المحتوى الرئيسى

ناهد صلاح تكتب: شارع شامبليون.. يا سنين اللي رحتي ارجعي لي!

05/29 10:44

الصبيه التي دوّخت شوارع وسط البلد لفاً ودوراناً: يا دنيا دوري .. دوري .. دوري بينا، كبرت وتركت لفّاتها اثراً علي الحوائط وبلاط الارصفه المِتْكَسَرْ في وسط العاصمه، وحين تمر الان تُناديها الامكنه قبل البشر ويكاد ان ينطق الحجر.

حجر رشيد، يعرف الناس مكتشفه وصاحب فك رموزه وشفرته شارعاَ لا عالِماً، شامبليون بعد الضنا اصبح لها المصير والمُستقر. مرّتان يومياً تدخل وتخرج منه خلال خمسه ايام في الاسبوع و20 يوماً في الشهر، ما يعني 40 مره شهرياً تدخل وتخرج من شامبليون في 16 سنه، صالت وجالت طوال هذه السنوات في الشارع الواصل بين المدخل الرئيسي لدار القضاء العالي بشارع 26 يوليو وميدان التحرير، كانت تجوبه مرّات مع حبيبها تتجاوز معه في خفه سوداويه ظلال الابنيه القديمه والاسطح المظلمه والرائحه العفنه المنبعثه من القمامه المرميه علي الارصفه البائسه بجوار الجدران وخصوصاً في الشوارع الجانبيه، ومرّات اكثر كانت وحدها يغمرها الحزن وهي ترصد التفاصيل المتداخله بين ابنيه شاهقه واخري اصغر متهدمه ومنعزله علي اهلها، فتقول: لا امل في العداله الاجتماعيه. تُحدق في النوافذ والبلكونات علها تري عجوزاً يونانيه من الزمن القديمه تنظر شارده الي لا شيء، او تعد بقايا الملصقات واللوحات التي تتصدر المحلات باللغه الانجليزيه او الفرنسيه او اليونانيه المعرّبه، فتصدمها لافتات متاكله تجري في خلفيتها بعض الفئران الصغيره، تتذكر حين ذهبت الي باب زويله لتصور مشنقته الشهيره والشاهده علي الظلم التاريخي، فوجدتها مخفيه وراء يافطه قبيحه من القماش مكتوب عليها “كفته الحاج عبده” وتحتها جلست البائعات الفلاحات بالبيض والجبنه والفطير تدوس عليهن اقدام “الرايحين والجايين”، وتساءلت: اراد عبدالناصر وطناً جميلاً وكريماً لكل هؤلاء، فما الذي حدث؟ وسالت استاذاً في كليه الفنون الجميله عن هذا القُبح والبشاعه التي تجتاح المجتمع: هل يُعقل اننا حتي الستينيات كنا اجمل؟ وكيف كانت عصور الفراعنه اجمل واجمل كما تقول لنا نقوشهم علي الجدران؟ كيف حدث هذا الانحدار؟ استمع اليها الرجل باهتمام ولما همّ بالاجابه تاتا ثم سكت.

القاهره مثل ايه مدينه كبري تبني موروثها الجيني من شوارعها، لكنها حقاً مدينه تسير نحو الهاويه، لا تستطيع ان تحترم التاريخ، كل شيء شبه مكتمل الرداءه كهؤلاء المتحرشين في شارع شامبليون الذي كان اسمه وابور المياه وتعددت فيه احواض تحليه الماء التي حلت محلها ورش السمكره، ذات مره كانت عائده من ميدان التحرير خلال الـ 18 يوماً الي مقر عملها وبكت كثيراً بعد ان خرج احدهم من تحت سياره يحمل مفتاحاً، كان يبدو عاملاً طيباً يُصلح السياره، لكنه اقترب منها متحرشاً؛ كزّت علي اسنانها وابتعدت خطوتين فرشقها بافظع الشتائم واجتمع معه زملائه يدعمونه وهو يقول: هو احنا ما نشبهش اللي كنتِ معاهم في التحرير، اسرعت تجري حتي دخلت 35 شارع شامبليون مكتب يوسف شاهين واختبات نهاراً باكمله.

وفي احوال اخري، كانت تجلس علي المقهي الشعبي المقابل للقصر الحزين ذو النوافذ المكسوره والمهمله، كانها شبح ينظر الي حياته السابقه، انتابها هذا الاحساس بشكل غامر، علي الرغم من انها ولا حتي اهلها عاشوا في قصر مثله، لكنها كانت تنجذب الي اطلالته الغامضه علي الازمنه المتعاقبه ومصيره الذي جرّه الي عزلته الانطوائيه كما صاحبه الذي بناه، حفيد محمد علي باشا، سعيد حلمي الذي ولد في القاهره وانتقل الي اسطنبول ليصير بعد سنوات رئيساً لوزراء تركيا قبل ان يتم عزله لانه اعترض علي دخول تركيا الحرب العالميه الاولي، وقبل ان تصادر السلطات الانجليزيه املاكه بما فيها القصر الذي صار اسمه كما اسم الشارع “شامبليون”، اسم الذي فكّ رموز الحجر. والحجر اوفي من البشر، ربما لم يتصور العالم الفرنسي جون فرانسوا شامبليون ان القصر الذي صممه اشهر المعماريين الايطاليين “انطونيو لاشياك” واستغرق انشائه 6 سنوات، سيُلقب باسمه، كما لم يعلم ان كشري ابو طارق سيكون اشهر منه.

وحدها تستطيع ان تغير جغرافيا هذا الشارع، فتلعب معه لعبه المسارات الجديده لعلها تتبيّن شيئاً يدل عليها، تُبدل طريقها اليومي وتمتد في الشارع وتدخل وتخرج في حواريه، وتتسكع احياناً امام البنايات القديمه كي تتلمس خيطاً يُقربها من الاولين، فتنسل اليهم في الخفاء حين يغشي الجميع، لم تجد سبباً لتسال عن هذا الانجرار لمجال شامبليون المغناطيسي، بل تنس جزءً منها في كل مره قبل الرحيل: حقيبه صغيره، كتاب، تليفونها الاضافي او حتي كوب الشاي الذي لم ترشف منه رشفه واحده، تعود فتجد ما فاتته الا ذره من رماد روحها، كمفتاح شقتها الذي تنساه تكراراً، فتضطر تجلب نجاراً يُغير الكالون، وفنياً يُغير نسخه ويندوز اللاب توب، وسباكاً يُغير جلده المطبخ، لكن ماذا لو نسيت مفتاح شقتها في الباب من الخارج، او نسيت اللاب توب ذاته علي المقهي، او انها لم تدخل المطبخ اساساً منذ اسبوعين؟

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل