المحتوى الرئيسى

وهم "التأثير" في مملكة العلوم

05/15 19:02

ان البحوث العلميه التي تمولها الحكومات تغطي السلسله الكامله من دراسه العمليات الفيزيائيه والبيولوجيه الاساسيه الي تطوير التطبيقات التي تلبي الاحتياجات الفوريه.

ونظرا للموارد المحدوده فان السلطات التي تقدم المنح تجد نفسها دوما امام الاغراء المتمثل في توجيه نسبه اعلي من الاموال الي التطبيقات التي تغطي الاحتياجات الفوريه.

وفي مواجهه القيود المحكمه المفروضه علي الميزانيات اليوم فان الميل الي تفضيل المشاريع التي اظهرت عائدات علي المدي القصير اصبح اليوم اقوي مما كان عليه في الماضي، ولكن الخضوع لهذا الميل خطا كبير، ذلك ان بعض الاكتشافات العلميه المفاجئه الاكثر منفعه علي الاطلاق جاءت نتيجه للاستثمار المستمر في مجال البحوث الاساسيه او كمنتج ثانوي لجهود غير متصله.

والواقع ان تقييم تاثير اي مشروع بحثي امر صعب، وكما اشار الاستاذ في كليه الطب بجامعه هارفارد مارك كيرشنر في "افتتاحيه رصينه" في مجله العلوم فان "المرء قد يكون قادرا علي التعرف علي العلم الجيد عندما يحدث امامه، ولكن العلم المفيد لا يمكن رؤيته الا في مراه الرؤيه الخلفيه".

حتي ان الباحثين البارزين ربما يقللون من اهميه اكتشافاتهم عندما يتوصلون اليها، فعندما تلقي استاذ علم الاحياء المجهريه سلفادور لوريا جائزه نوبل لعام 1969 في الفسيولوجيا (علم الوظائف) او الطب اظهر هذه النقطه ببلاغه، فقد ارسل رسما كاريكاتيريا مضحكا الي كل مهنئيه علي الجائزه.

ويصور الرسم زوجين مسنين علي مائده الافطار، يقرا الزوج جريده الصباح فيصيح فجاه "يا للعجب! لقد منحت جائزه نوبل عن شيء يبدو انني قلته او فعلته او خطر علي بالي في عام 1934!".

ان الاكتشافات قد تاتي من اتجاهات غير متوقعه، تماما كما تتقاطع بشكل غير متوقع مجالات بحثيه تبدو غير متصله وغامضه ظاهريا.

في افتتاحيه تحريريه نشرت عام 2011، وصف عالم الاحياء الفرنسي فرانسوا جاكوب البحث الذي ادي الي منحه جائزه نوبل في الفسيولوجيا او الطب لعام 1965.

كان مختبره يعمل علي الاليه التي تدفع البكتيريا من نوع "ايكولاي" (E. coli) تحت ظروف معينه الي انتاج فيروسات بكتيريه فجاه، وفي الوقت نفسه كانت مجموعه بحثيه اخري تقوم بتحليل الكيفيه التي قد يستحث بها تخليق انزيم معين في "ايكولاي" ايضا بوجود نوع معين من السكر.

وحسب تعبير جاكوب "بدا النظامان وفقا لقانون الميكانيكيات بعيدين كل البعد عن بعضهما بعضا، ولكن تجاورهما من شانه ان ينتج اختراقا حاسما لفهمنا للحياه". ومن هنا ولد مفهوم "الاوبيرون" مجموعه من الجينات التي ينتظم التعبير عنها بواسطه جين مجاور مسيطر.

ومن بين الامثله النموذجيه لما تتسم به البحوث الاساسيه من التفاعل المتبادل والصدفه العَرضيه منشا تكنولوجيا الحمض النووي المؤتلف (خلق كائن حي بدمج الجينات)، او التكنيك النموذجي الاولي للهندسه الوراثيه الحديثه (والذي يسمي احيانا "التعديل الوراثي").

فقد نشا هذا التكنيك بفعل مجموعه من الاكتشافات في عده مجالات باطنيه غير متصله الي حد كبير من البحوث الاساسيه في اوائل السبعينيات. وادي البحث في علم الانزيمات وكيمياء الحمض النووي للتوصل الي اساليب قطع واعاده تجميع شرائح من الحمض النووي.

وقد سمح التقدم في اجراءات التجزئه بالكشف السريع عن الحمض النووي والبروتينات وتحديدها وفصلها، وسمحت المعرفه المتراكمه بالفسيولوجيا الميكروبيه وعلم الوراثه بادخال حمض نووي غريب الي خليه وجعله يؤدي وظيفته هناك.

وكانت النتيجه ولاده التكنولوجيا الحيويه الحديثه، وعلي مدي السنوات الاربعين الماضيه احدثت تكنولوجيا الحمض النووي المؤتلف ثوره في العديد من القطاعات الصناعيه، بما في ذلك الزراعه والمواد الصيدلانيه.

كما كانت هذه التكنولوجيا سببا في تمكين تطوير لقاحات مضاده لامراض معديه وادويه تعالج امراض لا تنتقل بالعدوي مثل السكري، والسرطان، والتليف الكيسي، والصدفيه، والتهاب المفاصل الروماتزمي، وبعض الاضطرابات الوراثيه.

ومن الامثله الاخري خلق الهجينه، وهي عباره عن خلايا هجينه يتم انشاؤها في المختبر عن طريق دمج خلايا الدم البيضاء الطبيعيه التي تنتج الاجسام المضاده مع خليه سرطانيه.

وكان الباحثون يريدون الجمع بين النمو السريع للخلايا السرطانيه وقدره الخلايا الطبيعيه علي اصدار الامر بانتاج جسيم مضاد واحد معين "احادي النسيله"، وكان هدفهم معرفه المزيد عن معدلات الطفرات الخلويه وتوليد مجموعه متنوعه من الاجسام المضاده.

غير انه -كما تبين لاحقا- كانت هذه الخلايا الخالده المنتجه للاجسام المضاده مفيده، ليس فقط للبحث العلمي بل وايضا كاداه تكنولوجيه جديده لمجموعه متنوعه من التطبيقات الطبيه والصناعيه.

والواقع ان هذه التكنولوجيا ادت الي تطوير اختبارات تشخيصيه بالغه التحديد، والادويه المضاده للسرطان البالغه النجاح مثل ريتوكسان (rituximab)، واربيتوكس (cetuximab)، وهيرسبتين (trastuzumab)، وافاستين (bevacizumab) الذي يستخدم علي نطاق واسع لعلاج السرطان وامراض شبكيه العين التي تسبب العمي عاده.

في مقاله الافتتاحي، تحسر كيرشنر علي "الميل الي المساواه في الاهميه بين اي شكل من اشكال العلاقات الطبيه"، مشيرا الي ان هذا الميل ادي الي التعامل مع البحث في النظم غير الثديه "وكانها في جوهرها اقل قيمه من الدراسات في الخلايا البشريه".

ونتيجه لهذا، فان انظمه النماذج التي تتسم بالبساطه ولكنها داعمه للمعرفه اصبحت موضع تجاهل، وبهذا تضيع حلقه وصل مهمه بين العلوم الاساسيه والطب البشري.

والواقع ان القرن الماضي من البحث بشان مختلف انظمه النماذج غير الثديه يجعل هذه النقطه مقنعه. علي سبيل المثال، قدمت لنا الدراسات التي اجريت علي (Caenorhabditis elegans) -وهي دوده مستديره صغيره- ثروه من المعلومات حول التمايز الخلوي، والشبكات العصبيه، والانقسام الاختزالي، وموت الخلايا المبرمج، كما كانت دراسه ذبابه الفاكهه (Drosophila melanogaster) سببا في احداث تقدم كبير في فهمنا للاليات المؤسسه لقوانين مندل لعلم الوراثه.

أهم أخبار منوعات

Comments

عاجل