاصه، الذين يستغلون الفتيات اللائي يعملن لديهم بشكل جنسي، يتفاوت.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل