المحتوى الرئيسى

استبطان الزمن

05/29 10:15

هل انتهي عصر اللوحه التشكيليّه؟ يبدو ان سؤالاً كهذا، بحديّته المُفرطه، لا يحتمل الاجابه الا بـ (نعم) او (لا). ولكنّ الاهميّه التي ينطوي عليها تُغري بتخفيف حدّته قليلاً باستبدال هاجس الانتهاء بالاهتزاز، او الزعزعه، او ما يفيد البدء بتحوّل حدّي ما. والسؤال، يستحضر فور طرحه اسئله شقيقهً طُرحت يوماً وتطرح الان وستطرح في المُستقبل. هل انتهي عصر القصّه والروايه؟ هل انتهي عصر المسرح؟.... الخ.

هذه الاسئله كما يشير الدافع الي طرحها تُغيّب جوهر العنصر موضوع السؤال، وتنحاز الي ادوات وكيفيّات الانتاج، ودافعها الي هذا هو الثورة الرقمية التي باتت تطاول بتقنياتها والياتها اشكال الابداع الانساني كافه. ان الحديث عن انتهاء عصر اللوحه يستدعي بالضروره حديثاً عن الكثير من المُنتجات التي ابعدت الالهُ يدَ الانسان عن انتاجها، لكنها شان اللوحه، او اي مُنتَج اخر، لم تفقد استبطانها للزمن الانساني. والمثال الاوضح علي ذلك هو الساعات يدويه الصنع، والتي ما زالت تُنتج وتُوزّع وتُستهلك باسعار خياليه احياناً، رغم اغراق السوق بالساعات الرقميه، مُنفرده، او ضمن الهواتف المحموله.

ان ما يجعل من سلعهٍ كهذه مطلوبه ومرغوبه ليس دقتها التي تفوق بها تلك الرقميه، بل هو الزمن الذي استغرقته اللمسات الانسانيه في انجازها. والذي يثير الشهيّه لامتلاك شيء لن يتكرّر زمن صُنعه ثانيه؛ وان تكرّر زمن الصنع فسوف يكون الناتج شيئاً اخر.

يُضاف الي هذا انهُ ما من قطعهٍ تُحايثُ اخري في لحظه الانتاج كما يحصل في الانتاج الالي؛ فما يُميّز اللوحه الفنيّه، ويمكن اعتباره جوهريّاً في تكوينها، هو الزمن الذي يتوقف. نعم. اللوحه الفنيّه لحظه ابديّه لا قبلها ولا بعدها. انها اضافه علي الوجود لا يمكن تكرارها ونسخها حتي من قِبَل مُبدعها، وان حصل فهما تختلفان في زمنيهما؛ وهذا ما يعطي للوّحه صفه الندره، والوجود علي غير مثال؛ هذا ما يُقدّم نوعاً من الاجابه علي الاسئله الاستنكاريه التي تُطرح حيال المبالغ الخرافيه التي تُدفع كثمن للوحه فنيّه، اذ ان هذه المبالغ ليست غير ثمن الابديه التي سكنتها، والفراده التي ميّزتها. وبالتالي يبدو الهاجس، الذي يدفع الي القلق حول استمرار اللوحه التشكيليّه، وممارستها لدورها، كمكوّن ثقافي فني، امراً مُبالغاً فيه.

ان دخول التقنيه الرقميّه الي ميدان العمل التشكيلي لم يتعدَّ الوسائل ومواد التاسيس (المواد الخام) التي تشكل ارضيّه العمل. ذلك ان الكومبيوتر لا يقوم بالرسم من تلقاء نفسه، انما يضع تحت تصرّف الفنان تقنياته المُحايده التي لا تعدو كونها وسائل انتاج جديده ومُبتكره تمكن مقارنتها بكل الوسائل التي استجدّت عبر تاريخ الرسم منذ الخطوط الاولي داخل الكهوف والمغاور وانتهاءً باحدث المدارس الفنيّه ما بعد حداثيّه.

لقد مرّت اللوحه التشكيليّه عبر تاريخها بالكثير من التبدلات والتغيّرات والانحرافات التي لم تغيّر من مفهومها، رغم ان بعض تلك التغيُّرات قد مسّ جوهر الفعل التشكيلي ذاته بتجاوزه واستبعاده للكثير من المبادئ والمعايير والمقاييس (الوحشيّه - الدادائيه ـ التكعيبيه ـ السورياليه.. التدويريه) وقبلها ما قام به Gauguin(1848ـ 1903) و Van Gogh (1853-1890) من تحرير للخط واللون واخراجهما من قيد الواقع، حيث ان بعض تلك الانحرافات لم تترك من مُشترك مع اللوحه السابقه عليها سوي الاطار وبعض الادوات. ولا اظن بان هذا الهاجس قد يمتلك شرعيّته ومبرّر طرحه الا عندما تنتفي عن اللوحه الفنيّه خصيصه السلعه البصريه التي تمتلك ميزه ايقاف الزمن، والوجود علي غير مثال. وهي تلتقي، في الثانيه، مع احجار كريمه بعينها، كما تلتقي مع بعض اللقي الاثريه.

اجل قد يتوفّر هذا المُبرّر حينما تستطيع الثقافه الرقميه ان تُنتج البديل الفني للعلاقه التي تقوم اليوم بين اللوحه وعين المُتفرّج. اي ان تكرّس ضمن هذه المساحه تراكماً من الخبرات الفنيّه التي تجعل من اللوحه بجوهرها وكيفيتها الحاليتين عُنصراً لا يثير ايّه دهشهٍ او دافع علي المشاهده والتامل؛ وهذا ايضاً امر من الصعب تصوّر حدوثه، وان لم يكن من المستحيل؛ ذلك ان امراً كهذا يقتضي هيمنه كامله للثقافه الرقميه التي تمنح للّوحه، كما لسائر الابداعات الرقميه، مُبرّر الدفاع عن وجودها وضرورتها كاختلاف يقدّم مضامين واقتراحات تشكيليّه تعكس ثقافه رقميّه محضه، وليس ان تكون مُجرّد لوحه رُسمت بادوات رقميّه.

اعود الي القول بانه، كما لا تستطيع اللوحه الخام والفرشاه ان تنجزا لوحه فنيّه وحدهما، فلن يستطيع الكومبيوتر ببرامجه ذات الصله، مهما بلغت من التفوّق التقني، ان يُنجز اللوحه الا بتوجيه وتحكّم من حساسيه وخبره الفنّان الرقمي الذي يقوم بالرسم، اذ ستبقي الادوات الرقميه مُجرّد بدائل عن الادوات التقليديه (لوحه، الوان، رياش، سكين، مِشحَف، بخّاخ،... الخ) وتاكيد علي ان الذي يتغيّر، الي الان، في ظل الثقافه الرقميه وتقنيات انتاجها هو القيم الاداتيّه الاستعماليه، وليست العناصر الثقافيه الجوهريه ذاتها؛ فهذه الاخيره لن تتغيّر الا ان وصل الكومبيوتر وسائر وسائط الانتاج الرقمي الي المرحله التي يستطيع فيها ان يعيد انتاج ذاته، وان يعيد انتاجها، بعيداً عن التدخل البشري.

هنا دعونا نعُد الي التكرارات التي تتعرض للانواع الثقافيه التي يطالها هاجس الانزياح من حقل الوجود والتداول، والتي تُنسَب اليها العصور، عصر اللوحه التشكيليه، عصر الموسيقا الحيّه، عصر الروايه، عصر المسرح، عصر الصحافه المكتوبه،...، الخ للتاكيد علي انّ الملموس، او المحسوس، هو الذي يتعرّض عصره للتهديد بالانتهاء، فالورق والاحبار والقماش وسائر المساحات الماديّه الاخري، تُضاف اليها الادوات التي تخاطب حاسّه السمع، كالالات الموسيقيّه، او السمع والبصر، كالعروض المسرحيّه، هي المهدّده بالانزياح من حقل التداول والاستخدام كوسيط اداتي بين المُنتج والمتلقي.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل