المحتوى الرئيسى

صفاء الليثي تكتب: لماذا أنا رومانسية؟

05/25 10:05

في جلساتنا الاسريه نتجمع ونلعب، نتبادل التعريفات، تقول اختي انت رومانسيه، وقبل ان تختفي الابتسامه التي ارتسمت علي وجهي وتعبير الخجل مما اعتقد انه مدح، تُكمل: الرومانسيه تخلف يا صفاء.

ماتت امي ولم اكمل الثانيه عشره، وتقاسمنا شئون البيت انا واخوتي.. كنت مكلفه بشراء الطلبات، بينما اختاي الاكبر تطبخان وتقومان علي شئون البيت، كنت كالصبي الذي لا يمنعه احد من الخروج، وكنت احب التنزه، كنا في احد احياء المعادي الشعبيه وصديقاتي في احياء ارقي، نلتقي ونتمشي علي شاطيء النيل، نصفق علي سور الكورنيش، فتقفز الاسماك عاليا، كان النيل ممتلئا بالطمي من الفيضان والمياه تصل الي الاسفلت، نيل جامح بامواج كما البحر، لم يكن بناء السد قد اكتمل، وكان النهر في عنفوانه.. اذكر ان موجه من التنصر لعدد من المسلمين حدثت، وكانت حديثا بيننا دون فهم، كانت لي صديقه مسيحيه اسمها مرفت، ذكيه ومتفوقه، كانت تاتي معي الي منزلنا النظيف والمرتب، تقلب معي الكتب التي كان يحضرها لي اخي، الاخ الوحيد لاربع بنات، كنا نضحك.. اربع بنات وضابط كما الفيلم. مرفت قالت ان المسيحيه كتابها العهد الجديد يكمل كتاب اليهوديه العهد القديم، قلت بسذاجه وجاء القران ليختمها جميعا، فانفجرت مرفت في ضحكه عاليه، احسست بسخريتها، لكني سكتت وغيرت الموضوع، هي ضيفه في بيتي وهناك الكثير مما يمكن الاتفاق عليه، اريتها كتابي ذو الغلاف البرتقالي وقرات معي الاهداء “ذكري صداقه يوم ستمتد اكثر، وشاي جميل وسمك رائع”.. كان لاخي صديق سوري هو الفنان “نزير نبعه” جاء لزيارتنا وقدمنا له طعاما من السمك المشوي، اهداني الكتاب الذي اصبح مرجعا لكل اطفال الاسره “حكايات شعبيه روسيه ” مجلدا بالاحمر البرتقالي  ويحوي قصصا رائعه، كانت الترجمه من الروسيه الي العربيه مباشره، اذكر تعبيرات مازالت محفوره في راسي “ولابد مما ليس منه بُد” بد بضم الباء، لغه عربيه بذائقه مختلفه احببتها من كتاب الاطفال المترجم من الروسيه في الحقبه السوفيتيه، احتفظت به وكان احد مكوناتي الثقافيه والمعرفيه المهمه، حتي اهديته لابني طارق الذي اعاره لاستاذه  بمعهد السينما علي بدرخان، ولم يعده، فقدنا الكتاب – وبالمناسبه ارجو من الصديق علي بدرخان ان يعيده الينا فهو ارث العائله التي لا يتوارث افرادها سوي عدد لا باس به من الكتب وقليلا من الاقلام التي كان ابي يهوي جمعها- نزير نبعه كان اخي يراسله ويكون اسمه علي المظروف نزير نبعه المحترم. رزق بصبي اسمه عمار وحين زارنا كنا نملا له طشتا بالمياه ونجلسه بداخله، لم يكن هناك تكييف والطفل ات من سوريا حيث المناخ معتدل وليس حارا كما القاهره. اطلق نزير علي ابنته اسم صفاء ، قد تكون مصادفه، لكن لغروري الذي حدثتكم عنه -سابقا – ظننت انه اسماها علي اسمي وسعدت بذلك.

في مرحله قويسنا كنا نقرا الاخبار التي يشتريها ابي، وعندما انتقلنا لرعايه الاخ بعد زواج ابي وبقائه بقويسنا ورحيلنا نحن الي القاهره، اصبحنا نقرا الاهرام التي يقتنيها اخي، انتقلت تبعيتنا الثقافيه من الاخبار والمصور واخر ساعه، الي الاهرام وصباح الخير وروز اليوسف.. لم يعد ابي يحكي لي قصص القران الكريم، بل اصبحت اقرا ما يقراه الكبار من الادب العالمي المترجم والمسرحيات العالميه.. اعتراف لابد منه، كنت اقرا فصول “الحرب والسلام” التي تتناول الاسره والبطل سمكتونفسكي فارس احلامي منذ المراهقه، لاحظت ان فصلا يتناول الحرب وفصلا للسلام، كنت لا اقرا فصول الحرب واتابع قصص الحب والاسرات الارستقراطيه واعيش في عالم الروايه العظيمه.. لم اكرر الامر واعتبرت انها خطيئه وحيده يمكن ان اغفرها لنفسي، ولا داعي ان ابوح بها لاحد. ولم احتج الي فعل ذلك مره اخري، بل كنت اقرا واحفظ بعضا من نصوص ما اقراه عن ظهر قلب كتاب سلامه موسي المبسط عن دارون وتوقفت عند فقره كتبتها في الاوتوجراف لصديقه لي “وهكذا فان استمرار الحياه مستمر لاستمرار الصراع بين الكائنات فيها، ولو ساد الخير فلا حياه ولو ساد الشر فلا حياه”، وكانت الحكايه عن طائر الدؤدؤ الذي لم يجد له اعداء يدفعونه الي الحركه فسمن ثم انقرض.

وقرات د. هـ. لورنس وتصالحت مع فكره الجنس التي كدت اكرهها من سماعي لالفاظ الشتائم القبيحه التي كنت اربط الفاظها بايات من القران يتلوها ابي بصوت ظاهر: “وانكحوا ما طاب لكم من النساء” النكاح وابن…. التي كانت ترتفع في الشوارع في قاهره المعز بشكل شائع بين الناس.

لم تكن قصص احسان عبد القدوس او يوسف السباعي في بيتنا، ولم اقراها الا بعد ان بدات بيوسف ادريس وتشيكوف، وكانت وفاء تحفظ قصته “عنبر رقم 6″ عن ظهر قلب، اما انا فكانت الام لماكسيم جوركي وخاصه شخصيه البطل الثاني هي كتابي المقدس وحفظت منه: “انني استطيع تحمل كل شيء، ومكابده اي شيء، لان لدي فرحا عظيما لا يستطيع اي انسان، او اي شيء ابدا مهما كان ان ينتزعه مني، وهذا الفرح هو مصدر قوتي”.. المقربون مني كانوا يرونني هكذا حتي ان وفاء اعتقدت انني من الفت هذه العباره.

لم اكن اعيش الحقيقه.. كانت حياه الروايات هي حياه موازيه اعيشها، لاحظ الفنان احمد نور الدين هذا وفي الاوتوجراف كتب لي: “ودائما عيشي الحقيقه، ولا تدفعي اكثر مما تملكي”، وسيتكرر هذا في محطات كثيره من حياتي واسمع من يقول لي: الحياه ليست كالافلام.

في سينما قويسنا كنا نشاهد افلام عرض الخميس، حيث الفيلم الاجتماعي الجبار، اقوي ما انتجته الشاشه العربيه حتي الان، يمر عنتر بعربه عليها الاعلان، وبعد دقات علي الطبله يقول ما سبق في الميكرفون.. كنت واختي الاصغر نكتب كلمات الاغاني وكاننا نوثق لحياتنا الجميله في كراسه مازلت احتفظ بها، هي تسليتنا في الاجازه الصيفيه الطويله.. شمس وقمرين رب يخللي، يا رموش العين سمي وصلي.. صباح ترعي اطفال عماد حمدي وتعوضهم حنان الام نظير ايوائه لها، يبدو انني حلمت كثيرا وتمنيت ان اكون اما لشمس وقمرين، بنت وولدين، اكبر اكثر واتعلق بشاديه وعبد الحليم ودويتو، تعالي اقولك، وقع كلمه دويتو علينا ونحن صغار وقعا محببا استعيده الان واتذكر كل الثنائيات الغنائيه الرائعه من عبد الوهاب وحكيم عيون، وليلي مراد ومحمد فوزي في حاجه شاغلاك ، شاديه وفريد الاطرش ويا سلام علي حبي وحبك، وعد ومكتوبلي احبك، حين قدم يوسف شاهين دويتو في فيلم رومانتيك كوميدي يليق به وبتجربته “انت حبيبي”، ومنها الي وطني حبيبي يا وطني الأكبر، الاغاني الوطنيه الرومانسيه عن الوطن وامجاده التي تكبر، اكبر انا في ظل حكم عبد الناصر وحلم الاشتراكيه، دون فهم اندمج في طابور الاستعداد للحرب واغني بصوت يشق صدري “يا اهلا بالمعارك، ويا بخت مين يشارك، بنارها نستبارك، ونرجع منصورين، ملايين الشعب تدق الكعب…” ادق كعب الحذاء بقوه في الارض واتخيل عوده جنودنا منتصرين.. قطع حاد واسمع صرخات ترفض التنحي، يعلق اخي: تعال هنا زي ما وحلتنا تخلصنا، وقطع اخر وجار لنا يعمل مع الحكومه ويتحرك دائما بجلباب ابيض اسمعه يولول كما النساء: يا ريس.. يا ريي.. ماذا؟ عبد الناصر مات وجنازه مهيبه نبكي رحيل الزعيم صاحب الحلم الذي حمله لنا عبد الحليم حافظ وسط اغانيه الرومانسيه.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل