المحتوى الرئيسى

ادريس الشرايبي.. أنا كاتب شبح

05/29 00:30

نظره هادئه وعميقه لعينين لا تستطيع النظارتان الطبيتان ان تخفيا العمق والحكمه التي تحملها، انها نظره رجل يقول ما يريد بدم بارد، حتي لو كان كلامه شبيها بالنار التي تخرج من فم التنين، لا لتحرق احدا، وانما لتجلو الصدا عن افكار ثابته.

هذا هو إدريس الشرايبي الذي كان يجلس قبل سنوات علي اريكه صفراء قديمه، وخلفه جدار طلاؤه لا يلمع بالضروره، يتحدث احيانا كما لو انه معني بكل تفاصيل هذا العالم، واحيانا كما لو ان العالم برمته لا يعنيه، يتذكر مدينته الساحليه الهادئه «الجديده»، ثم يرسل سلاما مبطنا بالشوق لاهل هذه المدينه، يتحدث بالفرنسيه ويحرك يديه كما لو كان نحاتا، يغرد عصفور فجاه علي مقربه منه، فيرد عليه: «سلام يا عصفور»، يقولها بعربيه دبغها التبغ والحنين.

كان ذلك في برنامج قدمته القناه الثانيه في مغربنا الذي تعود اعلامه علي غض الطرف عن كتابنا الكبار، عن الذين مروا من هذا العالم غير متطلبين، ولا راغبين في شيء، زاهدين في كل شيء الا في الجمال، لم تكن رغبه الشرايبي ورفاقه هي ان يغيروا العالم، بل كانوا يحلمون بان يزداد جمالا، بان تعلو قيم الخير، ليتراجع الشر نحو دهاليزه المعتمه.

كاتب من العيار الاكثر ثقلا في الحياه الثقافيه، عاش حياه شاسعه اتسمت بالحكمه والرزانه وعمق النظر، كما اتسمت بالتمرد والشغب والسخريه، اجمع عدد كبير من النقاد علي ان روايته «الماضي البسيط» هي التي ادخلت الادب المغربي الي الحداثه، يقول عنه الطاهر بن جلون: «لقد كان افضلنا، انه استاذنا… وروايته الاولي عمل رائع يعادل روايه الغريب «لالبير كامي».

ولد ادريس الشرايبي عام 1926 في مدينة الجديدة، المدينه الجميله التي تبتعد عن العاصمه المغربيه ساعتين من الزمن، عاش 81 عاماً من الحياه والادب، منتصرا للقيم الجماليه ومنتقدا كل النقط السوداء علي خريطه بلاده، غير ابه لعواقب الكلمات.

روايته الشهيره le Passé simple الصادره لدي «دار غاليمار» عام 1954 اثارت زوابع كثيره في فتره صعبه كان المغاربه يستعدّون خلالها للاستقلال ولطرد الاستعمار الفرنسي من بلادهم، اذ جاءت ضد الافكار الجامده والتقاليد المغربيه المتجاوزه، ذلك ان بطلها الشاب يحلم بتنسم هواء افضل في ارض اخري، في فرنسا بالتحديد، حيث يمكن للطيور ان تحلق في سماء اكثر علوا وشساعه.

اتهم المثقفون و«الوطنيون» المغاربه ادريس الشرايبي، حينذاك، بالخيانه، فيما تلقت الاوساط الفرنسيه الروايه بحفاوه لا تخلو من حذر، كالذي يكنّه دائما ربان سفينه ما لراكب جديد ينحدر من شمال افريقيا، الا ان هذه الروايه ستجد بالتدريج مكانها في الازدحام الادبي الفرنسي لتصنف كواحده من الروايات المهمه في القرن الماضي.

وضع الشرايبي قدمه في فرنسا عام 1946 لدراسه الكيمياء، ورغم تميزه في هذه الشعبه وتخرجه مهندساً كيميائياً، كان يري انها تبعده عن الروحيات، لذا غيّر طريقه بشكل فجائي وعبثي ليشتغل في مهن لا علاقه لها بالكيمياء او الهندسه، فكان مره حمالاً ومره حارسا ليليا واخري عاملا بسيطا، بل امضي ايضا فتره في تدريس اللغه العربيه.

ربما المجال الوحيد الاقرب الي الادب الذي اشتغل فيه الشرايبي هو الصحافه والاعلام، حيث عمل منتجا في مكتب الاذاعه والتلفزيون الفرنسيين، وقام بتسيير برنامج Les dramatiques في قناه France culture مده ثلاثين عاماً، ودرّس الادب المغاربي عام 1970 في جامعه لافال بكندا.

بعد «الماضي البسيط» اصدر الشرايبي، غالبا عن «دار غاليمار»، عددا من الاعمال المهمه جعلته يتخذ موقعه كرائد بلا منازع للادب المغربي المكتوب بالفرنسيه: «الحمار» 1956، «من كل الافاق» 1958، «الحشد» 1961، «انتقال مفتوح» 1962، «صديق سياتي لرؤيتك» 1967، «الحضاره امي» 1972، «موت في كندا» 1975، «تحقيق في البلاد» 1981، «ام الربيع» 1982، «رجل الكتاب» 1984، «مولد في الفجر» 1986، «المفتش علي» 1995، «المفتش علي و C.I.A» 1996 «قرا، نظر، سمع» 1998، «العالم جانبا ـ سيره ذاتيه» 2001، «الرجل الذي جاء من الماضي» 2004.

قبل اشهر من وفاته، كان الشرايبي يشهد احتفالا اقيم من اجله في مدينه الجديده، مسقطه، عبّر فيه عن سعادته وتاثره بالحفاوه التي تتسم بالبساطه و «غياب لغه الخشب وحضور المسحه الانسانيه المنبعثه من الانسان تجاه اخيه الانسان»، واضاف مفسرا سبب سعادته: «لقد جئت لاعانق مجددا جذوري العميقه والامكنه التي ولدت فيها وامضيت طفولتي، والمحيط الاطلسي والعصافير التي ربما هي نفسها التي كانت قبل ثمانين سنه»، فيما سجل الراحل عبد الكبير الخطيبي خلال ذلك اللقاء ان رجوع الشرايبي من حين الي اخر الي الجديده يعكس ارتباطا وجدانيا بالتاريخ والذاكره، وتوقف ايضا عند التداخل الثقافي المثري للكاتب وبعض سمات اعماله السرديه كالشخوص المفعمه بالحركيه والجمل المتسمه بالسرعه والايقاع.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل