المحتوى الرئيسى

القاهرة المملوكية (1)

05/13 18:59

لا يسير المرء منا في القاهره القديمه الا وتنتابه حاله من الحنين الغامض رغم كونه من ساكنيها، تلك الحاله التي تزداد كلما نظرت الي تلك المساجد والمدارس والخانقاوات والاسبله والاربطه والرباع والقياسر والوكالات والخانات وغيرها من منشات هذه المدينه الساحره التي اُطلق عليها مدينه الالف مئذنه، ففي حواريها نسج الخيال قصه الالف ليله وليه، وخيال الظل، وسيره الحاره الشعبيه، وقصص الحرافيش وغيرها مما لا يكاد ينتهي علي مر السنين. صحيح ان هذه الحكايا هي خيال في خيال، لكن لم يخرج هذا الخيال في صوره مكتوبه الا بسبب طغيان القاهره واثارها الاسلاميه العظيمه علي نفس المرء، فتعمل فيه عملها خاصه اذا كان اديبًا او ذا حسّ تفاعلي مرهف.

ان اكثر ما يزال مبرزًا سمه القاهره الساحره هي المرحله المملوكيه، تلك المرحله التي بُنيت فيها هذا الكم الكبير من الاثار التي لا تزال شاهده علي هذا العصر بكل ما له وما عليه، حيث انتقلت من كونها مجرد عاصمه اقليميه الي قلب العالم الاسلامي، وحاضره الخلافه بعد سقوط بغداد، واستمرت علي هذا الزهو والطغيان لكل من يزورها من الرحاله والحجاج والمستشرقين حتي يومنا هذا، ولهذا فاننا في هذه المقالات الثلاث او الاربع سنقف مع القاهره المماليكيه، لنستكشف طبوغرافيتها انذاك، ولنري كيف تفاعل الانسان فيها وبها، وكيف اثّرت فيمن قطنها، وكيف ازدهرت لتكون عاصمه العالم الاسلامي بلا منازع!

تكونت القاهره المملوكيه انذاك من اربعه مراكز متفرقه؛ هي القاهرة الفاطمية التي تحيط ببعض اجزائها الاسوار الفاطميه القديمه، ثم مصر القديمه في موقع الفسطاط القديمه، ثم بولاق وكانت قبل ذلك جزيره ثم تحولت الي جزء من القاهره خاصه مع بناء ميناء تجاري مهم بها، ثم اخيرًا مدافن القرافه شمال قلعه الجبل وجنوبها، ويمكننا ان نضيف بعض الضواحي الاخري مثل باب اللوق وباب زويله ومسجد ابن طولون.

وكانت القاهره قد بدات في النمو منذ نهايه عهد الفاطميين، وما من شك انه منذ البدايه بُنيت منازل جديده نظرًا لان المدينة كانت مزدحمه بسكانها الي درجه الاكتظاظ، وبدات فعلاً تنفجرُ وراء اسوارها، حتي ان الابواب التي لا تزال قائمه، وخاصه باب زويله صارت داخل المدينه منذ زمن بعيد، وبعد ذلك جدّت ظاهره مختلفه حين اتصلت المدينه بالقلعه حتي لم تعد القلعه في نهايه الامر معزوله وخاصه نهايه القرن الرابع عشر الميلادي/الثامن الهجري، حين وصلت مبان كثيره بينها وبين المدينه، وقد اصاب مارسيل كليرجيه حين كتب:

           ||كان لانشاء القلعه رد فعل قوي جدًا علي المناطق المجاوره لها، فهذه الضواحي بعد ان زحفت علي الجبّانات انتشرت حتي وصلت الي اسفل القلعه، فنُقل الي الرميله (اسفل القلعه) سوق من اهم الاسواق في اي مدينه عربيه، وهي السوق التي تُباع فيها الخيل والحمير والجمال، وفي الموقع الذي كانت تحتله من قبل وحدات الجيش الفاطمي بُنيت حدائق وبُحيرات فسيحه، فاصبح هذا الحي اكثر جمالاً، وتمتّع به سكان القلعه، وظهرت في الغرب في ذلك الوقت حدائق اخري خاصه عند باب اللوق، بحيث اصبحت هذه المناطق اشبه بالمتنزّه العام، وقد بقيت اجزاء منه حتي عصر المماليك||[1]

لقد اتسعت القاهره في العصر المملوكي اتساعًا كبيرًا في الشمال والجنوب والغرب، فضلاً عن التغير الكبير الذي طرا علي المدينة القديمة الفاطميه من حيث الهدم والبناء، ويرجع ذلك الي عاملين اساسيين، الاول قوه السلاطين ومهابتهم وحفاظهم علي الاوضاع الامنيه والاجتماعيه والاقتصاديه في المدينه، والثاني يعود الي ازدهار التجاره.

لقد نجح المماليك في جذب تجاره شرق حوض البحر المتوسط الي القاهره التي صارت مركزًا للنقل التجاري، وقد استفادوا من التجاره بين الهند واوربا مما ادي الي ثراء اهل القاهره في العصور الوسطي، ولثراء المدينه وفتوتها كانت قادره دائمًا علي ان تضمّد جراحها بعد اي فتنه. كانت مدينه عامره بالحياه والحركه، لم تؤثّر فيها الاوبئه المهلكه ولا الكوارث الطبيعيه، وقد قال عنها فرسكو بالدي الذي زارها سنه 1384م/ 786هـ ان بمينائها عدد ضخم من المراكب الراسيه يفوق كل ما راه في موانئ جنوه والبندقيه وانكوني معًا، وقد ذكر ان عدد سكانها اكثر من سكان توسكانا بايطاليا. وقد قال بعض الرحاله الاخرين ان المدينه اكبر من باريس سبع مرات. واكّد بود جيبونسي ان المركبه تحتاج الي يومين كي تطوف بها، وكتب الراهب جاك دي يفرون في عام 1325م/ 725هـ في عصر الناصر محمد بن قلاوون:

          ||ان اهل القاهره يتمتّعون بثراء كبير نتيجه التجاره الهنديه، فالمراكب تجلب كميات هائله من التوابل والاحجار الكريمه عن طريق البحر الاحمر، وعن طريق البحر المتوسط تجلب السفن من اكل انحاء العالم كل ما يمكن ان يروق للانسان||[2]

وقد قدّر جوتشي دي دينو ان القاهره تمتدّ لمسافه عشره اميال طولاً وخمسه اميال عرضًا، وان عدد سكانها يصل الي ثلاثه ملايين نسمه، وقد علّل هذا العدد الضخم بان المصريين حسب قوله يحيون الف عام، وهو قول لا يخلو من مبالغه وان كشف الي الاعداد الضخمه من الناس التي كانت تعجُّ بها القاهره.

وبعد قرن من الزمان وفي عام 1458م/862هـ قال روبرتو سانسفرينو: من الافضل الا اتحدّث عن مدينة القاهرة لان كلام سيُؤخذ علي انه اساطير؛ انها عظيمه الاتساع الي حدّ لا يُصدّق، فهي اكبر من ميلانو باربع مرات، وقد قال عنها احد الرحّاله كان قد شاهد ميلانو ان القاهره اكبر منها ست مرات. وقد شهدت القاهره خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلادي/ الثامن والتاسع الهجري ازدهارًا واتساعًا عظيمًا هدّد بجعلها وحشًا مختلّ التناسق مع باقي انحاء البلاد علي حد قول كلرجيه[3].

تقول دوريس بهرنز – ابو سيف:

          ||كانت القاهره في ظل الحكم المملوكي (1250 – 1517م) اهم مدينه اسلاميه واكبرها في العالم. كان تحولها من العاصمه الايوبيه الثنائيه الفسطاط – القاهره الي العاصمه المملوكيه تحولاً هائلاً صاغته الرعايه المكثّفه للارستقراطيه الحاكمه، بعدما ضمن المماليك شرعيه حكمهم بُعيد الانتصارات التي حققوها علي الصليبيين والمغول، بداوا باتباع سياسه دينيه وهندسيه ذات بُعدين غير متوازيين؛ فقد تلازمت مساهمتهم في انشاء المساجد والمدارس والخانقاهات كما المؤسسات الخيريه، مع توسع مديني وازدهار هندستهم المعماريه في مدن المملكه؛ هكذا امكن القاهره العاصمه المملوكيه مع الظاهر بيبرس ومركز الدوله العباسيه التي باتت شكليه ان تتفوق علي بغداد العاصمه السابقه للعالم الاسلامي||[4]

وقد شغلت القاهره المملوكيه مساحه ضخمه امتدت من ضريح الامام الشافعي في الجنوب الي قبه يشبك في العباسيه اليوم في الشمال، ومن النيل غربًا وصولاً الي الصحراء شرقًا، ونتيجه للازدهار التجاري والاقتصادي والاستقرار الامني، وحركه التعمير التي اشرف عليها السلاطين انفسهم، شرع المماليك في تنميه المناطق الخارجيه من القاهره، ليس لمواجهه احتياجات ازدياد السكان فحسب، ولكن ايضًا بسبب سياسه السلطان الناصر الطموحه ومن بعده من السلاطين، وكانت نتائج هذه التنميه منقطعه النظير، ففي اتجاه الشمال كان الجامع الكبير الذي شيّده السلطان بيبرس علي مسافه 700 متر شمال غرب باب الفتوح بمثابه اشاره البدء لتعمير حي الحُسينيه، لقد بُني هذا الجامع علي موقع فضاء (ميدان) في منطقه كانت حينذاك قليله السكان، لكنها تقع قريبًا من الطريق المؤدي الي الشام والي الحج، ثم اصبحت فيما بعد الضاحيه الشماليه لمدينه القاهره، ومن المشروعات التي ساعدت علي هذه التنميه مشروع حفر خليج "قناه" جديده سنه 1325م/725هـ وهو الخليج الناصري علي بُعد 1200 متر غربي الخليج القديم، والذي كان يلتقي به بمحاذاه جامع بيبرس، وكلاهما كانا ياخذان الماء من نهر النيل في الجنوب[5].

[1] جاستون فييت: القاهره مدينه الفن والتجاره ص99، 100. ترجمه مصطفي العبّادي، مؤسسه فرنكلين للطباعه والنشر – نيويورك، 1968م.

[2] اولج فولكف: القاهره، مدينه الف ليله وليله ص96. ترجمه احمد صليحه، الهيئه المصريه العامه للكتاب – القاهره، 1986م.

[3] اولج فولكف: القاهره ص97.

[4] سلمي الخضراء الجيوسي واندريه ريمون واخرون: المدينه في العالم الاسلامي، فصل: "المدينه المملوكيه" لدوريس بهرنز 1/399.

[5] اندريه ريمون: القاهره تاريخ حاضره ص115. ترجمه لطيف فرج، الطبعه الاولي، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع – القاهره، 1994م.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل