المحتوى الرئيسى

ضرورة الثورة الدينية | المصري اليوم

05/03 00:01

احد الاشياء المفهومه بالضروره من الخروج المعجز للشعب المصري في 30 يونيو هو الحاجه الي ثوره دينيه تنهي الفضيحه التي الحقتها الجماعات الارهابيه التي حكمت، بوجه وسمعه وحقيقه الاسلام، ليس في مصر وحدها ولكن في المنطقة العربية بل والاسلاميه كلها. كانت ثوره 25 يناير امتحاناً اخيراً لنوايا من يتمسحون بالدين ويستترون خلف قداسته، فقد كشفت انهم اسري مصالح ومفاهيم ووجود يربطهم باستغلال الانسان والديكتاتوريه والتخلف، وان الفهم الذي يتمسكون به للدين يضعهم ضد التاريخ وضد تقدم الناس.

اصبح واضحاً بعد الطعن في الظهر والخيانه للنظام الذي حكم بعد يونيو، وللرئيس الذي انتخب باغلبيه عظمي، ان الترقيع لن يجدي، وان التاريخ والوقت والحاله السائده في العالم تطالب شعب مصر الذي عرف فجر فكره «الضمير»: ان فهمنا وتفسيرنا لدين الاسلام في حاجه الي شيء لا يقل عن الثوره. الدين: موضوع حساس محاط بالقداسه، وبحراس يحرسون مؤسساته، التي تحمي «الاعتقاد الرسمي» ولا تحمي الايمان الحق والقداسه التي لا تمس، لذلك ليس من حق اي شخص ان يتكلم في الثوره الدينيه، فتتحول هي الاخري الي تجاره تروج علي شاشات التليفزيون وصفحات الجرائد والمجلات. هناك محاولات جاده في مصر وعلي امتداد العالم الإسلامى منذ اكثر من قرن لوضع دين الاسلام في مكانه الصحيح، في قاطره التقدم الانساني، بعد ان تحول منذ قرون الي فضيحه فكريه، وتكلس وانغلاق انساني ادي الي ما نشهده منذ ما قبل 11 سبتمبر من عنف ودماء، وفجور ارهابي وفكري يطمس او يكاد، ما ينادي به الاسلام من سماحه وعلم ونور.

قدم محمد اركون الجزائري، صاحب الاصول الامازيغيه «البربريه»، الذي عاش وفكر وانجز في فرنسا (1928-2010) واحده من اصدق واهم المحاولات لنزع ستائر التخلف عن الفكر والحضارة الإسلامية: منذ ان اغلق الاجتهاد وحرقت الكتب وذبح الفلاسفه، عمل محمد اركون، وهو استاذ في السوربون الفرنسيه، ومستشار علمي لمكتبه الكونجرس الامريكيه- عمل لمده اكثر من خمسين عاماً في التفكير والتاليف، والمحاضره في محاوله احياء «المفاهيم الاساسيه» التي زرعها القران الكريم والسنه النبويه في تاريخ التقدم الانساني. لم يتخذ ثياب الداعيه ولم يشغل قنوات الجزيره «قرضاوي» ولم يلمع وجهه ويجمع الشباب في الجوامع والنوادي «عمرو خالد وخلافه»، ولكن الَّف وكتب وبحث وقدم للانسانيه مع غيره من شرفاء المفكرين الاسلاميين الصادقين، منذ امين الخولي حتي نصر ابوزيد والجابري والعظم، وعشرات غيرهم. ترسانه ضخمه من الفكر الحر والعقل المنير المسؤول الذي يجعل من الممكن الحديث عن بعث وثوره في الاسلام مكمله ومصححه لثوره ايران في بحر الاسلام الصاخب المتنوع الممتد من المغرب الي اعماق الصين.

مؤسسه «مؤمنون بلا حدود» في المغرب التي تعمل منذ سنوات وتصدر الكتب الجاده والابحاث في الرباط وبيروت، جمعت في محاوله رائعه لتجميع فكر الرجل واسهاماته الصادقه، التي اتهمت احياناً بالمروق والزندقه من اصحاب المصالح والبترو دولار والفكر الارهابي المظلم- جمعت اساسيات فكر الرجل واسهاماته في كتاب واحد يحمل عنوان «التشكيل البشري للاسلام»، يشكل واحداً من المراجع الاساسيه لما نتوق اليه في ثورتنا الغاليه من ثوره دينيه اسلاميه شامله.

الكتاب عباره عن حديث متصل علي امتداد اكثر من 250 صفحه يلخص فيه الرجل قبل وفاته بقليل (في سبتمبر 2010 في باريس) لاثنين من كبار الصحفيين المتخصصين، اكثر من 50 كتاباً ومئات المحاضرات، وراجعه بنفسه مع زوجته التي شاركته جهاده العلمي المتبتل، لتمزيق ستائر الجهل والتخلف والاستغلال السلطوي الذي قمع الفكر الاسلامي الحر، حتي انفجر في وجه العالم في شكل ذلك الارهاب القبيح. الكتاب موجود ومترجم في عربيه ناصعه (هاشم صالح)، لا اعرف بالضبط ما راي الازهر الشريف في فكر الرجل وكتابه، ولكن علي كل حال: الحلال بيّن والحرام بيّن.

ولد محمد اركون في عائله فقيره في قريه امازيغيه «من البربر» مجاوره لتيزي اوزو، حفظ القران في الثانيه عشره من عمره، وعمل مع والده البقال في التجاره فاتقن العربيه (العاميه غير القرانيه)، وتعامل ودرس في مدارس الاباء البيض (الكاثوليك: هناك ولد قديس الكاثوليكيه الاكبر القديس اوغسطين)، وتعامل مع التجار اليهود الذين منحتهم فرنسا المستعمره الجنسيه الفرنسيه، وقادته جدته العجوز الي بئر مقدس في الجبل حيث يستجاب الدعاء، عرف هناك التجربة الدينية الحقه التي لا تعرف التعصب والتي تعبد الخالق الواحد كلي القدره وصانع القدر والعدل، كما عرف اقصاء البشر واضطهاد الجزائر للعنصر البربري واقصاءه واحتقاره قبل حرب الاستقلال، ورغم دور البربر الهام في حرب الاستقلال الا ان نزعات العروبه ارتكبت جرائم اقصاء واحتقار للبربر (عبرت عنها روايه ابن الفقير: مولود فرعون).

عندما سافر اركون ليدرس في فرنسا احس بان تحريم التصوير والغاء الموسيقي ضربا روح الدين في مقتل، فقد احس وهو يدخل كاتدرائيه ستراسبورج في عيد الميلاد ويسمع موسيقي باخ في الخمسينيات، ويري النساء المصليات مع الرجال (بشيء مذهل يدوخ العقل)، عرف هناك كيف خانت الثورة الفرنسية مبادئها، وكيف مارس الدين المسيحي ممارسات تعيد التذكير بمحاكم التفتيش، وتعجب كيف يسمح الدين للانسان باستغلال واستعباد اخيه الانسان ثم يصلي ويعبد الله؟

درس طه حسين، وعندما وجه له نقداً عن غياب المنهج اعترض زملاؤه كيف يجرؤ علي نقد عميد الادب العربي، وبالغت الثورة الجزائرية في اقصاء البربر، كما اعترض اركون علي افكار ادوارد سعيد لدور المستشرقين في تحقيق التراث، وتذكر الفرنسي ماسينيون وما قدمه لادب وحياه وشعر الحلاج.

قالوا له: الوقت ليس للعلم والبحث الفكري الحر وانما للايديولوجيا التعبويه النضاليه، والغيت دراسه الفلسفه.

غابت كلمات العلم والعقل: يقول انا لست من رجال الدين ولكنني باحث في التاريخ، رجال الدين هم حراس الاعتقاد الرسمي وليس الايمان.

«لقد حفرت هوه عميقه بين كلام الله (القران) وبين الاسلام المعاصر الذي يتكون من تركيبات بلورها البشر بعد ان كان الاسلام قد ترسخ واكتمل».

«انهم يدرسون الاسلام في الثانوي والجامعه علي طريقه الجهل المطبق والعمي الفكري الشامل، حيث لا يوجد بصيص نور، هنا نجد انفسنا فيما وراء الاصول، نجد انفسنا داخل كارثه عقليه وصحراء من الفكر، نعم ان طريقه تعليم الدين تشكل كارثه في مجتمعاتنا، وهي سبب كل المشاكل الحاصله حالياً في الداخل والخارج».

انظر الي بنجلاديش.. هل تصدق الاموال التي تنفق علي بناء الجوامع الفاخره؟ اكثر من 60٪ من العالم الاسلامي امي، هذا الي جانب الارقام المفزعه للفقر.

اقلق كلام اركون المسلمين كما اقلق العرب.

«لم يصرخ العقل الديني قائلاً: لا، ابداً لن اقبل بذلك، لن اقبل باستعباد شخص بشري هو مثلي تماماً يشاركني صفه البشريه! باي حق افعل ذلك، ليت علماء الدين ثاروا علي ذلك، رغم ان كل تلك القرون كانت مليئه بالتعاليم الاخلاقيه، والمواعظ الدينيه والدراسات والفلسفات وكل ما شئتم من قيم».

لن احاول هنا استعراض الفصول الـ«11» التي يحويها هذا الكتاب القيم، ولن اناقش المشاكل التاريخيه التي ناقشها عن الفاظ القران (كان امين الخولي قد اثار هذا الموضوع في القرن الماضي)، كما لن اتعرض الي مشاكل: الناسخ والمنسوخ، او لسوره التوبه، او ايه السيف، فليس هذا مجاله وله علماؤه المتخصصون. اشير فقط الي عنوان الفصل الاخير: ما ينبغي ان يكون عليه «علم الاسلام».

عاصر اركون ثوره الطلبه في ستينيات القرن الماضي، وعاصر سقوط الايديولوجيات، وساهم في تطوير مناهج البحث التي يطلق عليها علوم ما بعد الحداثه، درس كتباً مهمله في التراث الإسلامي مثل كتاب: تهذيب الاخلاق.. وتجارب الامم لمسكويه، واكد ان مناهج البحث اللغوي والانساني والتاريخي التي تقدمها العلوم الجديده سوف تكشف ما في كتب التفسير من نقص وعوار.

ان نزع التعصب الاعمي الذي يفصل بين الاديان السماويه سوف يثري التجربه الدينيه، وان احترام وقداسه النص القراني لا يمنعاننا - بل هما يطالباننا - بالبحث عن الحياه النابضه والمعاني التي غابت وسمحت لامراض الغرض والسلطه بان تملا وجه الاسلام بالبثور.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل