المحتوى الرئيسى

خالد منصور يكتب: في تشريح الهزيمة – عن حرب ١٩٦٧ وما تلاها (4).. بين واشنطن والقاهرة: عندما يدفع الضعيف ثمن الحسابات الخاطئة

05/19 10:22

منذ ١٩٥٥ وحتى ١٩٦٧ كانت واشنطن لا شك تدعم إسرائيل والسعودية وتتخوف من مصر وسوريا، لكنها لم تكن تؤيد إسرائيل دون قيد ولا شرط، بل إن تسليح إسرائيل وبرنامجها النووي كانا يعتمدان على دعم وأريحية فرنسا قبل أي دولة أخرى.

لم تصبح واشنطن هي الراعي الأكبر لتل أبيب عسكريا واقتصاديا حتى عام ١٩٦٨، وهناك كتب كثيرة حول تطور العلاقات بين البلدين من روابط تقوم على التقارب الثقافي الديني وضغط الجالية الصهيونية في الولايات المتحدة إلى ارتباطات متينة ومتداخلة على الأصعدة العسكرية والاستخباراتية والإستراتيجية خدمة لمصالح الولايات المتحدة في الحرب الباردة وما بعدها، وربما من أهم هذه الكتب: “اللوبي الإسرائيلي وسياسة أمريكا الخارجية” للمؤلفين ستيفن والت وجون ميرشايمر (١) ، ولمن لا يملك الوقت، فهناك مقال شارك في كتابته بالإنجليزية مع فيليس بينيس حول تطور العلاقات الاستثنائية بين إسرائيل والولايات المتحدة من نشأة إسرائيل وحتى اتفاق أوسلو ويمكن الاطلاع عليها هنا.

ولا يوجد كاتب منصف يدرس تطور السياسة الخارجية الأمريكية في هذه السنوات، يمكن أن يصف علاقة واشنطن بالقاهرة بالعداء المطلق.. كانت البداية على العكس من الشائع ودية وعلمت السفارة الأمريكية بالقاهرة من الضباط الأحرار بأن هناك تحركا قادما قبل ٢٣ يوليو ١٩٥٢، وكانت هناك محاولات للحصول على سلاح وتمويل، بل وكان الموقف الأمريكي بشكل أساسي هو السبب الحقيقي في اندحار العدوان الفرنسي البريطاني الإسرائيلي في عام ١٩٥٦ عندما كانت واشنطن قد اتخذت القرار بأن زمن الاستعمار المباشر قد ولى، وأنها ستتولي دور المهيمن على المنطقة. لكن العلاقات المصرية الأمريكية فترت بسرعة – ولأسباب عديدة ليس هنا مجال شرحها – وصار حلفاء واشنطن الرئيسيين في المنطقة في طهران وأنقرة وتل أبيب والرياض، وكان اعتراف القاهرة بالصين سببا إضافيا في فتور العلاقات التي كانت واشنطن دائما تنظر لها بمنظار الحرب الباردة، لكن العلاقات لم تصبح عدائية صريحة  حتى أوائل ١٩٦٧.

ولعل وليام بيرنز في كتابه “المساعدات الاقتصادية والسياسة الخارجية الأمريكية تجاه مصر ١٩٥٥-١٩٨١”يلخص المسألة بقوله إنه بين عامي ١٩٥٥ و ١٩٦٧ لم يكن هناك أي توافق داخل الإدارة الأمريكية في الأجهزة التنفيذية أو بينها وبين الكونجرس حول السياسات أو الإجراءات المتعين إتخاذها حيال مصر أو عبد الناصر (٢)، لكن المساعدات الغذائية الحيوية في شكل صفقات تفضيلية استمرت، بل وبعض الأحلام الوهمية لساسة مصريين وأمريكان كانوا يعتقدون أنه بالإمكان التراجع عن حافة العداء.

وفي مذكرة من مستشار الأمن القومي روستو للرئيس جونسون حول مساعدات واشنطن للقاهرة، قال الرجل قبل حرب يونيو بأربعة أشهر: “يجب أن نواصل بذل الجهود لنتقرب إلى ناصر لنتفادى شق الشرق الأوسط إلى معسكر أمريكي وآخر سوفييتي، لكن ناصر لا يترك لنا سوى خيارات ضئيلة.. لقد وصل إلى حد تحدينا علنا ألا نجدد اتفاقنا معه (لتجديد المساعدات الغذائية)، ووجه لنا انتقادات حادة بشأن فيتنام، ويستمر في إثارة القلاقل في اليمن وجنوب الجزيرة العربية، وعموما فإنه لم يستجب لاقتراحاتك التي ابلغتها للسادات في الشتاء الماضي لمناقشة اختلافاتنا بهدوء والعمل لتشييد علاقات بناءة.” (المذكرة بتاريخ ١٤ فبراير ١٩٦٧ ورقمها في أرشيف مكتبة جونسون الرئاسية CK3100040301)

لم تكن الولايات المتحدة متجهة لصدام حتمي مع مصر، بل كانت تمد شعرة معاوية وتمارس السياسة الخارجية ترغيبا وترهيبا، واستمرت واشنطن في تقديم صفقات قمح بترتيبات تفضيلية لمصر وصلت إلى ٤.٩ مليون طن بين عامي ١٩٦٠ و ١٩٦٥ بقيمة إجمالية ٧٣١ مليون دولار دفعتها مصر بالجنية المصري دون حاجة لتوفير العملة الصعبة، وكانت القاهرة تعلم أنها معتمدة على القمح الأمريكي الذي كان يتعدى في المتوسط ٨٠ في المائة من الواردات من القمح، ونحو خمسين في المائة من الاستهلاك المحلي.. تكاسلت مصر في تلك الفترة عن إيجاد بدائل أو زيادة الانتاجية المحلية، وتحسبا لنهاية اتفاق السنوات الثلاث خلال شهور طلبت مصر في سبتمبر ١٩٦٤ تجديده لثلاث سنوات أخرى للحصول على قمح بما يعادل ٥٠٠ مليون دولار تدفعها بالجنيه المصري، لكن واشنطن ماطلت في الرد بسبب مواقف ناصر والكونجرس وتطورات سياسية محلية وأزمات غذائية في الهند، بيد أنها لم تضطر لأن تتخذ قرارا نهائيا، إذ سبقها ناصر في مارس ١٩٦٧ وقرر سحب الطلب المصري المقدم لتجديد اتفاقيات القمح التفضيلية، خصوصا أن موسكو كانت قد وافقت على تزويد مصر بعدة شحنات قمح ضخمة، كانت قد استوردتها لاستهلاكها المحلي.

ولم يكن تفكير جونسون تخفيض شحنات القمح التفضيلية لمصر في ١٩٦٦ نابعا كله من مشاكل العلاقات الثنائية، بل كان أيضا جزء من توجه عام لدى الإدارة الأمريكية آنذاك بخفض استعمال المساعدات الغذائية كآدة في السياسة الخارجية، وجاءت مصر في مقدمة الدول التي تضررت، لأن الإدارة كانت ترى أن مصر لديها أراض خصبة ويمكنها زيادة إنتاج القمح (كما حدث بالفعل بين أعوام ١٩٦٦ و ١٩٧٤) كما أن سياسات ناصر جعلت عداء الكونجرس يتزايد نحو القاهرة المشغولة بمساعدة حركة التحرر الوطني المتهمة بالشيوعية في الكونغو والتورط العسكري في اليمن ضد مصالح الحليف السعودي وحضور الرئيس السوفييتي نيكيتا خروتشييف لافتتاح المرحلة الأولى من بناء السد العالي في مصر.

كل هذه مؤشرات كانت تجعل أعضاء الكونجرس يعتقدون أن القاهرة قد ارتمت في أحضان موسكو، ولم يكن هذا حقيقيا تماما – أو على الأقل – لم يحدث بشكل درامي حتى منتصف ١٩٦٧ بعد حرب يونيو عندما بدأت موسكو في إرسال خبراء عسكريين وطيارين وأنظمة دفاع جوي وصواريخ لتعيد بناء الجيش المصري. (٣)

الكرامة لا شك أمر مهم للأفراد وللدول.. رفض الذل ورفع الرأس عاليا ليس فقط موقفا أخلاقيا، لكنه أيضا موقف سياسي ووجودي، وزاد من أهميته كونه جاء لدى دول مثل مصر بعد عقود طويلة من الهوان الاستعماري وإذلال النخب والطبقات الوسطى الوليدة، التي كان عليها أن تخضع أو تناطح مصالح لندن التي لم تتوان عن البطش بمعارضيها وإذلالهم كيفما شاءت، لكن شتان الفارق بين ادعاء رفع الرأس امام الخارج وادعاء عدم الانحياز في الخطب البلاغية، وبين واقع أن البلاد صارت بعد سنوات طويلة من الاستقلال تحصل على سلاحها وغذائها من هذا الخارج، وتقمع أي فرصة للتحول السياسي نحو مشاركة شعبية تدريجية في حكم البلاد، التي بدأ الفساد ينخر في موسساتها وفي نظم صناعة القرار فيها، خصوصا في المؤسسة العسكرية التي كانت – ومازالت – فوق النقد.. شتان الفارق بين مواقف دولية تتحلى بالكرامة وعزة النفس وتصريحات تعاني من الرعونة والشطط، ففي أوج التوتر بين مصر والولايات المتحدة، لم يتورع الرئيس ناصر عن السخرية المرة وإطلاق التهديدات الفارغة التي استعملها أعداء مصر في الكونجرس وواشنطن ضده، ففي خطابه في بورسعيد في 22 ديسمبر 1964، تحدث ناصر عن الولايات المتحدة قائلا: “الذي لا يعجبه سلوكنا يشرب من البحر، والذي لا يكفيه البحر الأبيض يأخذ البحر الأحمر يشربه كمان.” وجاء هذا التصريح غير المبرر في نفس العام الذي استهلكت فيه مصر ٥.٣ مليون طن قمح منها مليوني طن (أو أكثر من ٥٧٪) حصلت عليهما بأسعار تفضيلية من الولايات المتحدة، وجاءت هذه التصريحات بعد أيام قليلة من قيام مظاهرة سار فيها طلاب أفارقة في القاهرة احتجاجا على التدخل الأمريكي في الكونغو، وانتهت المظاهرة بإحراق مكتبة وكالة الإعلام الأمريكية جوار السفارة، مما أثار حنق الأمريكيين بسبب تقاعس قوات الأمن في بلد لم تكن المظاهرات تخرج فيه سوى – على الأغلب- بمباركة أو تساهل الأجهزة الأمنية، وكانت القشة التي قضت على صبر الأمريكان هو حادث وقع في الجو قرب الأسكندرية، عندما أسقطت قوات الدفاع الجوي المصري -على سبيل الخطأ في الأغلب- طائرة أمريكية صغيرة مملوكة لجون ميكوم، وهو رجل أعمال أمريكي وصاحب شركة بترول، والأهم، صديق للرئيس جونسون.

لتضع نفسك مكان العدو الأمريكي. كيف كنت ستفكر في تحركات وإشارات مصر؟

مرة أخرى، فإن واشنطن كانت فعلا تسعى لإفشال بعض خطط وسياسات مصر الخارجية التي كانت تناقض مصالحها، لكن الحرب بين مصر وإسرائيل لم تكن حتمية، ولا دليل هناك سوى الخزعبلات المؤامراتية والأحاديث المرسلة عن أي دور أو دعم أمريكي لقيام مثل هذه الحرب. وكان ناصر هدفا ربما لبعض الخطط الأمريكية من أجل إضعافه، وذلك لسبب وجيه، من وجهة نظر الأمريكان، وهو أن ناصر اختزل الدولة في شخصه، وكان الكل يعلم أنه إذا اختفى من على المسرح، فستختفي معظم سياساته وتوجههاته، لأنها ليست توجهات دولة، ولا يعلم أحد مقدار الدعم الشعبي لها. وفي الحقيقة كان هذا ما حدث وأنجزه السادات في وقت قصير بعد وفاة ناصر.

كان كل هذا يؤطر تفكير الساسة الأمريكيين في الأسابيع الحاسمة السابقة على حرب يونيو.

في رسالة من مساعد وزير الخارجية لشؤون الأمن القومي يوجين روستو (وكان شقيق والت روستو مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض) موجهة إلى سفراء الولايات المتحدة في تل أبيب والقاهرة وموسكو والبعثة الأمريكية في الأمم المتحدة (٤) يستعرض روستو مقابلته مع ايفرون الوزير المفوض في السفارة الإسرائيلية في واشنطن “عقب أن تلقينا بيان ناصر حول إغلاق خليج العقبة”، واكد روستو في الاجتماع لـ ايفرون ما يلى : “١- تم رفع مطالب إسرائيل الاقتصادية والعسكرية إلى الرئيس ليندون جونسون ويمكن توقع رد فعل سريع. ٢-  قرر الرئيس جونسون أن يتفادى كل التصريحات العلنية بشان الموقف في الشرق الأوسط. ٣- أرسل الرئيس رسائل شخصية إلى الرئيس ناصر ورئيس الوزراء الإسرائيلى ليفى اشكول ورئيس الدولة السوري نور الدين الاتاسي  يناشدهم صون السلام. ٤- أرسلت الحكومة الأمريكية تحذيرا إلى كل الحكومات العربية والاتحاد السوفييتى تجعل فيه من الواضح موقف أمريكا من: – أ- أن تسلل الإرهابيين يعد انتهاكا لاتفاق الهدنة العام.

-ب- أن هناك حاجة إلى تقليل مستويات حشد القوات العسكرية.

– ج – ضمان حق العبور الحر فى خليج العقبة.

هذه وثيقة مهمة، وأهم نقطة هي أن مطالب إسرائيل بالحصول على مزيد من الأسلحة والدعم الاقتصادى نالت الضوء الأخضر الأمريكي عقب إغلاق الخليج، وليس قبله، وبدا أن قرار الرئيس جونسون الاستراتيجى من قبل “بإطلاق إسرائيل من عقالها لمهاجمة حلفاء الاتحاد السوفييتى فى الشرق الأوسط” يتبلور في خيارات فعلية.

وفي ليلة 22 مايو وقبل أن يصدر الرئيس جونسون رد فعل علنيا، صدر قرار أمريكى بنقل الأسطول السادس إلى شرق المتوسط وضمنه حاملتا الطائرات أمريكا وساراتوجا.

آلة الحرب كانت فيما يبدو قد بدأت في الدوران، خصوصا مع تصاعد الضغط الأمريكي / اليهودى من أجل موقف حاسم. وقضى جونسون صباح يوم 23 مايو على الهاتف يتحدث مع زعماء المنظمات اليهودية الكبرى، وكان قد بدأ يومه نحو الثامنة صباحا باجتماع على الهاتف مع وزير خارجيته راسك، ثم تحدث في الساعة التالية مع مندوبه في الأمم المتحدة جولدبرج ورئيس جهاز المخابرات السي أي أيه ريتشارد هيلمز ومستشاره للأمن القومي والت روستو (وهو شقيق مساعد وزير الخارجية لشؤون الأمن القومىييوجين روستو، والاثنان من مؤيدي إسرائيل)، وفي الساعة 11.6 مساء بتوقيت واشنطن، خرج جونسون أمام شاشات التلفزيون ليصدر بيانا حاد اللهجة جاء فيه إن قرار مصر إغلاق خليج العقبة لا يتمتع بأى شرعية قانونية، ويهدد السلام، ودعا إلى تدخل الأمم المتحدة.

علينا أن ننظر إلى تفاعلات كثيرة ساهمت في تطور الحروب العربية الإسرائيلية بعدسات الحرب الباردة إذا أردنا أن نفهم جزء لا يستهان به من عقلية صانعي السياسة الخارجية الأمريكية في تلك الفترة الحرجة. فبرغم أن العلاقات الإسرائيلية الأمريكية في الستينيات استندت في جانب منها إلى النفوذ الأمريكي/اليهودي الموالي لإسرائيل، غير أن جزء آخر من دعامة هذه العلاقات يعود إلى أن إسرائيل كانت أحد أصابع أمريكا في الستينيات في حربها الباردة ضد الاتحاد السوفييتى وحلفائه، وأن دولا عربية كبرى مؤثرة وفي مقدمتها مصر تقاربت مع موسكو وفضلوا تحالفا باردا مع السوفييت رغم ادعاءات عدم الانحياز.. كانت أمريكا متورطة في فيتنام، وليس لديها الوقت للقيام بمهام فعلية على الأرض والانتباه كلية لما يحدث في الشرق الاوسط.. كانت بحاجة لوكلاء وتقدمت إسرائيل لأسباب عديدة لشغل هذا المنصب، بينما تولت السعودية ودول الخليج تدريجيا دور التوابع والمحميات، وشغلت إيران الشاه موقعا في المنتصف.

ونعود إلى صباح نفس اليوم وبالتحديد في الساعة 36.2 صباحا.. أرسل مساعد وزير الخارجية روستو مذكرة إلى مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى لوشيوس باتل وإلى سفيري الولايات المتحدة في موسكو والقاهرة.. (كان باتل حتى شهر مارس سفيرا لبلاده في القاهرة وعلى علاقة طيبة بعبد الناصر، ولم يكن من بين كبار مؤيدي إسرائيل في الإدارة الأمريكية أمثال الأخوين روستو والسفير الأمريكي في الأمم المتحدة جولدبرج).

وروستو كان يرى – وفقا للمستند الذي يحمل رقم 199745 في الأرشيف الوطني الأمريكي – أن عبد الناصر اتخذ قرار سحب قوات الطوارىء من سيناء وإغلاق خليج العقبة أمام الملاحة الإسرائيلية – في الأغلب – وهو لا يعتزم الحرب، بل للتمويه سياسيا من أجل تحقيق عدة أهداف أو بعضها، وهي:

“1- دعم هيبة عبد الناصر في العالم العربي عن طريق أن يطلب من دول عربية معينة أن تحذو حذوه في تحدي إسرائيل.

2 – يقلل من تدهور نفوذ ناصر في المجتمع الدولي، خصوصا وسط دول عدم الانحياز.

3 – يظهر للولايات المتحدة أنه قادر على إيذاء مصالحها وأنه مازال قوة يعتد بها، على أمل أن مثل هذا الإدراك سيؤدى إلى زيادة المساعدات الأمريكية لمصر.”

والنقطة الأولى هنا مهمة وصحيحة إلى حد كبير، إذ أن الأنظمة الملكية المتحالفة مع الولايات المتحدة مثل السعودية والأردن من ناحية، والأنظمة الثورية المتشددة من ناحية أخرى مثل سوريا، كانت كلها تزايد على مصر وتتحداها أن تثبت قدرتها على مواجهة العدو الإسرائيلى، ورغم أن أي من هذه الدول لم تكن لديه القدرة – ولا الرغبة فيما يبدو وفقا لمعظم المستندات التاريخية-  على الدخول في حرب مع إسرائيل، إلا أن تعارض مصالحهم مع النظام الناصري جعل من المسوغ لهم المبالغة في تهييج الرأي العام في قضايا هم لا يناصرونها في حقيقة الأمر.

ونعود إلى مذكرة روستو، التي يحلل فيها قرار إغلاق خليج العقبة، حيث يقول بالنص في الصفحة الثانية: “إن إغلاق المضيق يجعل خطر نشوب الحرب أكبر بكثير مما كنا نتوقعه، يثور التساؤل حول ما إذا كان عبد الناصر قد صار أكثر طيشا عن المعتاد أو أنه أكثر اطمئنانا إلى الدعم الروسي”، وبعد ذلك بفقرة يقول: “إن إعلان ناصر غلق خليج العقبة يضيف أبعادا جديدة وشديدة الخطورة إلى موقف متوتر بالفعل في الشرق الأوسط، فالخليج مياه دولية وسفن كل الدول يحق لها العبور فيه.

أي إجراء يستهدف حرمان هذه السفن من حق العبور الحر، سيجلب عواقب مأساوية.” هل كان عبد الناصر يدرك أن قرار إغلاق خليج العقبة، سيؤدي إلى هذه العواقب المأساوية؟

لننظر إلى المستند رقم 023452 في محفوظات الأرشيف القومي الأمريكي، ويحمل أصل برقية أرسلها السفير الأمريكي في القاهرة نولتي، إلى وزارة الخارجية، وتضم فحوى اجتماع عقده مع وزير الخارجية المصري محمود رياض لتقديم أوراق اعتماده.

يقول نولتي: “لقد شددت على أن حكومة الجمهورية العربية المتحدة يجب أن تفهم تماما أن الحكومة الأمريكية سوف تقوم بكل جهد ممكن من أجل تفادي الحرب وإيقافها – إذا اندلعت – وأننا نحث على ضبط النفس مع إسرائيل، لكن مسألة حرية العبور في خليج العقبة، مسألة ذات أهمية بعيدة المدى، وأى انتهاك لهذه الحرية، سيكون ذا عواقب وخيمة، وفي وجهة النظر الأمريكية سيمثل عملا عدوانيا.”

كانت أمريكا تهدد أن إغلاق خليج العقبة يعد بداية للحرب، وفي نفس الاجتماع، قال نولتي إن الولايات المتحدة تعهدت على مدى الإدارات الأربع السابقة، بأنها ملتزمة “بالعمل من أجل دعم أي إجراءات لمواجهة الأعمال العدائية العلنية أو السرية في الشرق الأدنى.”

ثم يضيف نولتي في نفس البرقية: “وزير الخارجية رياض قال إن  مصر ستوقف أي سفن إسرائيلية وتصادر الشحنات الاستراتيجية من كل الناقلات الأخرى، وأن مصر لن تقوم بأي أعمال عدائية، لكنها ستدافع عن نفسها بحزم ضد أي هجوم. واستخلصنا من هذا أن الولايات المتحدة في حالة مواجهة مباشرة مع مصر.”

كان توقيت البرقية التاسعة وثمان وأربعين دقيقة صباح يوم 23 مايو.

قررت مصر إغلاق خليج العقبة، والأمين العام للأمم المتحدة يوثانت في طريقه إلى القاهرة في محاولة أخيرة لنزع فتيل التوتر المتزايد بين مصر وإسرائيل بعد قرار مصر سحب كل قوات الطوارىء المنتشرة على الجانب المصري من الحدود مع إسرائيل، وعلم يوثانت بالقرار وهو في الطريق، فأعرب عن دهشته قائلا إن الإعلان يجعل الحرب حتمية.

كان لدى القاهرة بالفعل – ووفقا لمكاتبات السفير نولتي لوزارته-  حجج قانونية تكفي لإغلاق المضايق، بل وطرد القوات الدولية، فوفقا لاتفاق الهدنة في عام 1949، كان يتعين على قوات الطوارىء أن تتمركز على جانبي الحدود، لكن إسرائيل رفضت السماح لها بالانتشار على أراضيها، فانتشرت فقط على الجانب المصري من الحدود.

وعقب العدوان الثلاثي البريطاني-الفرنسي-الإسرائيلي على مصر في عام 1956 تلقت إسرائيل وعدا وتأكيدات أمريكية في عام 1957 بأنها ستتسمح لها بحرية الملاحة في مضايق تيران، وهي التأكيدات التي طالب وزير الخارجية الإسرائيلي ابا ايبان واشنطن باحترامها في زيارته التي قام بها للولايات المتحدة في 26 مايو عقب ثلاثةأيام من إعلان ناصر حظر مرور السفن الإسرائيلية. ومنذ عام 1949 لم تكن مصر تسيطر على الجانب الغربي من خليج العقبة فحسب، بل على جزيرتين رئيسيتين تخلت عنهما السعودية لمصر.. هما صنافير وتيران اللتان تبعدان قرابة ثلاثة أميال من شرم الشيخ، وبعبارة أخرى كان يستحيل أن تعبر أي سفينة الخليج في طريقها إلى إسرائيل دون أن تراها القوات المصرية بالعين المجردة.

لقد كان هناك خلاف قانوني دولي عميق حول حرية الملاحة في مضايق تيران، لكن مصر كانت تمتلك حججا قانونية وتاريخية قوية تدعم موقفها، وإن لم تستغل القيادة هذه الحجج على الصعيد الدولي بما يكفى، واكتفت باستعمالها – كالعادة – في الحشد والتعبئة المحليين.

وفي برقية عاجلة إلى كل السفارات الأمريكية خارج البلاد، شدد مساعد وزير الخارجية لوشيوس باتل على أن الولايات المتحدة  “سنسعى من خلال الأمم المتحدة والقنوات الأخرى لتحاشي الأعمال العدائية المباشرة والتي صارت احتمالا حقيقيا ووشيكا” بعد غلق الخليج. وأوصت الخارجية “المواطنين الأمريكيين بتفادى السفر إلى الجمهورية العربية المتحدة وسوريا والأردن وإسرائيل، وعلى المواطنين الأمريكيين الموجودين حاليا في تلك البلدان دون عمل ضروي المغادرة في اقرب فرصة.” (٥)

كان هذا نداء خطير، ولابد أن الخارجية أو المخابرات المصرية لاحظته آنذاك، وخطورة مثل هذه النداءات أنها تأتى عادة في الأيام القليلة المتبقية على نشوب أعمال عدائية بغية حماية المواطنين الأمريكيين من الخطر.

وقفت الولايات المتحدة بوضوح ضد قرار إغلاق خليج العقبة، وأعلنت أنه عمل عدائى يصلح مسوغا لإسرائيل للهجوم على مصر، لكن واشنطن لم تقم بأى دور نشط من أجل التوصل إلى مخرج من هذه الورطة سوى مطالبة مصر بالتراجع، وكان من المستحيل على القاهرة أن تتراجع دون ثمن تبرر به هذا التراجع: ثمن تدفعه للشعب المصري الذي تمت تعبئته وتحمل كثيرا ماديا ومعنويا في المواجهة مع إسرائيل، وثمن تدفعه للشعب العربى الذي تعلقت أنظاره بأجهزة الراديو المضبوطة على محطات القاهرة، وثمن تدفعه لتفادي السخرية الحادة والتحقير المتوقع من السعودية والأردن، وثمن تدفعه لدول عدم الانحياز والعالم الثالث التي احتشدت خلف مصر، ولم تقدم لأمريكا أو الاتحاد السوفييتى ما يمكن أن يساعد مصر على دفع بعض هذا الثمن. وبات محتوما على القاهرة أن تواجه تبعات قرارها.

صار التراجع مستحيلا، واصبحت كل الطرق تؤدي إلى الحرب، فلماذا لم يبدأ عبد الناصر الحرب إذن وترك زمام المبادرة في يد إسرائيل؟ هل هو خطأ فى التقدير؟ خطأ في الاستراتيجية العسكرية؟ نقص في المعلومات؟ أم تدن مريع في قدرات وآداء القيادة العسكرية، عجز عبد الناصر عن إيقافه وإصلاح المؤسسة لأنها هي ذاتها بقيادة عبد الحكيم عامر كانت في اعتقاد عبد الناصر الضامن الرئيسي لبقائه هو ومشروعه الطموح في السلطة؟ عجز ناصر منذ ١٩٥٦ عن إصلاح المؤسسة العسكرية وتغيير قياداتها التي صارت مشغولة بشؤون الحكم والسياسة والمال.. عجز عن تغيير وضع لابد أنه كان يعرف ببعض تجلياته الكارثية – وفقا لكتب بعض من عملوا قربه في هذه الفترة- وقف عبد الناصر عاجزا عن التغيير، وذلك بعد قمع منظم ومنهجي صار معه الشعب أيضا عاجزا عن التغيير. وهذا هو العجز المركب الذي مازلنا جميعا ندفع ثمنه في المنطقة حتى اليوم.

(١) ”John Mearsheimer & Stephen Walt, The Israel Lobby and US Foreign Policy

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل