المحتوى الرئيسى

أُنشودة رولان.. المسلمُ في الملحمة الشعبية الصليبية (2)

05/06 22:14

كنا قد توقفنا في مقالنا السابق عند رفض حاكم سرقسطه الحُسين بن يحيي الانصاري فتح ابوابه امام الملك الفرنجي شارلمان وحليفه الخائن امير برشلونه سليمان الكلبي، وما تسبّب فيه هذا التعنّت مع ثوره السكسون في شمال المملكه الفرنجيه من تصعيب المهمه علي شارلمان، فضلا عن وعوره المنطقه الشماليه في الاندلس، حيث سهوله قطع الامدادات علي هذا الجيش الجرّار من البشكنس الذين احتلّ شارلمان عاصمتهم في طريقه كما ذكرنا في مقالنا السابق، كل هذا مع الخطر الاكبر حيث امكانيه مباغته الامويين بقياده عبد الرحمن الداخل لهذه الجموع والفتك بها.

مع هذه الصعوبات المتلاحمه اُجبر شارلمان علي الرحيل والعوده سريعًا الي مُستقر مُلكه في فرنسا، لكنه حنق علي سليمان الكلبي، فاخذه اسيرًا مع عدد من بنيه.

وكعاده تلك الجيوش فانها لم تكن تتجمع في مكان واحد في طريق الذهاب والاياب، فضلاً عن تقسيمها العسكري حيث المقدمه والقلب والجناحين ومؤخره الجيش، وفي مؤخره الجيش كان رولان بطل الملحمه الفرنسيه هو قائدها، وفي منطقه جبال البرانس "البرانييه" وبالتحديد "رونسفاله" او "رونسيفو" تدخلت قوات البشكنس النصرانيه وفقًا لبعض الروايات اللاتينيه، وتبعًا للروايات العربيه فان القوات العربيه التي ارادت ان تفك الاسري العرب وعلي راسهم حاكم برشلونه الخائن هي التي هجمت علي مؤخره الجيش الفرنجي ومزقته عن بقيه الجيش، واجهزت عليه وعلي قائده رولان، لكن طبقا للمؤرخ الاسباني "رامون بيدال" فان البشكنس الذين سحق شارلمان عاصمتهم، قد تحالفوا مع القوات العربيه الاندلسيه وغيرها وكمنوا في بعض مضائق البرانس، وهاجموا مؤخره الجيش الفرنجي[1].

والحق ان انشوده رولان ذاتها تؤكد بجلاء علي مهاجمه الجيوش العربيه لمؤخره الجيش الفرنجي المُنسحب، وقتلها لبطل الملحمه رولان الذي – طبقا للملحمه - ضحّي بنفسه في شجاعه كانت سببًا في بعث المظلوميه الصليبيه في اثناء فتره الحروب الصليبيه فيما بعد، وحتي اذا تاخّر تدوين هذه الملحمه لبضعه قرون، الا ان الروايه الشفهيه من قبل، وتواترها كانت ادله جازمه علي ان المهاجمين لمؤخره الجيش الفرنجي كان اغلبهم من العرب.

تقول ابيات الملحمه ان الامبراطور شارلمان مكث في اسبانيا سبع سنين، دانت له فيها كل المدن الا سرقسطه التي ظلّ يُحاصرُها، وعندما ضعف صمود حاكمها الملك مارسيل، ارسل وفدًا الي الامبراطور ان هو فك الحصار عن مدينته وعاد الي فرنسا ان يدين له بالولاء ويُرسل له من خراج مدينته ما يشاء، وعندما سمع شارلمان هذه الشروط كان ممن عارضها بشده الفارس رولاند داعيًا الي اكمال الحرب ومعلنا ان النصر علي الاعداء قريب، وكان ممن ايدها "جانلون" احد شيوخ الامراء، وانتهي الامر الي الموافقه علي قبولها وارسال مندوب من قبل الامبراطور الي ملك سرقُسطه، وهنا اقترح رولاند ان يكون جانلون هو حامل رساله الامبراطور، لكن جانلون، الذي كان يخاف ان يقتله المسلمون رفض، ولم يقبل الامبراطور رفضه، واصرّ علي ارساله، فذهب مُضمرًا في نفسه حقدًا علي رولاند الذي اقترح اسمه وعازمًا علي الانتقام، وخلال رحلته اتفق مع ملك المسلمين علي ان يدبّروا كمينًا للتخلّص من رولاند الفارس الذي عاني منه المسلمون كثيرًا، وتم الاتفاق علي ان يحاول جانلون من ناحيته ان يجعل رولاند قائدًا علي مؤخره جيش الانسحاب، وان يجمع جيش مارسيل كل قوّاته ليوجّه ضربه قاضيه لهذه المؤخره وقائدها، وذلك ما تمّ تنفيذه في موقعه "رونسيفو"، وعاد الجيش الفرنسي حين علم بانباء هذه الموقعه، فوجد رولاند وجنوده قتلي، فانتقم من الجنود المسلمين اولاً ثم من جانلون الخائن ثانيا[2].

لماذا تاخّر التدوين الملحمي لثلاثه قرون؟!

لقد ظلت الروايه الشفهيه تعمل عملها لمده ثلاثه قرون متصله، رغم ان الروايه الرسميه التاريخيه ظلّت تؤكد علي ان الباسك او البشكنس هم الذين اجهزوا علي مؤخره الجيش الفرنجي، وربما كان التدوين الرسمي الذي اقرّ هذه الحقيقه المغلوطه نوعا ما، والتي خالفتها الروايات العربيه بل والاسبانيه فيما بعد؛ كان الغرض منها تقليل وقع الهزيمه علي المستوي النفسي للفرنجه النصاري، فان يُهزم الفرنجي علي يد نصراني باسكي خير له من هزيمه علي يد مسلم "كافر"!

لكن، مهما يكن من امر، فان التدوين الملحمي لم يبدا في الظهور الا بعد تلك الوقائع بثلاثمه عام كامله، وفي القرن الحادي عشر الميلادي/ الخامس الهجري.

لقد كان القرن الحادي عشر هو القرن الذي اتّسع فيه نفوذ الكنيسه والبابويه في اوربا اتساعًا هائلاً، وعرفت بدايات ذلك القرن باباوات مثل يوحنا الثاني عشر وجريجوار السابع الذين كانا يجبران ملوك اوربا علي الخضوع امامهما، وكانت رغبه البابويه المعلنه ان يتحوّل باس المسيحيين الي اعدائهم، بدلاً من الحروب والصراعات الداخليه التي كانت تشهدها اوربا، وكانت الاندلس الاسلاميه المجاوره هي اقرب مجال يمكن ان تتحقق فيه هذه السياسه، وخاصه ان مسيحيي شمال اسبانيا كانوا قد بداوا يكونون راس حربه ضد الوجود الاسلامي في الاندلس، ونظّمت الحملات الصليبيه الي اسبانيا، وجمعت لها النذور، واصدر البابا الكسندر الثاني صكوكًا بالغفران لكل من اشترك في الحرب ضد المسلمين في الاندلس، ثم اتسع نطاق الحرب المقدسه هذه الي بلدان المشرق الاسلامي، وجزر البحر المتوسط الاسلاميه، فانطلقت الحملات الصليبيه الممهمه كحمله العامه ثم الحمله الصليبيه الاولي وهكذا[3].

لقد جاءت انشوده رولان لتُحوّل موقعه "رونسيفو" في القرن الثامن الميلادي الي حمله صليبيه، قبل ان تُعرف الحملات الصليبيه بوقت طويل، وجعلت من شارلمان اباً للمسيحيه بتصدّيه للمسلمين الاسبان، وببنائه من قبل لكنيسه "سان ماري لاتيني" في بيت المقدس، ولكي تحقق هذا الهدف حوّلت شارلمان الي شيخ كبير عمره مائتي عام في حين كان عمره وقت الموقعه 36 عامًا، وحوّلت رولان الي فارس مسيحي مخلص لمسيحيته، حارب الكفار الذين يعبدون "محمدًا" – صلي الله عليه وسلم - ولا يحبّون الله، كما حوّرت الملحمه اسماء الشخصيات التاريخيه، فمارسيل امير سرقسطه ربما يكون تحويرًا لسليمان بن يقظان، وكثير من اسماء الملحمه الاخري تنتهي بحرف النون، وربما يكون بسبب تاثير انتشار العربيه والمغاربيه التي كانت تنتهي بحرف النون وقتها مثل عبدون وزيدون وخلدون وغيرها[4].

ان انشوده او اغنيه رولان كانت احدي الاغاني الحماسيه التي اُعيد احياؤها انذاك لتاثيرها العظيم في الدعايه للحروب الصليبيه، ولقد تنوعت وسائل هذه الدعايه من اول الاعتماد علي النصرانيه والقساوسه كمحفّز ومقدّس ينير للصليبيين الطريق، ويمنحهم الغفران، ويعدهم بالنعيم، مرورًا بالخطب، واحياء دروس التاريخ وغير ذلك، حتي الاغاني والاناشيد الدينيه والحماسيه!

لقد كتب "ميخائيل روتليدج" بحثًا مهمًا عن "الاغاني" ودورها في الدعايه للحملات الصليبيه، وفي تجسيد الصوره النمطيه للمسلمين، وبيّن الاثر الذي تركته في الوجدان المسيحي، وانها كانت تدور حول الحملات الصليبيه في المشرق والاندلس، وقد كثرت هذه الاغاني في اللغات الاوربيه المختلفه، وبخاصه الفرنسيه والالمانيه، ووقف وراء هذه الكثره ان عدّه شعراء كانوا يقودون الحملات الصليبيه. وتدور مضامين الاغاني حول تمجيد افعال الصليبيين، وتحريضهم علي الحجّ الي الاماكن المقدّسه، والمشاركه في الحروب الصليبيه، وتمجيد الابطال الصليبيين، وارجاع هذه الحروب الي اراده الربّ المسيح، علي حدّ تعبيرها، ثم انّها تُحرّض علي المسلمين، وتصورهم وثنيين ومعتدين وهمجيين، ومن هذه الاغاني انشوده انطاكيه، وهي قصه حصار انطاكيه سنه 1098م/491هـ، وتحكي انشوده الحمله الصليبيه، ومنها الملاحم الفرنسيه المعروفه بالماثر، وهي الماثر التي انجزها بطل او مجموعه او عشيره وعلي راسها انشوده رولان القديمه[5].

لذا هيّجت هذه الاغاني الحماسه في جموع العامه ممن لا يعرفون القراءه ولا الكتابه، فراحوا يندرجون في الحملات الصليبيه بكل قوّتهم، هم وابناؤهم وازواجهم، عسي ان يُطفئوا جمره الغضب، وينالوا الثار من هؤلاء المسلمين "البرابره" الذين قتلوا بطلهم الشعبي رولان!

اننا يمكنُ ان نتلمّس هذه المعاني المُهيّجه في بعض من نصوص هذه الملحمه، وهو ما نختم به مقالينا هذين عسي ان نكون قد عرفنا ما للادب والملاحم من دور في احياء التعصب، وشحذ الهمم للقتال!

66- الجبالُ عاليه والصخور تصعد نحو السماء، والاوديه سوداء، والفرنسيون يعبرونها بمشقه بالغه، والاحجار تنزلق من تحت اقدامهم، ويسمعون صوت الجيش المتحرّك من بُعد شديد. وعندما دخل رجال شارلمان الي فرنسا، وراوا "جاسكوني" تذكّروا ديارهم واولادهم وزوجاتهم، لكن "شارل" كان حزينًا، فلقد ترك في الاوديه السوداء لبلاد الاسبان ابن اخيه "رولان" الذي يحبّه كثيرا.

67- لقد ترك كذلك في اسبانيا، نقباءه الاثني عشر، اشهر الشجعان في جيشه، وعشرين الف فرنسي لا يخافون من الموت، ولكنه واصل المسير نحو فرنسا، ولم تغلبه مخاوفه، ولم يُظهر افكاره للاخرين ...

68- كان شارلمان حزينًا، وكان كل الفرنسيين يعرفون السبب، وكلّهم يخاف علي رولاند، واخذوا ينظرون الي سيف جانلون ومعطفه وخيوله المُحمّله!

85- اوليفيير: يا صديقي رولاند، صدّقني .. من الافضل ان تنفُخ في البوق.

رولاند: وحق الهي، لم يُلجئني امرؤ ابدا الي طلب النجده، ولن يستطيع احد ان يقول يومًا، ان رولاند كان خائفًا، وفي المعركه سوف اضرب الفًا وسبعمائه ضربه، وسترون الدم يخضب سيفي، وكل الفرنسيين شجعان مثلي، وسيفعلون كما افعل، وسيموت اهل اسبانيا[6]!

[1] انظر: محمد عبد الله عنان: دوله الاسلام في الاندلس 1/ 178، 179.

[2] احمد درويش: نظريه الادب المقارن وتجليّاتها في الادب العربي ص123، 124. دار غريب – القاهره، 2002م.

[3] درويش: نظريه الادب المقارن وتجلياتها في الادب العربي ص128.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل