المحتوى الرئيسى

هل انتهت اللوحة التشكيلية

05/29 00:30

في احد حواراته مع مجله «لونوفيل اوبسرفاتور» الفرنسيه سنه 2012، سئل العالم السيميائي الايطالي امبرتو ايكو عن مدي تخوفه من الثورة الرقمية، وارتباط ذلك بالكتاب وصناعته وتداوله علي نطاق واسع؟ فكان جواب صاحب «اسم الورده» كالتالي: «لا اخاف من الرقميه. ان اختراع الطائره لم يلغ القطار. والتصوير الفوتوغرافى لم يدمر الرسم او اللوحه (...) لو اردت الاحتفاظ بصوره جدي فلن ابحث، بكل تاكيد، عن رافائييل، بل ساتوجه عند المصور الفوتوغرافي (...) لكن ثمه دوماً اناس يشترون اللوحات الفنيه كي يعيشوا في جو ممتع». وارتباطاً بالموضوع نفسه، يشير في جواب اخر من الحوار نفسه انه «في صحراء الثقافه الظاهره، ليس كل شيء حزيناً وسوداوياً. انها قضية نسبيه. يقال ان لا احد يقرا اليوم، لكن لو ذهبت الي دور النشر او الثقافه كدار الفناك، لوجدت ان هناك 400 شاب يقراون. في فتره شبابي كان هناك اربعه فقط هم الذين يقراون».

ما نستشفه من جواب ايكو، بخصوص صناعه الكتاب علي المستوي الغربي، يكاد ينطبق، بشكل كبير، علي واقع اللوحه والعمل الفني بصفه عامه في وقتنا الراهن، مع امتياز، تكاد تختص به اللوحه علي غيرها من المنتجات الابداعيه، خاصه في لمستها التجريديه - التي ما زالت تحظي بمكانه المنتوج النخبوي العالِم - وهو انها، علي عكس الكتاب، تتمتع بالفراده وبخاصيه الالتباس، وبقابليه كبيره لتصريف الغموض ونقله واشاعه كثير من تجلياته، وهو الغموض الذي قد يُقبل عليه الجمهور العريض، حتي عندما يجد بعض افراد هذا الجمهور انفسهم وجهاً لوجه امام «عائق» الفهم وعدم استيعاب ما تقدمه اللوحه الفنيه من معانٍ.

هذا الواقع يؤكده عدد من الشواهد الفنيه التي تحتفظ بها ذاكره المشاهده حتي اليوم، علي الاقل فيما انتجه فنانو القرن العشرين الغربيون، بدءاً من بيكاسو وخوان ميرو، مروراً بفرانز كلاين، وصولا الي انطونيو طابياسوسولاج...، ممن راهنوا علي اقتراح ايقاع ووعي صباغيين بصريين يستثمران في الغامض والهش والعابر، وفق تصور يميل الي التعبير الاشاري اكثر منه الي البوح الواضح والصريح. والنتيجه ان كل ما انتجه هؤلاء العباقره، وغيرهم كثير، احتفظ به تاريخ الفن وهواته ومحبوه باعتباره لحظه ابداع رفيعه، علي الرغم من استعصاء الوصول الي معانيه او الي طموحاته الافهاميه. مجرد خطوط وعلامات ولطخات لونيه وتكوينات هلاميه، كانت تحمل، في طرق صياغتها، سر ادهاشها وفتنتها، الامر يشبه ـ الي حد ما ـ غموض رائحه العطر، وارتفاع معاني السوناتات الموسيقيه، التي ابدعها عباقره الموسيقي الغربيه الكلاسيكيه علي وجه التحديد.

هذا الواقع يختلف اختلافا شديدا علي ما عاشه ويعيشه العالم العربي، علي الاقل في ارتباطه بفن التصوير الصباغي والرسم والتشكيل عامه. فاذا كان الغرب قد حرص علي تطوير لوحته الفنيهالصباغيه، بدعم من الكنيسه والنبلاء، في الوقت الذي كانت فيه القاره الاوروبيه تعيش علي هامش الحضاره، فان العرب، وبحكم اعمالهم - بشكل متطرف احيانا وساذج احيانا اخري - لسلطه تاويل النصوص المؤسسه لوجدانهم الروحي، لم يولوا هذا الجانب ما يستحق من اهتمام، اما بخلفيه «الترفع» عن التشبه بالخالق صانع الكائنات، كما كان يفسر ذلك علماء المسلمين من العرب، او ان تعاطي الفنون يقتضي - حسب ابن خلدون ـ «اكتمال العمران الحضري وكثرته، ما دام الناس، وما لم تستوف العمران الحضري وتتمدن المدينه، انما همهم الضروري من المعاش، وهو تحصيل الاقوات من الحنطه وغيرها». كما ان «الصنائع والعلوم هي للانسان من حيث فكره الذي يتميز به عن الحيوانات، والقوت له من حيث الحيوانيه والغذائيه؛ فهو مقدَّم لضروره علي العلوم والصنائع، وهي متاخره عن الضروري. ذلك انه علي مقدار عمران البلد تكون جوده الصانع للتانق فيها حينئذ، واستجاده ما يطلب منها بحيث تتوفر دواعي الترف والثروه». والنتيجه ان علاقتنا باللوحه ـ في انتظار الوعي بقيمه الفنون وتحقيق الرفاه - بقيت علي الهامش، ولم يتم الانتباه الي هذا الثقب المعيب في وجداننا وفي ثقافتنا البصريه الا في مرحله متاخره، حينما اصبحنا خاضعين لاستعمار الغرب، خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.

من هنا تتبدي علاقه نخبتنا (وليس العامه) بالفنون التشكيلية عامه وباللوحه الصباغيه، في بعدها التجريدي تحديداً، باعتبارها علاقه لم تتخط بعد عتبه التمثل الساذج والاستيعاب الحذر، وفي احسن الاحوال لا ترقي الي مستوي الانطباع الايجابي الذي قد يتجاوز مرحله التردد الجاهل لان هناك ممن ما زال ينظر اليها، بسبب تاخر بل غياب ثقافه بصريه تعليميه، بغير قليل من السخريه التي قد تصل حد النفور، مما ينم عن عسر في الاستيعاب وفراغ في التاقلم.

فما قد يصدق، افتراضاً، علي واقع اللوحه لدي الغرب، لا ينسحب، بهذا القدر او ذاك، علي واقعنا العربي، علي اعتبار اننا ما زلنا في طور التاسيس لقيم جماليه قد تقودنا، ليس الي تحقيق اشباعنا العاطفي والوجداني وتطوير وعينا البصري وحسب، وانما ايضا واساسا الي التدشين لمصالحه تاريخيه مع اللوحه ومع الفنون عامه، مع ما يتطلبه ذلك من استحضار متواصل ومتواضع للمجهودات التي راكمها الاخر في صناعه ورعايه موضوع الجميل عبر مراحل تاريخيه متواتره.

فلطالما تعاملت الحضاره العربيه الاسلاميه مع فن التصوير بغير قليل من التجاهل الذي كان يصل الي حد الاعدام. اذ تكفي الاشاره هنا الي تلك المصاحبه الفنيه العجيبه التي قام بها الواسطي لشرح مقامات الحريري تصويريا، دونما اي احتفاء بمجهوده الفني ولا حتي ذكر اسمه. بل ان كراهيه بعض فقهاء العرب المسلمين للصوره بلغت ببعض غلاتهم الي درجه الدعوه الي محو رؤوس الشخوص والحيوانات الممثله في الصور مخافه تماهي اصحابها مع الخالق، مثلما يبدو ذلك واضحا علي منمنمات احدي مخطوطات المقامات التي تحتفظ بها خزانه السليمانيه باسطنبول. اذ يظهر ان يداً «كارهه للصور» (حسب تعبير الباحث المغربي عبد الفتاح كيليطو) قامت بمحو رؤوس الشخوص من كل صوره، انسجاما، علي ما يبدو، مع منطوق حديث شهير لعبد الله بن عباس، دعا فيه رساما فارسيا الي قطع رؤوس الحيوانات التي كان يرسمها «حتي لا تبدو حيه»!

المفارقه ان العرب انتظروا اكثر من سبعه قرون ليجود الغرب علي فنانهم المهمل الواسطي بشهاده ميلاد فنيه، جعلت منه احد اكثر الاسماء تداولا في مجال التصوير الواقعي، الذي لم يكتشفه الفنانون الاوروبيون، كاتجاه فني، الا خلال القرن التاسع عشر.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل