المحتوى الرئيسى

يوسف الشاروني: تشريح الإنسان

05/22 10:41

يشغل الكاتب يوسف الشاروني مكانه كبيره في الابداع القصصي المصري، وهو نموذج للمثقف المثابر والدؤوب الذي يبحث عن ذاته التائهه في زحام العالم، وربما انتزعه هذا البحث الدؤوب عن المشاركات الفعّاله في الادوار العامه السياسيه، والتي يعلن من خلالها المبدعون مواقفهم الرافضه او المؤازره، وناي بنفسه بعيدا عن هذه المساحات الشائكه والتي كثيرا ما تكون مربكه للفنان والمثقف، وراي الشاروني ان يعبّر عن نفسه تعبيراً مكثفاً في ابداع القصة القصيرة، وتجنب ـ علي عكس معاصريه ـ الدخول في هذه المجادلات، التي غالبا ما تكون معطّله للفنان عن بناء صرحه الفني او الادبي، وربما يكون هذا التجنب ما دفعه لتغيير في عنوان وتفاصيل قصته «الطريق الي المعتقل» التي نشرها في ابريل عام 1950 في مجله الاديب المصري، وكانت كما يقول العنوان تتحدث عن معتقل يخطف المواطنين دون ان يعرف ذويه لماذا حدث هذا، عندما اعاد نشرها في مجموعته الاولي «العشاق الخمسه» التي نشرها في ديسمبر 1954، وازعم ان هذا التغيير لم يات بعيدا عن المناخ الذي كان سائدا في ذلك الوقت، وليوسف الشاروني تجربه قصيره جدا مع العمل السياسي، بحكم ان عقد الاربعينيات كان مناخا خصبا انتشرت فيه التنظيمات المختلفه ايما انتشار، فكان الشيوعيون يمارسون عملهم السياسي التنظيمي بكل نشاط وحيويه، وبالفعل ساهموا في تفعيل الحركه الوطنيه تفعيلاً واضحا ومتقدما، وكانت الجامعه المصريه تضج بافراد وجماعات وتنظيمات كثيره، وكانت كذلك هذه الحركه الوطنيه لا تقتصر علي الطلاب فقط، بل شهدت اساتذه ومثقفين من طراز لويس عوض ومحمد مندور وشكري عياد وغيرهم، وكانت المجلات اليساريه تعمل علي قدم وساق، وتقدم الثقافه اليساريه واسعه، وعلي راس هذه المجلات كانت مجله الفجر الجديد التي كان ينشر فيها علي الراعي، نعمان عاشور وشهدي عطيه وطبعا احمد رشدي صالح مؤسسها ورئيس تحريرها واحمد صادق سعد ولطيفه الزيات، اذ ان هناك جيلا جديدا بدا يتشكل في ظل ثقافات مختلفه، حيث ان جماعه الاخوان المسلمين كانت حاضره في الجامعه والشارع، وكان حزب مصر الفتاه، والحزب الوطني الجديد، وكان بالطبع حزب الوفد وطليعته وقياداته وصحفه المصري وصوت الامه وغيرها، وفي ظل كل هذه النهضه العارمه، كان فن القصه القصيره ينهض وتقوي اعواده بين كل الفنون، فكان هناك الموجه الثانيه التي اتت بعد موجه العشرينيات الاولي التي قادها محمود طاهر لاشين ومحمد تيمور وحسن الشريف، وفوزي وعيسي وشحاته عبيد ويحيي حقي واخرون، اما الموجه الثانيه فكان روادها صلاح الدين ذهني ونجيب محفوظ ومحمود كاكل المحامي ومحمود البدوي وسعد مكاوي ومحمود تيمور وغيرهم، وجاء عقد الاربعينيات لتحدث ارهاصات جديده، وتتكون الموجه الثالثه في منظومه القصه القصيره، والتي بدات بوادرها بعد نكبه 1948، والانتكاسه العربيه بعدها، وظهور كثير من كتّاب القصه علي وجه الخصوص مثل يوسف ادريس وصلاح حافظ ومحمد يسري احمد ومصطفي محمود واحمد عباس صالح واحمد رشدي صالح وفؤاد القصاص وعبد الرحمن الشرقاوي وغيرهم، ولان كل هؤلاء لم يخرجوا من فراغ، بل انبثقت حيواتهم التعبيريه في ظل هذا الجو الصاخب الذي ساد عقد الاربعينيات، واتجه جميع هؤلاء الي استدراج الحياه السياسيه بوضوح، وكان اكثر هؤلاء الكتّاب تعبيرا عن الحسّ السياسي في النص القصصي هو يوسف ادريس، ولكن ليس بالشكل المباشر الفج الخام، ولكنه كان مضفرا بهذه الدفقه الادريسيه الحميمه، فمثلا قصه «5 ساعات» التي تسرد واقعه محدده عاشها ادريس نفسه كطبيب عندما اغتال الحرس الحديدي التابع مباشره للقصر الملكي، واحدا من ابطال المقاومه، وهو الضابط عبد القادر طه، لم يستطع يوسف ادريس الافلات من سطوتها، فراح يسجلها ويستخرج منها دلالات لا تنفصل عن الدلالات التي تبرزها الحركه الوطنيه جميعا، وكانت الحركه القصصيه جميعا تسير في هذا الاتجاه الذي يتناول الحياه الاجتماعيه والسياسيه بهذه الطريقه الجدليه.

وعلي عكس هؤلاء كان يوسف الشاروني، الذي درس علم النفس والفلسفه، والذي جنح بعيدا عن هذا الجو وعن هذا المناخ، وكان الشاروني متاثرا الي حد بعيد بالمنهج التكاملي الذي ارسي قواعده احد اساتذه علم النفس الكبار وهو الدكتور يوسف مراد، حيث قراءه الانسان من جميع زواياه، وتشريحه كما يفعل الاطباء تماما، ولم ينج الشاروني من البعد الكافكاوي الواضح، بل ان غالبيه ابطال يوسف الشاروني ابطال خائفون مقموعون متوترون وموسوسون، وربما انزلاقات قصص الشاروني الخفيفه الي ازقه السياسه كانت غريبه نسبيا علي عالمه، وعندما نوهنا الي قصته «الطريق الي المعتقل» والتي استبدلها الشاروني في ما بعد بـ «الطريق الي المصحه»، اكتشفنا ان القصه المعدله تناسب المنحي الذي اختاره الشاروني لنفسه، وهو الاكثر ملاءمه لثقافته وتوجهاته وحياته، فهو لم يزعم في يوم من الايام انه كان صاحب توجه سياسي، وصاحب موقف سياسي، ولكنه يعبر عن ذلك بطريقته الخاصه، وربما ابطال قصصه يضجرون من السياسه، او محاوله الزج بهم في جنبات هذا العالم الذي يزيد الانسان ابتعادا عن نفسه التي يبحث الشاروني في اكتشاف وديانها ومساحاتها الشاسعه والغامضه، وهناك نص اخر نشره الشاروني في مجله الاديب اللبنانيه في يوليو 1954، ولم اجده في مجموعاته الثلاث الاولي، وهذه القصه عنوانها لافت جدا، وهو «من ايام الرعب.. قصه محمد مظلوم»، وهذه القصه كذلك متاثره الي حد بعيد بالعالم الكافكاوي، فمحمد مظلوم هذا يعود الي منزله فيجد ثروته التي تصل الي تسعه وعشرين جنيهاً وستين قرشا مسروقه، ولكنها سرقت اثناء مرور رجل عظيم ذي موكب مهيب، وعندما يذهب مظلوم مع الذاهبين لمشاهده هذا العظيم، ويعود، فيجد ان تحويشه العمر قد سرقت، ويبدا في التردد علي الناس حتي يسالهم عن مسروقاته، ويتعرض رويدا رويدا الي اشكال من الشك والريبه والرعب، والبوليس نفسه يستريب فيه، ان قضيه محمد مظلوم قضيه عادله، ولان الواقع يموج بعبثيه مدهشه وغريبه وغير مبرره، فتبدو قضيته وكانها نوع من اللهو والعبث والاستهانه، فالانسان هنا يتعرض لاشكال من العبث القدري وغير المقصود، ولا يوجد من يقدر علي اقرار العدل، ولا اقرار الطمانينه، فالرجل الذي هو محمد مظلوم والذي جاء بتحويشته من خلال عمل شاق كبنّاء يتحول من صاحب اتهام الي متهم، وهكذا تدور شخصيات الشاروني في اشكال عديده من الخوف والريبه والحياه التي توشك علي الانهيار.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل