المحتوى الرئيسى

الشعر والشعراء في الحانات... حياة ثانية

05/29 00:30

المكان: بيروت، شارع الحمراء. الزمان: اواخر التسعينيات، الحدث: قراءه الشعر. من منّا لا يتذكر حانه الـ «شي اندريه» التي كانت تتوسط الشارع الطويل، المليء انذاك بالمقاهي والحانات (قبل ان تتحول الي محال لبيع الالبسه). كنّا ثله من الصبايا والشباب الباحثين عن مكان يستوعبنا ويحضننا ويثني علي شعر كتبناه علي مسودات، قصائد تشبهنا وتجسّد واقعنا واحلامنا انذاك. كنّا نفتش عمن يسمعنا ويعترف باننا بتنا نستحق الانضمام الي شعراء المدينه. نحن القادمون من قري وبلدات جنوبيه حتي فلاحيها يتّقنون الشعر العمودي والموزون، لم نتلذذ بالاستماع الي نصوص الشعر الحديث والمنثور فحسب بل بدانا نكتبه ايضا (بعدما مررنا بشعر التفعيله) وهناك في هذه الزاويه المضيئه بنور خافت، والتي تتسع لعشرين شخصا علي الاكثر يصطفّون علي البار الخشبي في مواجهه المراه الكبيره، او علي الكراسي المرصوفه قرب الزجاج المطلّ علي باحه خارجيه، اجتمعنا بتلقائيه وبلا موعد او تصميم، جلسنا متلاصقين متلهفين ومصغين لقصائد شعراء معروفين واخرين جدد وقارئين لقصائدنا التي طالما حلمت بجمهور لا مسافه بينها وبينه سوي اصغاء اليف لا زيف فيه. جدران الـ «شي اندريه» القليله التي تعلقت علي ظهرها صور لرواد مشهورين من ممثلين ومغنين لبنانيين وعالميين ورسامين ومثقفين مع تواقيع تؤكد مرورهم تعلّقت علي مسامعها ايضا قصائد لشباب كانوا يكتبون الحياه ويحملونها علي اكفّهم ويركضون بها دون ان تقع.

يتذكر الشاعر «يوسف بزي»، ذاك الزمن بل لا ينساه ابدا (لهجته الشغوفه في الحديث عنه تشي بحنينه) حين اراد وصديقه الشاعر «يحي جابر» ان يستعيدا دورهما الثقافي والاجتماعي بعد انقطاعهما عن المدينه بسبب السفر. هذه الغربه اسست لنوع من قطيعه مع صيروره المدينه وسيلانها وتطورها، فبحثا عن وسيله تعيد علاقتهما بالمدينه علي الصعيد السياسي والاجتماعي والثقافي والصحافي ايضا. عملا علي اعاده الوصل بينهما وبين المشهديه بصورها الغزيره حين بدات اصوات شابّه جديده بتداول نصوصها ونشرها. كانت الـ «شي اندريه» المكان الذي ساعدتهم ضالته وصغر مساحته علي مصادرته كل ليله جمعه، وايضا هو المكان الذي ايقظ مشاعر الحنين لمرحله الشباب الاولي عند الشاعرْين. «يوسف بزي» احتاج الي مناخ يعيد لديه الطاقه لكتابه الشعر. والاستماع الي شعر الاخرين، برايه، هو تعلم اخر للكتابه «فالكتابه عدوي، وتداول الشعر غذاء». اما اختيار «الحانه» فكان من جهه لتحطيم وثن الامسيه الشعريه بشكلها التقليدي التي لا تبعث الّا علي الضجر بمنبرها والتكاذب الاجتماعي الذي يتبادله المجتمعون فيها والتراتبيه التي يصنف علي اساسها الشاعر العظيم والموّقر وكل هذا مقابل الصمت والتحفظ الجماهيري والتصفيق المريب. ومن جهه اخري لمزج ثقافه الكحول واللهو والليل مع الثقافه الكلاميه المتجسده بالشعر والنصوص. مع الوقت كُرّست سهره الجمعه لكل من يود قراءه اشعاره دون شرط، امتلات الحانه وباحتها الخارجيه بمحبي الشعر وبقارئيه وبكاتبيه وبسواح اجانب. كتبت الصحف عن نشاط الحانه فانتقلت الفكره الي بعض الدول العربيه كسوريا ومصر وتونس واليمن. مجموعات شعريه عديده لشعراء شباب ولدت بين الحشد والبوح والضحكات والبكاء احيانا. نشر غسان جواد «تمرين علي الاختفاء»، وناظم السيد «برتقاله مقشره من الداخل» واحتفل بتوقيعها في باحه الحانه، ومحمد بركات «الارض في مكانها»، ومازن معروف «كاميرا لا تلتقط عصافير»، وزكي بيضون «جندي عائد من حرب البكالوريا»، ورامي الامين «انا شاعر كبير»، ومحمد الامين «خطوط بيضاء نحو المنزل»، وفيديل سبيتي «تفاحه نيوتن». حين ضاقت الحانه بروادها انتقلت القراءات الشعريه الي اماكن اوسع. منها الـ «ريغوستو» و «التايم اوت» و «التورينو» في شارع «الجميزه». هناك في هذا الشارع المعروف بثقافته «الفرنكوفونيه» وبسهراته البعيده كل البعد عن الشعر، قرر الشاعر والرسام «سمعان خوام» برفقه صاحب دار مختارات «جورج فغالي» احداث فرق. فبدات القصائد تصدح من حانه «ليلي» التي تميزت بمكتبه غنيه تهب الكتب لمن يريد. احيا المطران «جورج خضر» افتتاح الامسيات بقصائد كتبها في شبابه. «كما افتُتحت الحانه بفرح كذلك اٌغلقت بفرح» يقول سمعان.

«اطرق بقوه، الحياه صمّاء» بهذا الشعار كان يستقبلنا الباب الخشبي المنحوت بزخرفه رقيقه لـ «جدل بيزنطي». هناك طرات بعض التغييرات علي مشهد الامسيه، ادخل الميكروفون ونظّمت القراءات الشعريه بحيث حدّد اسم الشاعر القارئ وصار يسمي «ضيفا»، وكتب نص لتقديم الضيف وحدد من سيقوم بتقديمه، ونشر خبر الامسيه في الجرائد، ودعيت اسماء معروفه وكُرّم شعراء مخضرمون منهم عشره شعراء قدمت لهم دروع برعايه وزاره الثقافه. اتخذت الاماسي اشكالا اكثر جديه وتنظيما، افقدتها عفويتها دون ان تخلع عنها الغايه المرتجاه منها. لم يُعرف «جدل بيزنطي» الذي كان يملكه انذاك الرسام «محمد شمس الدين» والشاعر «شبيب الامين» (ولاحقا بقي شبيب لوحده) الّا من خلإل ألامسيات التي ذاع صيتها، ولم تمتلئ طلعه «كاراكاس» ليله الجمعه بالسيارات الاّ بسبب الشعر ومحبيه. «شبيب» وبعض الاصدقاء الشعراء والصحافيين مثل «ناظم السيد» و «غسان جواد» و «اسكندر حبش» كرّسوا جزءا من وقتهم وعلاقاتهم مع الوسط الثقافي لانجاح هذه الامسيات، شاركوا في اختيار الضيوف الشعراء والتواصل معهم وتقديمهم والاعلان عن الحدث في الجرائد. استضاف المقهي او الحانه (شكله يتراوح بينهما) شعراء لبنانيين وعرباً والماناً وفرنسيين، اكثرهم ترك علي جريده الحائط المعلقه علي يسار المدخل قصائد او افكارا او رسائل للذكري.

يتذكر الشاعر «عماد بدران» الفتره التي بدا فيها باقامه نشاطات شعريه في امسيات بيروت الثقافيه عام 2010 برفقه صديقه الشاعر كامل صالح. كانت الفكره ان يكون هناك منبر للجميع بمن فيهم الشعراء المبتدئون. وقبل الوصول الي «زوايا» مرّوا عبر «شبابيك» ثم «درابزين». يقول عماد: «المقاهي اقفلت الواحد بعد الاخر بسبب الوضع الاقتصادي المتردّي الي ان استقرينا في مقهي «زوايا» حيث نقيم امسيه مره كل اول خميس من كل شهر». يعيش الشاعر «عماد بدران» هذه التجربه برفقه اصدقائه الشعراء بشغف بالرغم من ان لا دعم او مساعده يتلقونها من اي جهه رسميه او اعلاميه. «استمرينا بدعم الاصدقاء ومحبي الثقافه والشعر في بيروت». اما الشاعره «انعام فقيه» التي جاءت مشاركتها في تنظيم هذه الامسيات كردّ علي حاله الاحباط التي اصابتها بسبب اللاتفاؤل بمصير المشهد الثقافي والشعري في لبنان ومحاوله لفك حاله عزله دخلت فيها بعد ان فرغ المكان من الاصدقاء بالسفر وانصرافهم الي مشاغلهم، تري بان الامسيات الشعريه في «زوايا» كانت تخلق لها ولرفاقها جوا من المتعه وساعد في تشكيل الحاله ازدهار الاقبال علي مواقع التواصل الاجتماعي. ولكن بعد ثلاث سنوات من المشاركه فيها والمبادره اليها تقول: «اليوم اجدني علي مسافه من كل ما يجري في شارع الحمراء من انشطه ثقافيه لاسيما وقد بدات هذه الامسيات يسيطر عليها روتين التنظيم والافكار المفلسه في المشهد الثقافي العام ووقوعه في صف ثان او عاشر من اهتمام مراكز القرار والاستثمار فيه». كان العمل التنظيمي بالنسبه للشاعره يحتاج الي الكثير من الوقت والي ذهنيه عمل الفريق والتفاني لاجتياز قبل كل شيء تداعيات الازمات السياسيه والاقتصاديه والاجتماعيه.

هل من الممكن محاكمه شعر الحانه او المقهي بالمعايير المهنيه التي تلتزمها الصفحات الثقافيه للنشر؟ يجيب الشاعر «محمد ناصر الدين» بانه من الصعب اجراء هذه المحاكمه لان المقهي هو فضاء مفتوح يمتزج فيه سماع الشعر بالترفيه والرسم والموسيقي. «محمد» الذي لم يكن يحبّذ فكره الشعر في المقهي، اكتشف عالما جديدا بعد خوضه لهذه التجربه كقارئ وكمنظّم في منتدي «شهرياد»، الفكره في مخيلته ذكرتّه بتلك الاسواق في المدن حيث يحضر اهل القري ببضاعتهم وينصهرون في فانتازيا من الصوت والالوان. امسيات «شهرياد» تجمع في سهره الثلثاء شاعره وشاعرا، ورساما وموسيقيا. وصلت اليوم الي امسيتها السبعين، وعاشت كل اشكال الشعر من كلاسيكي وتفعيله، الي قصيده النثر. يري «ناصر الدين» ان ميزه «شهرياد» تكمن بانها مشروع يدار باقل قدر من الامكانيات، ويتم تنظيمه ببساطه مطلقه، بالتواصل مع اي شاعر وشاعره يتوفر لديهما كتاب مطبوع. هل كان اختيار الشعراء صائبا في كل مره؟ يعتقد «محمد» ان التجربه اتاحت اكتشاف اصوات جديده وشابه خصوصا، رغم ضعف الاختيار في بعض الاحيان. «تثبّت عندي شخصيا ان الشعر لم ينته، وانه تواصل بين الاجيال، وان القماشه الثقافيه التي تنسج عليها القصيده الشابه ليست زهيده وتافهه كما يٌشاع». اما الشاعر «رامي كنعان» احد مؤسسي «شهرياد» فله راي اخر، يري بان الفكره حادت في بعض المواقف عن الهدف من لياليها، كان المشروع تطوّعيًّا بالمطلق، وسعي لاشراك الشباب من الشعراء في التكتّل حوله». ولكن هل نجح في ذلك؟. يري الشاعر في ان ان احد اهمّ اسباب تردّي مستوي ما يقدّم اصرار البعض علي ان يكون الضيف صاحب كتاب مطبوع. وان تكون الاماسي لاثنين شاعر وشاعره. هل نجحت الامسيات في ان تقدم معروفا للشعر؟ يظنّ «رامي» انّه من المبكر التحدث عن هذا الموضوع ولكنه يصرّ علي انه وبالرغم من ان هذه الامسيات استطاعت ترسيخ اسم لها في الوسط الثقافي، انّما كان ينبغي تلقّف هذه اللحظه للارتقاء بالمشروع نحو افق جديد.

انتقلت عدوي الشعر والامسيات الي بعض المقاهي خارج بيروت، الشاعر «سليم علاء الدين» اسس ملتقي «اصل الحكي» الذي يقيم نشاطات دوريه في مقهي «ميس الريم» في عرمون (مرتين في الشهر)، وفي مقهي «عتاق» في حاصبيا ومطعم «افندم» في عكار (مره في الشهر)، كما يتم التحضير لافتتاح فروع في مناطق اخري كالنبطيه واميون وكسروان وغيرها. يري الشاعر «علاء الدين» ان الامسيات الشعريه لم تنتقل من المسارح والمراكز الثقافيه الي المقاهي والحانات، فالحالتان موجودتان اصلا، ولا تزالان مستمرتين. هل قراءه الشعر في الحانات قلّلت عدد المريدين او بالعكس؟. يجيب سليم: «هذه الليالي تنزل الشعر ليحيط بالناس وتقرّبه منهم فنجد جمهورا مختلفا خاصه حين تخرج من بيروت الي المناطق الاخري حيث تجد تعطشا لهذه الحالات الثقافيه العامه، اضف الي ذلك الشعراء والاصدقاء الذين يتابعون هذه الامسيات مهما كانت المسافه التي تبعدهم عنها». الشاعر «زياد عقيقي» يحتفل بالشعر ايضا كل اول اربعاء من كل شهر في مطعم «وادي السمر» في منطقه «برمانا». امسيات «قناديل سهرانه» تستضيف شاعرين الاوّل من القناديل (اي من متتبعي صفحه قناديل سهرانه علي الفايسبوك) والثاني من خارجها. يعّلل «عقيقي» انتقال الشعر من المسارح الي الحانات والمطاعم الي سبب ماديّ كون المطعم يقدّم المكان والتجهيزات مجّاناً لقاء سعر المشروبات والماكولات التي يطلبها الحاضرون وهم منعوا اي طلب اثناء القاء الشعر وسمحوا به بعد الامسيه. يعترف الشاعر بان الفكره انتقلت اليهم من مقاهي «الحمراء» الادبيّه، وفي كل الحالات يصنّفها بالجيّده برغم اختلاط الامور بين الاكل والشرب واللهو والشعر.

علينا الا ننسي بان هناك الكثير من الامكنه القديمه التي حضنت سابقا الشعر وسكّانه واخري جديده ما زالت، لم تذكر هنا في هذا التحقيق، وذلك ليس الا بسبب ضيق المساحه المتاحه للكتابه عن الجميع، لن ننسي حانه الـ «ريغوستو» و «البارومتر» و «الدينمو» والـ «الكوردس»، و «باردو»، ومقهي «ه» ومطعم «ابو حسن» و «حانه ابو ايلي» وغيرهم.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل