المحتوى الرئيسى

حكايات "عباسية جدا"

05/02 11:18

سور حديدي ممتد، تتوسطه بوابه ارتفاعها 3 امتار، المكان يستظل بغابه كثيفه من الاشجار، تحيط به من كل اتجاه. مع اقترابنا من المكان نشاهد عدداً كبيراً من حراس الامن الموزعين علي المدخل الكبير، يحدّقون في وجوه الزوار ويشدّدون الاجراءات الامنيه، قبل السماح بدخول اي شخص.

كل هذا القدر من الحرص ربما يشبه اجراءات دخول جهه سياديه او سجن تابع لوزاره الداخليه، لكنها هنا لتامين زوار مستشفي «العباسيه للصحه النفسيه»، يزيد عليها ضروره موافقه الاداره علي استقبال زائرين في توقيت مخالف للاوقات المحدّده للزياره.

لا يعرف الزوار لماذا تُتخذ هذه الاجراءات؟ هل لحمايه المجتمع من المرضي النفسيين او لحمايه المرضي من مجتمع يتجاهلهم ولا يعيرهم اهتماماً، خاصه بعد ان تحول المستشفي من مكان لعلاج المرضي الي «دار ايواء» حتي لمن اكتمل شفاؤهم؟

رحله طويله من البحث اكتشفنا خلالها ان هناك 700 مريض، حالتهم الصحيه مستقره، لكنهم ما زالوا خلف الاسوار لسنوات طويله، لان اسرهم نسيتهم او تناست وجودهم، وهم السواد الاعظم من المرضي النفسيين، حيث يُقدّر عدد نزلاء المستشفي بـ1190 مريضاً، فاذا كان من بينهم 700 تعافوا او حالاتهم مستقره، وما زالوا يعيشون في مكان يوصف قاطنوه بـ«المجانين»، فهناك خلل يجب البحث في اسبابه، لان المستشفي الان تحول الي دار للمسنين، او ماوي لمن لا ماوي له، ولا عزاء لانسانيه المصريين.

«الوطن» دخلت مستشفي الصحه النفسيه لرصد هذه الظاهره، وبعد الاجراءات الرسميه المعتاده، والتفتيش والتاكد من سبب الزياره والتصريح بها من مدير المستشفي، وامام عنبر 15، استمعنا الي صوت قوي لـ«دي جي» و«ساوند سيستم» وصوت مرتفع لاحدي اغاني المهرجانات، كاننا دخلنا احد الافراح الشعبيه، اقتربنا من الجمع الذي مثلت سيدات مستشفي الصحه النفسيه اغلبه، حاله من البهجه بين النزيلات، عامل الـ«دي جي» يغيّر الاغنيه باخري اكثر صخباً، تتمايل السيدات في دلال، ويتراقصن علي انغام الموسيقي السريعه، يلتحمن ويبتعدن، تتوقف الموسيقي، فلا يتوقفن عن الرقص، تعود مره اخري اشد بهجه، في الحفل الذي اقامته الشئون الاجتماعيه بالمستشفي، للترفيه عن المرضي النفسيين لقسم «15» الذي يُعد من اكبر اقسام السيدات بالمستشفي. سيدات القسم تبدو علي ملامحهن الطيبه والموده، مع بعض التخوّف من الغرباء الذي لا يجعلهن مقبلات علي التعامل مع اشخاص لا يعرفنهم، حاولنا الاقتراب منهن، شغلتهن بهجه الموسيقي، تعايشن مع وجودنا داخل المكان، السيدات في عنبر 15 وغيره من عنابر المستشفي، حليقات الشعر، ملابسهن ليست اكثر من ملابس بيت بسيطه، جلابيب او بيجامات منزليه، لكنهن ما زلن يشعرن بانوثتهن، رغم خلع المستشفي عنهم اكثر تعبير عن مظاهر الانوثه، بحرمانهن من شعورهن.

انتهي الحفل، والتقينا بسيده اربعينيه، تبعناها الي عنبر 15، كانت تجلس علي سرير بسيط، ترتدي «جلباب بيتي» يمتزج فيه الابيض بالبرتقالي، وتغطي راسها بغطاء راس من التريكو الاحمر، وعلي عكس النظرات المترقبه خارج العنبر، واثناء الحفل استقبلتنا بضحكه بسيطه ووجه بشوش، تعرفنا علي «ف. ح» بعينيها المليئه بالاسرار. سيده تبلغ من العمر 41 سنه، ترفض الخروج من مستشفي العباسيه، بعد قضاء اكثر من 15 عاماً بعيده عن العالم الخارجي، وعن مبرراتها تقول: «انا مش تعبانه ومش باشتكي من حاجه، انا اصلاً تايهه من اهلي، وكنت عايشه مع ناس في شبرا مصر، اتربيت عندهم وانا عندي 8 سنين، ولما كبرت وبقيت شابه ابنهم اتجوزني عرفي، وامه لما عرفت اني حامل طردتني في الشارع، وفضلت ماشيه، فقابلني واحد قال لي تعالي عند امي في شبرا الخيمه، رُحت وخلفت ابني هناك، وبعدها بايام ابن الست اللي عايشه معاها ضربني، فهربت بابني ونزلت الشارع، وفي نفس اليوم شافني عسكري وقبض عليا، وجابني علي مستشفي العباسيه، وحطوا ابني في الملجا». توقفت عن الكلام وفكرت لثوانٍ، ثم قالت: «انا عايزه اخرج من المستشفي، بس مفيش حد يستلمني، الدكتور عايز يخرّجني، بس ماليش مكان بره، وماينفعش اقعد لوحدي، هنا المعامله كويسه، والاكل تمام، واتعلمت الرسم والقراءه والكتابه وصناعه السجاد، بس لاقيتها متعبه وماقدرتش اكمل، وزميلاتي في العنبر فيه منهم ناس كويسه وعاقله، وفيه ناس تعبانه، عايزين يخرجوا، بس اهلهم بيرجعوهم تاني، وانا نفسي اقعد في المستشفي، وفي نفس الوقت نفسي اخرج بره واشتغل وابقي حره نفسي، بس مشكلتي هعيش مع مين بره بعد ما اتعودت علي العباسيه».

قسم «30 جديد»، احد اقسام وحده السيدات المطوره، وكل نزيلاته من المرضي المتحسنات، وتجاوزت بعضهن الـ20 عاماً داخل المستشفي، من بينهن «ع. م»، تبلغ 41 سنه، قضت منها 16 عاماً خلف اسوار المستشفي بارادتها، فهي لا تريد الخروج، رغم ان مظهرها يختلف عن غيرها من النزيلات، فرغم بساطتها فانها تبدو انيقه، ترتدي ملابس عصريه، وتهتم بالاكسسوارات والزينه، وتغطي شعرها الحليق بـ«كاب» ابيض.. استقبلتنا بابتسامه لا تخلو من كبرياء يمتزج بالحزن، وقالت: «دخلت المستشفي من 16 سنه للعلاج من الادمان، والدي هو اللي جابني علشان اتعالج من البرشام اللي كنت باخده، وكان السبب في ادماني مجموعه من اصدقاء السوء، وعايزه اقول ان وجع القلب والمصايب مابيجيش الا من اقرب الناس ليكي».

وبنظره حزينه اكملت: «محدش من اهلي بيسال عليا الا (ايمان) بنت خالتي، هي اللي واقفه جانبي، وللاسف اخويا الوحيد، مابيجيش خالص، واكتر من مره خرجت مع اخصائيه حقوق المرضي، ورُحت لاهلي، لكن رجعوني مره تانيه، حتي خالي رفض استلامي، واخر مره اتصل المستشفي باخويا، فقال انه بيعتبرني متوفيه».

وعن اسباب عدم رغبه اهلها في تسلمها، تقول: «بصراحه انا تعبتهم قوي في علاجي، وكنت كل ما ابطل المخدرات، ارجع تاني، ولما صممت اني ابطل بقيت مريضه نفسيه، بس انا عملت شغل جامد في المستشفي، ومثلت مسرحيتين، عملت مسرحيه اسمها (جعلوني مريضاً)، وقمت فيها بدور فتاه جامعيه، ومسرحيه اسمها (جزيره المحبه)، واخر مسرحيه عملتها (عفريت لكل مواطن)، وقدمت فيها 3 ادوار، وكمان اتعلمت شغل السجاد، ولو فكرت في الخروج من المستشفي ابقي مجنونه بنت مجانين، لان هنا احسن من بره، هنا فيه رعايه ورحلات ومسرحيات وباكتب شعر وقصص وبارسم وممكن اكمل تعليمي، وخروج من المستشفي مش هخرج، عشان السمكه لما تخرج من الميه بتموت، وانا اتعودت علي هنا، هروح فين لو خرجت بره، اكيد هتبهدل عشان ماليش مكان بره، شوفي كام مريض نفسي مرميين علي الرصيف، لان اهلهم رفضوا تسلمهم، وبيقولوا عليهم مجانين».

في الغرفه المجاوره، امراه حفرت السنوات ملامحها، تجلس بسكينه، مرتديه جلباباً احمر قديماً جداً، تغطي شعرها بطرحه زرقاء وترتدي عقداً من الصدف في رقبتها، هي «سميره. م. ر» تبلغ من العمر 60 سنه، قالت: «بقالي في المستشفي 20 سنه، ودخلت المستشفي عشان جات لي حاله نفسيه، لما جوزي وابويا ماتوا، تعبت اوي وماعرفتش اعمل حاجه، ولا اقف علي بوتاجاز، ولا احلب بهايم ولا اخبز، وانا من الفلاحين من بلد في مركز الباجور منوفيه، وكنت باحلب واعجن واخبز، واروح الغيط اجيب برسيم للبهايم، بعدها اخويا جابني المستشفي، بعد ما عرضني علي دكاتره كتير، وكنت بادفع 300 جنيه شهرياً مقابل علاجي، دلوقتي باتعالج علي نفقه الدوله، ومبسوطه والحمد لله». وتضيف: «عندي 3 اخوات، اخ شقيقي، و2 عايشين في البلد، بس اخويا مابيخليهومش يجوا، هو بس اللي بيحبني، ومش عايزهم يجوا لي، علشان هما اخواتي من ابويا ومابيحبونيش، ومن 20 سنه اهلي جوزوني واحد متجوز وعنده اولاد، وخلفت منه ولد، وابني دلوقتي متجوز ومخلف عيال كبار، بس ما اعرفش بيشتغل ايه، هو موظف في وظيفه كويسه، وعايش في اسماعيليه، وانا لما جيت المستشفي اولاد جوزي خدوا ابني يربوه، ومنعوني اشوفه، وبقيت طول النهار الطم علي وشي من الزعل، وتعبت اكتر من الاول، وخلعت سناني من المرض اللي عندي، وبعدين الحمد لله والشكر لله، اولاد جوزي استنوا لما ابني كبر وبقي راجل، وجابوه لي اشوفه لحد ما اولاد جوزي ماتوا ومابقاش عايش غير بنات جوزي، وانا مش متضايقه ان اخويا دخلني المستشفي، لان مين هيراعيني في البلد، ومين اساساً اللي هيطيق واحده مريضه، وابني متجوز ومراته مش هترضي اعيش معاها ومع عياله، هيقدر ازاي يراعي عياله وانا تعبانه وجسمي بيرتعش، كانت بتيجي لي حاله عصبيه، بس احياناً ابني بياخدني البلد، اقعد 17 يوم ويرجعني تاني المستشفي، بس ماقدرتش اقعد في البلد، لان اهلي اللي هناك مش بيحبوني، ومحدش بقي يستحمل حد، والنوبه بتيجي لي في اي ساعه، وباتعب جداً ويجيبوا لي حقن وادويه علي ما اخف تاني». وتابعت وقد اكتست ملامحها بالحزن: «ابني واخويا محدش فيهم جالي في عيد الام وجاب لي هديه، كلهم ملهيين في اولادهم وزوجاتهم، وكانوا مواعديني ييجوا لي النهارده ولسه ماجوش، اهو منتظراهم من طلعه النهار»، وهي تشير الي جلباب اسود بجوارها، «شوفوا انا حاطه الجلابيه اهو علي السرير علي اساس البسها لما ييجوا ومالبستهاش لسه، هما بيزورني كل شهر مره، وساعات بيقطعوا الزيارات، بس انا في المستشفي مرتاحه وباكل واشرب، والعنبر فيه بوتاجاز، باجيب اكل علي حسابي، واسلق بطاطس واحمّر شويه رز، عندي اكل بتاعي، مش باكل اكل المستشفي، عشان بيعملوا الكوسه ميه، اكل المستشفي مش بيعجبني، انا باصحي كل يوم الصبح باخلي واحده تشتري ليا بجنيه بطاطس وجرجير، والناس هنا حلوين زي عسل النحل، وانا مش عايزه اخرج من المستشفي، اخويا لما اموت هيجي ياخدني يكفّني وخلاص، ويدفني في التُرب بتاعتنا اللي هنا، انا مش عايزه اروح البلد، انا كده مرتاحه، والمرض اللي بيجيبه ربنا واللي بيشفي ربنا».

ومن قسم السيدات توجّهنا الي قسم 27 رجال المخصص لمرضي الفصام، يضم 25 غرفه، لكن اداره المستشفي منعتنا من الدخول، وطلبت اجراء المقابله مع المرضي خارج العنبر، وعلي «مصطبه» مجاوره لعنبر 27، جلسنا الي جوار «ر. ا. ر»، يبلغ من العمر 60 سنه، وقضي في المستشفي 25 سنه، وبابتسامه ودوده وكلمات متزنه، قال: «كنت طالب في كليه الهندسه بالمطريه، وصاحب ورشه موبيليا وديكور في الفجاله، وكان عندي ورشه تانيه في غمره، بقالي في المستشفي 25 سنه، وكنت زمان طالب متفوق في دبلوم صنايع، وجبت مجموع ودخلت كليه هندسه، لكن للاسف تركت الدراسه وانا في اخر سنه، وده عملي عقده كبيره ومالقيتش وظيفه تليق بيا، الكل كان بيقول لي عايزين مهندس متخرج، وانت طالب ماتنفعش تشتغل، لكن اشتغلت في شركه او اتنين او تلاته، وكنت باسيب الشغل علي طول وماكنتش اقدر استمر في اي شغلانه، كنت باعاني من قله النوم، وافكر ليل نهار، وكان تشخيص الحاله اني عندي نقص في كيميا دم المخ، ورحت مستشفي (الرخاوي) في المقطم، وكانت تكلفه الشهر الواحد 1400 جنيه، وبعد سنين خرجت منه، بعدها حصلت خناقه بيني وبين صاحب البيت، كان عايز 20 الف جنيه عشان يسيبني في الشقه او يطردني منها، وده مبلغ كبير، فجالي ضغط عصبي شديد، ورجعت للمستشفي الخاصه، وبعدين خرجت منه وجيت مستشفي العباسيه». واضاف: «انا خلاص اتطبعت بطبع المستشفي، وبقيت هادي من كتر السنين اللي قعدتها فيه وكمان امي ماكانتش عايزاني ارجع البيت، منعاً للمشكلات اللي كنت باعملها مع صاحب العماره والجيران، وبعدين دلوقتي انا بقيت خايف اخرج بره، والناس يقولوا عليا مريض، ويرفضوا يتعاملوا معايا او يشغّلوني اي شغلانه، بس انا عندي امل في الحياه اني اخرج واشتغل واخد سكن لوحدي، او حتي لو زهقت من مستشفي العباسيه، هطلب نقلي لمستشفي الخانكه، اخواتي ناس طيبين، لكن معظمهم مش في مصر».

ومن قسم 27 انتقلنا الي قسم اول ملحق، وهو عباره عن عنبر قديم كان مخصصاً لخيل احد ملوك الدوله العلويه، عباره عن طرقه طويله تمتد لـ70 او 80 متراً بالطول، علي اليمين 30 حجره للمرضي، وفي احدي الغرف قابلنا رجلاً هادئاً يرتدي بيجامه زرقاء، ينظر الي من حوله نظره متانيه، بعينيه المليئتين بالتساؤل هو «م. ش» يبلغ من العمر 55 سنه، يقول: «عايش في المستشفي من اكتر من 20 سنه، وقصتي تبدا بعد حصولي علي شهاده الثانويه العامه، كنت متفوق وجايب مجموع كبير، واهلي دخّلوني كليه الطب، لانها من كليات القمه، لكن بمجرد دخولي الكليه حسيت ان الكليه مش علي هوايا وفي نفس الوقت حاولت اكمل الدراسه باي شكل من الاشكال، لكن للاسف سقطت، واتعرضت لصدمه عصبيه عنيفه اثرت علي اعصابي، وحاولت اتقرب لربنا واصلي، لدرجه ان اهلي اتصوروا ان عقلي خفّ، ودخّلوني المستشفي اول مره علشان اتعالج، وبدات رحلتي مع المهدئات، ولما ظهرت نتيجه الامتحانات ونجحت فرحوا جداً وخرّجوني من المستشفي، لكن تكرر الوضع مع كل مره اسقط فيها، تسوء حالتي واتعب لاني ماكنتش باحب الكليه، دخلت المستشفي وخرجت منه كتير، لكن حزني علي موت ابويا وامي اثر بشكل مباشر علي نفسيتي واتحولت من سيئ الي اسوا، ودخلت في حاله صوفيه، وبعدت عن مشكلات واطماع الدنيا كلها، والتصوف علمني اكون صافي من جوه في معاملتي مع الناس، ولما خرجت مره كنت اقول للناس اني كنت في المستشفي، فكانت الناس تقول لي غلط ان حد يعرف انك كنت في مستشفي العباسيه، مش كل الناس زي بعضها، وماينفعش تفضح نفسك مع الناس كده، وانا حالياً مستقر هنا، لان الناس بره بتعتبر المريض النفسي مجنون وده بيحبطني نفسياً، وكنت باسمع الناس تقول عليا (منخوليا) او (خانكه)، وده حطّم نفسيتي، علي عكس الناس هنا اللي تطلق علي لقب الشيخ، وشايفيني راجل طيب وبتاع ربنا، انا الحمد لله حالتي مستقره، ولو عايز اخرج هاخرج، واهلي بيحبوني وبيجوا يزورني كتير وبيدفعوا لي تكاليف المستشفي، ولو عايز اخرج عندي بيت العيله في العباسيه، عايش فيه اخويا واختي، بس في حاجه انا عايز اقولها انا مابقيتش عارف انا عايز ايه؟ اعيش جوه المستشفي ولّا اخرج، بس حبي للحياه مابقاش زي ما كان».

وفي نفس الغرفه وعلي السرير المجاور، يجلس رجل اربعيني يرتدي بيجامه خضراء يضع يديه علي وجهه وبنظره غريبه قال: «انا دخلت مستشفي العباسيه سنه 1984 لان اعصابي تعبانه وعندي عدم اتزان وكل ما اقف علي رجلي احس بدوخه واقعد تاني، وكمان كان عندي شلل في دراعي اليمين، لدرجه ان دراعي لم استفد به في اي شغل او اي شيء، انا متعلم معايا ابتدائيه وساكن في الطالبيه هرم، واهلي مش بيسالوا عليَّا كانهم مش موجودين في حياتي، مفيش اهتمام منهم وانا اصلاً كنت متجوز وطلقت وعندي ولد اسمه شادي متعلم ومعاه الاعداديه وبيشتغل دلوقتي سواق في دوله قطر مع عمه، ودي من ضمن الحاجات اللي مضايقاني انه سافر مع عمه ومش عارف ابعتله جواب او هو يبعت لي اي حاجه، بقالي سنه مشفتهوش من ساعه ما سافر مع عمه ومش عارف السبب، نفسي اسمع صوته او اشوفه، انا عندي 11 اخ واخت، 7 صبيان و4 بنات، لكن انا بتعصب علي اخواتي البنات وبعلي صوتي لما حد يتدخل في حياتي، مبحبش اكون تحت الميكروسكوب، وكتر العصبيه هي اللي بتجيبني المستشفي، وكمان اخواتي البنات بيتريقوا عليَّا ومعاملتهم معايا وحشه جداً ومحدش فيهم بيصرف عليَّا ولا فلوس ولا لبس، لازم اطلب منهم علشان اخد فلوس، ودي مشكله بالنسبه ليهم، عشان كده مش عاوز اخرج من هنا، ولو خرجت هشتغل مع اخويا هو مشارك علي مقله صغيره بيبيع لب وسوداني وحمص، هشتغل معاه فيها، لكن اخرج من المستشفي ازاي وابني خارج مصر بيشتغل بره يعني اخرج اعمل ايه؟».

صمت للحظات دمعت عيناه ثم قال: «نفسي اعيش مع ابني واخواتي واحس اني جوه عيله، لكن نظره الناس صعبه، انا خرجت قبل كده اكتر من 6 مرات من المستشفي ودخلتها تاني، كنت كل مره ادخل المستشفي اقعد سنه بره مع اخواتي واجي هنا شهرين بس لكن الحمد لله علي كل شيء دلوقتي انا حابب العيشه في المستشفي اكتر من بره».

الطبيب اشرف عجلان، اخصائي الطب النفسي، قال: «من خلال مناظرتي ومتابعتي لحاله هؤلاء المرضي لما يزيد علي العشر سنوات، فانهم بحاجه لنظره مجتمعيه اشمل واعمق اخذاً في الاعتبار حالتهم المرضيه المرفوضه من المجتمع وكذلك ظروفهم الاجتماعيه القهريه، حيث ان طبيعه المرض النفسي التي تفرض نوعاً من الاختلاف والناتج عن اسباب جينيه ووراثيه تظهر عند وجود نوع معين من التوترات المحيطه، ما يفرض علي المريض طوقاً من العزله والخوف من المجتمع غير المتفهم لحالته».

ويضيف: «كثير من المرضي متحسنون وقادرون تماماً علي الاعتماد علي انفسهم والقيام باعباء حياتهم اليوميه، ولكن تظل المشكله الاساسيه هي عدم وجود ماوي مناسب لاحتوائهم، وهنا نري احدي الحالات تعاني من اضطراب الفصام المصحوب ببعض الاضطرابات السلوكيه وقد بدات الحاله مصحوبه ببعض العدوانيه الموجهه للاهل علي سبيل المثال نتيجه الافكار الخاطئه المترسخه للمريض ما يسمي «بالضلالات» وقد تم التحكم بهذه الاعراض باستخدام العلاج الدوائي الفعال الذي يوفره المستشفي، وهو بانتظار قرار خروجه بعد اتمام الخطه العلاجيه، كذلك هناك حاله اخري، خريج احدي الكليات المرموقه تعرض لصدمه حسب المعلومات المتاحه من تاريخه المرضي ادت لصدمات نفسيه متكرره اضافه لاستعداده الجيني لظهور الاعراض الفصاميه، ودخل في مرحله التحسن نتيجه اعطائه العلاج المناسب لحالته، خاصه بعد خلق حاله من الاستبصار الجزئي عنده ما يمكنه من معرفه طبيعه مرضه واهميه السيطره علي اعراضه بالالتزام بالعلاج المناسب وعدم التوقف عنه الا بعد استشاره الطبيب المعالج، حيث ان الاضطرابات التي نعالجها هي امراض مزمنه بالاساس ولا يتم الشفاء منها كليه، بل قد يضطر المريض للالتزام بالعلاج مدي الحياه خوفاً من حدوث الانتكاسه المرضيه وللسيطره علي أعراض المرض وعدم ظهورها مره اخري».

الدكتور رضا الغمراوي، مدير المستشفي، يقول: طبقاً للماده 10 من قانون الصحه النفسيه رقم 71 لسنه 2009 فهناك نوعان من المرضي، وهما المريض الالزامي الذي يدخل المستشفي دون ارادته في حاله عدم وجود وعي او قدره عقليه بما يعانيه وفي الاغلب تاتي به اسرته لعلاجه وبالفعل يتم تقييم حالته من خلال اثنين من الاخصائيين النفسيين اللذين يقرران ان كانت حالته تستدعي العلاج داخل المستشفي ام لا، وفي حاله دخوله المستشفي يعرض علي اخصائي القسم وبعد 72 ساعه ياتي طبيب من المجلس القومي للصحه النفسيه يكون مسئولاً عن رعايه حقوق المرضي فيقرر هل هو مريض الزامي ويحتاج لدخول المستشفي ام لا، اما النوع الثاني من المرضي فهو المريض الذي ياتي الي المستشفي بارادته رغبه منه في العلاج مثل اي مريض يتردد علي اي مستشفي اخر، اما المرضي المتهمون الذين ياتون الي المستشفي عن طريق النائب العام فيتم احتجازهم داخل المستشفي في قسم خاص ويتم تحديد مدي قدرتهم العقليه ومسئوليتهم عن الفعل، وهل كان لديهم وعي كامل بارتكاب الجريمه لحظه ارتكابها ام لا. ويضيف «الغمراوي»: «المرض النفسي مثل اي مرض اخر، المريض اذا بدا علاجه بطريقه صحيحه يشفي منه او تستقر حالته، فالمرض يبدا علاجه من 3 اسابيع الي شهر ونصف ثم يعاد الكشف وتقيّم الحاله، فلو استقرت حاله المريض يستطيع ممارسه حياته بشكل طبيعي ويستكمل علاجه خارج المستشفي، مثله مثل اي مريض عادي، لكن هناك امراضاً يستغرق علاجها وقتاً طويلاً مثل مرضي الفصام فهناك 30% من المرضي تحدث لهم نوبه الفصام مره واحده فقط ويتم شفاؤهم و30% من المرضي يحتاجون للمتابعه والعلاج، اما باقي النسبه فهم المرضي الذين تتدهور حالتهم ولا يستجيبون للعلاج بسهوله لذلك يمكثون فتره اطول داخل المستشفي.

وحول المرضي المتحسنين صحياً ولكنهم باقون داخل المستشفي يقول «الغمراوي»: «المرضي الذين يمكثون لمده طويله حتي بعد استقرار حالتهم الصحيه يعود السبب الي اهل المريض الذين تكون لديهم مشكله في خروجه، حيث يشعرون بشيء من الخجل نظراً لما صوره الاعلام بان المريض النفسي عباره عن مجنون لا يستطيع التعامل مع من حوله، مما ترتب عليه ان الاهل في الغالب يعتبرون ان المرض النفسي وصمه عار في جبين العائله، ولو كانت هناك اسره بها مريض نفسي فسيؤثر علي سمعه العائله ويصعب زواج البنات، بالاضافه الي ان اي شخص ينتمي الي العائله لن يحتل مناصب عليا وهو ما يفسر وجود تلك الحالات داخل المستشفي دون ان يسال عنهم احد، بل ان بعض الاهالي يتركون لنا عناوين غير صحيحه حتي لا نصل اليهم، وقد وصل عدد المرضي المتحسنين صحياً المسموح لهم بالخروج من المستشفي الي اكثر من 700 مريض لكنهم بلا ماوي، لذلك عملنا اتفاقيه مع وزاره التضامن الاجتماعي ان يتم ايداعهم في مساكن خاصه تحت الاشراف الطبي خارج المستشفي».

واضاف «من ضمن العلاج النفسي العلاج بالعمل، وقد قام المستشفي بتعليم المرضي بعض الحرف المختلفه مثل فن الاركيت وصناعه الاحذيه وصناعه الموبيليا، وبعض المرضي لديهم هوايه الرسم فهم يقومون برسم لوحات فنيه يعبر بها المريض عن مشاعره واحياناً نقوم بعمل معارض للمرضي الذين لديهم موهبه الرسم، وقمنا بعمل معرض لمرضي التاهيل وتم بيع اللوحات كلها وثمنها عاد للمرضي».

وعن ميزانيه المستشفي قال: «المستشفي يعتمد علي ميزانيه مخصصه من الدوله لكنها تعتبر قليله، في نفس الوقت هناك اهل الخير الذين يقدمون تبرعات للمستشفي».

صادفنا نائب مدير المستشفي دكتور سامح حجاج الذي ركز علي ازمات المستشفي قائلاً: «المستشفي يعاني من مشاكل اداريه تحتاج حلولاً سريعه، والحلول غير متوافره علي الاقل في الوقت الحالي، فعلي سبيل المثال لدينا نقص كبير في عدد الاطباء، فمجموع الاطباء المسجلين علي قوه المستشفي يصل الي 235 طبيباً، نصفهم علي الاقل مسافر للخارج والنصف الباقي مقسم بين نواب او استاذه كبار في السن، ويرجع سبب الازمه الي موضوع الكوادر الماليه للاطباء في مصر، فمن غير المعقول ان ابحث عن اطباء مؤهلين للعمل في الصحه النفسيه واقول لهم تقاضوا ملاليم لان ميزانيه المستشفي قليله للغايه، بالاضافه الي ان هناك اقساماً ليست موجوده في المستشفي مثل المريض الذي لديه تخلف عقلي لا املك اي وسيله لمساعده هذا النوع من المرضي، اما المشاكل الاخري فتتمثل في ان اجمالي عدد المرضي النفسيين بالمستشفي يصل الي 1190 مريضاً، بينهم 700 مريض من المتحسنين الذين ظلوا في المستشفي لسنوات طويله وهو ما يمثل لنا مشكله في خروجهم، حيث ترفض بعض الاسر تسلم ابنائها والبعض الاخر بلا ماوي، رغم انهم يستطيعون ممارسه حياتهم بشكل طبيعي، وهناك البعض منهم لديه بعض الاعراض باقيه ولكنها لا تمنع خروجه من المستشفي واستكمال علاجه في المنزل، بشرط ان تكون لديه رعايه ومتابعه من الاسره، لكن للاسف عادات وتقاليد وموروثات المجتمع تجعل الاسر تتبرا من وجود ابنائها المصابين بامراض نفسيه، فتحول المستشفي من مركز للعلاج الي دار للايواء، وهذا يمثل مشكله اخري، حيث اننا مرتبطون بقبول عدد معين من المرضي يتناسب مع عدد الغرف والاسره الموجوده بالداخل، فكيف لي ان اقبل مرضي جدداً واين ينامون؟ ومن الناحيه القانونيه استطيع اعطاء تصاريح بالخروج دون اي مسئوليه علي المستشفي، لكن الضمير المجتمعي يمنعني من ذلك، لانه اذا حدث ذلك ستجد الشوارع مليئه بالمرضي، لانهم بالفعل ليس لهم اماكن تؤويهم او اشخاص تتابع حالتهم، خاصه ان المريض من كثره وجوده في المستشفي يشعر انه بيته الذي تعلم فيه وعاش بداخله لسنوات، ولكي يخرج من المستشفي يحتاج في المرحله الاولي لمتابعه من الاسره وان ياتي في ميعاده المحدد لاخذ علاجه من العيادات الخارجيه التي تصرف العلاج بالمجان، لذا يسعي المستشفي منذ شهور وبمجهود كثير من زملائنا، سواء اطباء او اخصائيين اجتماعيين او موظفين اداريين، بشتي الطرق لان تكون هناك قناه اتصال مع وزاره التضامن الاجتماعي لخروج المرضي بلا ماوي لدار تابعه لها ونحن كمستشفي العباسيه لدينا وحده رائده في مصر تسمي وحده طب المجتمع، اي ان المريض النفسي يجب ان يعالج في مجتمعه وليس احتجازه او حبسه في المستشفي، ونجحنا في خروج بعض المرضي المستقرين صحياً تحت اشراف «طب المجتمع» التي تعد وحده رائده جداً، لانها تتابع المريض في منزله، بدانا في تنفيذها منذ سنوات قليله نتيجه نقص في كوادر كثيره جداً، خاصه الكوادر المؤهله سواء في الاطباء او الاخصائيين النفسيين، فوحده طب المجتمع مقيده حالياً بعدد معين من هؤلاء الكوادر نامل في زيادته في الفتره المقبله، وهذه الوحده لديها حالياً 41 مريضاً، ولكن من الممكن ان تصل الي اكثر من 90 مريضاً في ظل الظروف الحاليه، ووحده طب المجتمع عباره عن فريق من المستشفي يخرج بسياره مجهزه بادويه خاصه تذهب الي المريض في منزله او تقيّم حالته وتعرف احتياجاته وتعطي له الدواء المناسب، بهذه الوحده نحقق اكثر من هدف، خروج هذا العدد من المرضي من المستشفي ومتابعته في منزله.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل