المحتوى الرئيسى

وائل خورشيد يكتب: أزمة الانتماء | ساسة بوست

05/19 22:38

منذ 3 دقائق، 19 مايو,2015

يمكنني ان اعرّف الانتماء كصوره اولي عن الحياه، تنمو بداخلك، حتي تصير هي الصوره المحيطه بعقلك وبوجدانك وتصير هي سبب فكرك ومنتهاه ومنبعه، وكل تفكيرك منها واليها، هي فكره عظيمه تحتاج الي قلوب تحملها.

كنت طفلًا في الرابعه وبضعه اشهر، تلميذ في احدي المدارس الخاصة، نشات في هذه المدرسه، ويفترض ان جذور الانتماء غُرست في تكويني بتلك المدرسه، ولكن حقيقهً لا اذكر ذلك ابدا، لا اذكر اني كنت منتميا وقتها لشيء، سوي للحلوي و”الكراتيه” وهو علامه مشهوره لكل اطفال جيلي، ولكن بالتاكيد هناك شيء ما قد غرس بداخلي في هذا الوقت، حتي وان كنت لا ادركه ولكنه يومًا ما سينمو ليصير طريقا وهاديًا لي في حياتي.

انا مرهً اخري في نفس المدرسه ولكن في المرحله الابتدائيه، دائره انتمائي الصغري كانت للفصل والاصغر كانت لمدرّستَي الفصل “عزيزه ووفاء” هكذا بدات افهم الانتماء، انا انتمي لمن اتعلم منهم، ولمن اضحك والعب معهم، انا انتمي لهذا الكيان الممل.

في الصف الاعدادي يفترض اني قد اصبحت طفلًا كبيرًا نوعًا ما حتي اتفهم معاني الوطنيه وارسخ في ذهني صوره للرئيس الهمام “مبارك” معلقه في كل الفصول الي جانب النشيد الوطني الصباحي.

هنا توسعت دائره انتماءاتي قليلا علي الرغم من قله الاستيعاب، فانا انتمي للاستاذ “خالد” مدرس الفصل والذي كان بمثابه الاب الروحي لنا، وانتمي لفصلي، وقد كنا فقط فصلين، وعلي الرغم من اننا كنا زملاء، الا ان تلك الافه العنصريه بداخلنا كانت تدفعنا لمعارك بين الفصلين علي سندوتش علي سبيل المثال وبدات اسمع كلمه “اسرائيل”.

في المرحله الثانويه، كانت خيبه املي كبيره، فقد انبريتُ من دائره انتمائاتي السابقه، لادخل مدرسه جديده للكبار، في وقت كنت ابدو في السادسه من العمر، ضئيل الحجم، طفولي الوجه في تلك المدرسة العسكرية الضخمه بمجتمعها المتنوع.

الان اري الضباط والجنود داخل المدرسه لانها مدرسة عسكرية، تجده يقف هو ورجاله بجوار العلم في الصباح ويردد احدهم “صفاااااااا، انتباه” لتجد كل الشباب المتحمس والذي قد شمر ساعديه في لمحه تعبر عن الاستعداد والقوه فنحن الان “عسكر” ولسنا طلابا، ويبدا العسكري المفوه ان وجد او الضابط في بث روح الوطنيه بالصياح فينا، ونبدا في الطبل وغناء النشيد الوطني “بلادي بلادي لكِ حبي وفؤادي” وطبعا جميعًا كنا معجبين بتلك الامور، كلنا محاربين كلنا رجال كلنا اولاد مصر واولاد جيش مصر، كلنا سنموت من اجلها؟!

وبعد فتره تحولت العسكريه الي صياح صباحي فقط، كما هي حياتنا فقد فرّغ كل شيء من مضمونه ولم يتبقّ لنا سوي شعارات.

مرحله التقديم في الكليات العسكريه، هي مرحله حاسمه في حياه كل شاب مصري، فبمجرد انتهاء المرحله الثانويه يبدا الجميع في الذهاب للتدريب في بعض المراكز استعدادًا لنيل شرف ارتداء البدله العسكريه، طبعا ينتهي المطاف بالجميع بحاله من الاحباط لعدم قبوله، وتظل ذكري تطارده لعده سنوات.

اما انا فلم اتقدم الي اي من تلك الكليات فقد كنت كسولًا نوعًا ما، ومدركًا لحقيقه اني وعلي كل حال لن اقبل، فاكتفيت بسماع بطولات الاصدقاء، حيث يثبت لك في النهايه ان الجميع كان قاب قوسين او ادني من القبول ولكن ازمه “ابن الباشا” حالت بينه وبين تحقيق مراده، الكثير من هؤلاء ادرك الان انه لم يكن سيء الحظ لعدم قبوله.

المرحله الجامعيه، لم اكن انتمي تماما للجامعه حتي اليوم الذي خرجت منها، ولم انتمِ للكليه ولا المدرج ولم انتمِ لشيء، ولكن حقيقهً كان ذهني شاردًا بالبحث عن الجنس الاخر والملابس المناسبه للجامعه، ولكن طبعا كانت تتخللنا في الجامعه لحظات من الوطنيه عندما نتحدث عن مصر واسرائيل.

احيانًا كنا نتباري بعبارات ناريه هي اصلا كلها منقوله من التلفاز، الجيش المصري دخل بطائراته الي عمق اسرائيل ورفض ان يبيدها، خسرنا حرب 1948 بسبب الاسلحه الفاسده!، نكسه 1967 كان سببها عبد الحكيم عامر!، كنا علي اتم الاستعداد لغزو العالم وقهر اسرائيل، ولكن لا اعرف السبب، ولا اعرف لماذا، كل ما اعرفه اني كنت مشحونًا بتلك الشحنات العظيمه من الوطنيه، وتقديس الجيش المصري، والخوف من الداخليه وامن الدوله، علي الرغم من اني لم يكن لي علاقه بهم ولا باي نشاط سواء كان سياسيا او اجتماعيا، كنت اتفه ما يمكن ان يكونه الانسان.

اذكر اني كنت قد قرات ذات يوم ان الشيخ الشعراوي رحمه الله عليه قد سجد لله شكرًا عقب نكسه 1967، وتعجبت وقتها، كيف يفعل ذلك، هل هو خائن؟ وقد كان مبرره وقتها انه خشي ان يقال ان الشيوعيه انتصرت، ماذا يقول هذا الرجل، الوطني وطني، له طريق واحد لا يغيره، اما ان تكون وطنيا في كل الاحوال وتحارب اسرائيل و”تصادقها” ان تطلب الامر، حتي انك قد تحارب معها ايضًا، او انك خائن غير وطني هذا ما اعرفه.

يوم 26 يناير 2011 انا في معسكر الجبل الاحمر للامن المركزي، بعد ان تم القبض عليّ من ميدان التحرير الساعه الثالثه والنصف عصر يوم الاربعاء اثر مظاهره بلا متظاهرين سوي مجموعه قليله وبضع الاف من الامن المركزي.

هذا الوطني الصغير المختل بداخلي والذي كان يعاني من لحظات تشوش هو من دفعني لاكون واحدا من هؤلاء المتظاهرين، كنت وقتها في السنه الرابعه من الجامعه وكان هذا اليوم التالي مباشره لانتهاء امتحانات الفصل الدراسي الاول، لا اعرف تحديدا كيف تحولت من شخص تافه جدا الي هذا الحال ولكن يبدو انها الفطره الانسانيه الطبيعيه قد تفوقت علي تفاهتي.

ولكن يجب ان اذكر انه قد تخلل ذلك في السنه الثالثه والرابعه من الكليه، جلسات بيني وبين اصدقائي بدانا نتامل فيها وضع المرور وفكره ان النظام لم يتغير منذ عشرات السنين، وان هناك امر خاطئ، وكنا وقتها قد بدانا الاتفاق علي تشكيل تنظيم سرّي هدفه اسقاط نظام الحكم، واتفقنا علي ازاله جزء من النظام واستبداله بجزء اخر ومن ثم ازاله الجزء الذي لم يزل واستبداله حتي لا تسقط الدوله! تفكير ساذج ذلك الان، ولكن هكذا كنت افكر.

وصل الامر قمه تطوره عندما قام السيد البريء “احمد عز” بالمساهمه في واحده من اعظم عمليات التزوير في انتخابات مجلس الشعب 2010 تزامنًا مع ظهور صور “جمال مبارك” في الشوارع كرئيس قادم، ولم انسَ اني وقتها كنت اخشي النظر علي اللافتات المعلقه في الشوارع باللون “البرتقالي” الخاصه بجماعه الاخوان المسلمين، لاني كنت اعي اني مراقب من امن الدوله طوال الوقت.

كنت علي تمام الاستعداد للثوره ولكن كنت انتظر الاشاره، يوم 14 يناير بدات الدعوات علي الانترنت، دعوت اصدقائي وكان الرد “يابني بس حد يشوفك تروح في داهيه” وردي انا وقد اصبحت ثائرًا وقتها “لو كل واحد قال كده يبقي محدش هينزل”.

رحل ” مبارك ” ولكن مازلت محتفظا بذكري ان الجيش المصري هو الاجمل في الوجود، الان انا انتمي لمصر الثوره، وانتمي للجيش المصري، وانتمي لبعض اللحظات الجميله التي قضيتها علي ارض مصر، انا مستعد للقتال من اجل مصر.

بعد مرورعده سنوات بدات افكر، هناك تحولات كبيره حدثت في شخصي وفي دوائر انتماءاتي، واصبحت اري امورا لم اكن اراها، واعرف زيف حقائق كانت راسخه، واقتنع باخري كانت مزيفه، واصبحت انمي وعيي بنفسي، والان تفكيري منصب علي فكره، هل انا منتمٍ لمصر فعلا؟

بدات افكر في الامر بشكل ما، تبين لي اني انتمي لبعض الذكريات، وانتمي للعائله، وللاصدقاء، انتمي لبعض الامور منها ما يتغير ومنها ما هو ثابت، وبدات افكر في انه “لا ينبغي ان يُبني اصل حياتي علي متغير” اما الوطن فانظمته ووجهته تتغير وحتي حدوده تتغير مع تغير الزمان.

ماذا لو حدثت معركه، هل اكون مترددا في انتمائي للقضيه “ان وجدت” ام ضد، هل انا علي استعداد للموت في معركه قد تكون من اجل المصالح السياسيه لبعض الجنرالات؟ اذ ان اغلب المعارك هي في الاساس سياسيه كيف اكون جزءًا من هذا الكيان الوطني ولا اعني فقط الجيش، ولكن اعني الوطن بشكل عام.

كنت عضوًا في حزب ما، فكرت وقتها اني حتي انتمي لكيان ما واتوافق معه يجب ان اتنازل عن جزء من فكري الذي كنت قد توصلت اليه حتي وقتها، في مقابل التوافق، ولكن وصل الامر الي ان وجدت ان الكيان ماهو الا صوره سياسيه اخري فاشله، واني اتنازل عن كامل فكري وما اعتنق ومبادئي من اجل هذا الهراء، فرحلت ولكن محل مولدي لم اختره ولا استطيع ان انكره.

انا محاط بمجموعه من الاكاذيب من كل اتجاه، لا يمكنني ان اصدق سياسيا ولا اعلاميا، ولا يمكنني ان اصدق ما يعرض علي الشاشه الفضيه فهو في الاغلب لتوجيهي، لا اصدقهم حتي لو قالوا الحقيقه فهم عندي بمثابه من يدس السُم في العسل، انا محاط بعالم واسع من حمقاء الوطنيين، انا نقطه في هذا العالم.

تبين لي ان الانتماء هو مجموعه من الصور، يفترض ان اعمقها غُرس في الصغر، ولكنه كان اضعفها لانه بني علي باطل، الانتماء الحقيقي هو اساس كما الجاذبيه للانسان لولاها لاصبح سابحًا في الفضاء، ولكن الجاذبيه وتكوين الانسان العضوي جعلا منه كائنا ارضيا وان كان شقه الروحي لا ينتمي فيظل حبيس الجسد علي الارض.

لكي تتعرف علي انتمائك عليك ان تعرف حقيقه نفسك اولا وهي امور لا يمكنك معرفتها في الصغر لذا يوكل اخرون بها عنك.

ولكن الان انت انسان ناضج فانت تقرا هذا المقال، سل نفسك، من انت؟!

نرشح لك

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل