المحتوى الرئيسى

إيمان يحيى.. جراح يتقن «الكتابة بالمشرط» | المصري اليوم

05/01 00:15

لعل هذه هي المره الاولي التي يبدع فيها جراح عملاً روائياً فذاً، كل الاطباء الذين كتبوا من قبل الشعر او القص لم يمسكوا هذا المشرط فيما يبدو، كانوا اما اطباء نفسيين او ممارسين عامين، او ممن هجروا المهنه واثروا عليها الكتابه، من هنا فان ايمان يحيي يقدم لنا في روايته المدهشه «الكتابه بالمشرط» تشريحاً دقيقاً لحاله الدكتوره سعاد، التي عز علي الرجال ان تقف نداً لهم في قسم الجراحات التخصصيه في كليه الطب، خاصه رئيس القسم الاخواني الجشع المتامر الدكتور عامر النقلي، لا يمكن ان يكون عقلياً بطبيعه الحال، وتشريحاً مكبراً في الان ذاته للجامعات المصريه وما درجت عليه في العقود الاخيره من دفن مواهب ابنائها وقتل كفاءاتهم بالاحقاد الصغيره والاوهام الضخمه والفساد المتجذر، بل يبلغ الامر باتساع مدي دلاله الروايه ان تغري احد شخوصها ليقيم تناظراً لافتاً بين حاله الدكتوره سعاد وحاله مصر كلها في تهميش الشباب واحباط طموحاتهم بعد ثورتين ادهشتا العالم باسره، ولان الدكتور ايمان موهوب بالفطره وشغوف بهندسه عمله فانه يقع من الضربه الاولي علي بؤره الداء في المجتمع المصري الكاشفه عن بقيه مشكلاته المزمنه التي تعوق مسيرته الحضاريه، وهي الاستكانه الي الحس الديني المرتبط بالتعصب والمولع بالفتن الطائفيه الدخيله علي النسيج المجتمعي الاصيل، بدوافع ابعد ما تكون عن القيم الروحيه واقرب الي منطق المصالح والشهوات الخادعه، ولان المؤلف تلميذ نابغ لصنع الله ابراهيم فانه يشكل مشاهده بطريقه بصريه سينمائيه، ويسجل اسفل صفحاته ملاحظات توثيقيه تضفي علي عمله مصداقيه تاريخيه، فلا يترك ايه تفصيلات للحدس او الصدفه، بل يعقم شخوصه ويحدد مواقفهم وبوضوح قاصم، يختلف عن استاذه في النفاذ الي خلاياهم الداخليه، مخترقاً جلودهم ودهونهم وعضلاتهم ليبلغ مكمن الداء في نفوسهم والظنون في عقولهم، يستخدم الراوي العليم بادواره المتعدده، يتفحص شخوصه، يحاور نفسه وغيره، يحرص علي الخيط الدرامي المتنامي بمهاره بالغه، يوسع دائره الشان الفردي ليصبح مؤسسياً، ثم مهنياً واكاديمياً، وينتهي الي ان يكون وطنياً في اخر المطاف دون افتعال او ترميز متعسف، وهذا هو الاتقان التقني الذي يضمن التاثير الجمالي الفعال. تبدا المشكله في المشهد الافتتاحي بامر بالغ البساطه والعاديه، يرقب السيد رئيس القسم من شرفه مكتبه الخلفيه فتاه يافعه ترتدي حجابها الازرق السماوي ومعطفها الابيض المفتوح فوق بدله العمليات ذات اللون اللبني الفاتح - لاحظ الثراء البصري للمشهد - وهي تتكلم في حديقه المستشفي الخلفيه مع زميلها «ابنوب» مدرس مساعد الباطنه الطويل الرفيع الشبيه «بزعزوعه القصب»، انها الدكتوره سعاد التي تعمل عنده في القسم والتي سيبلغه بعد ذلك انها انتقدته امام استاذ اخر لاجرائه عمليات غير معترف بها تعرض حياه المرضي للخطر، والتي تتكالب عليها اطماع بعض زملائها الصغيره فيطلقون شائعات كاذبه عنها، مع استهانه بعض الاساتذه بضروره احترامها كانثي، كي تجعل من تعيينها في الدرجه العلميه معركه جامعيه طاحنه.

في هذه الروايه لكل شيء قصته الموثقه، فاسم «ابنوب» الذي يحمله الطبيب الشاب هو «تيمن باسم القديس الطفل ابانوب النهيسي الذي ولد في القرن الرابع الميلادي في طلخا وقت الاضطهاد، فاظهر كثيراً من الكرامات وصمد امام اهوال التعذيب في مشاهد اسطوريه، وكنيسته في سمنود يتسابق المسيحيون والمسلمون اليها لينالوا نعمه الشفاء بصلوات الطفل القديس»، لكن الملاحظه التي تفوق ذلك في الاهميه هي ان «الاسماء القديمه لشهداء الاقباط المصريين بدات في الانتشار في منتصف السبعينيات من القرن الماضي بعد ان كان من الصعب التفرقه في الاسماء بين الاقباط والمسلمين، حيث كان اختلاط الاسماء مظهراً لسياده المواطنه والمساواه، حتي جاءت فتره حكم السادات وتفجرت الطائفيه ومعها الفتن المتتاليه»، الراوي العليم عند الدكتور ايمان مؤرخ حصيف وجراح ماهر واستاذ جامعي متمرس لا يفوته شيء، وهو عندما يسلط ضوءه علي الدكتور عامر النقلي يؤثر ان يتبعه الي عيادته الخاصه كي يفضح خباياه، ويضيء سلوكه في الكليه، فهو قد وصل الي سده رئاسه القسم في الوقت نفسه الذي فقد فيه الاخوان والدكتور مرسي الحكم، مفارقه لافته، لكن اول ما قام به حينئذ انه ترك زوجته وابناءه يترددون بدلاً منه علي ميدان رابعه العدويه، واكتفي بان الغي موقع القسم علي الـ«فيس بوك» و«مسح جميع تعليقات الاعضاء ليبلغ رسالته للصغار بانه لن يسمح الا بالطاعه والانصياع للاوامر، اه لو كان قد فعلها مرسي، لقد اضاع الاخوان السلطه بميوعتهم وعدم حزمهم منذ البدايه»، «فاذا ما ذهبنا بعد ذلك الي عيادته الخاصه وجدنا الممرض يدفع اليه ظرفاً مغلقاً من (مركز الامانه للاشعه التشخيصيه) فيعدّ ما فيه ليجده ثلاثه الاف جنيه هي نسبه الدكتور عامر الاسبوعيه من تحويلاته الي مركز الاشعه»، الي جانب ذلك الظرف كان يتلقي ايضاً ظرفاً اسبوعياً اخر بنسبه تصل الي عشرين في المائه من «معمل الايمان للتحاليل الطبيه» وظرفين شهريين اخرين من صيدليتي الدكتور حسين والدكتوره شيماء مقابل توجيهه للمرضي للشراء منهم، الي جانب تذاكر السفر التي يتلقاها من شركات الادويه لحضور المؤتمرات الطبيه والسفريات الترفيهيه، والطريف ان الراوي يسرد ذلك باعتباره سلوكاً طبيعياً وان كان يورده فقط عن الدكتور عامر، بينما يقدم لنا نماذج اخري لاساتذه جادين مثل الدكتور الشربيني الذي يبدي حرصاً شديداً علي تعليم اسرار المهنه للاطباء الشباب خلال عملياته وجولاته المروريه التي يشرح فيها لهم اسرار تطور الحالات بدقه وصبر ويناقشهم فيها ويسمع اراءهم، وعندما تتجرا سعاد وتكشف عن سبب سوء حاله مريض الدكتور عامر يسجل لها احد زملائها ذلك ليبلغ بها رئيس القسم تزلفاً له وتحتدم المعركه، فاذا بالرئيس الاخواني يغري زميلين من تلاميذه سبق لهما مناقشه رسالتها للماجستير والثناء الموثق عليها ان يقوما بتغيير التقريرين لسحب الثقه منها ومنع تعيينها، وتحويلها للمستشفي طبيبه عاديه، ويحاول الدكتور الشربيني مساعدتها لانه نموذج اكاديمي مختلف، تزوج من زميله اجنبيه تقدس حقوق المراه وترعي شؤونها في القريه التي اثروا الحياه فيها بعيداً عن تلوث العاصمه، وعندما يدلي برايه في السياسه والاجتماع والحياه العامه نجده شديد الاعتداد بالفلاح المصري البسيط ومكره الذي اتخذه سلاحاً عند الحكام المستعبدين والمستعمرين، وفي احد حواراته مع ابنه يسجل رايه في حكام مصر الثلاثه بلهجه قرويه اصيله فيفضل منهم السادات لانه كان فلاحاً اصيلاً فعرف كيف يفاجئ اعداءه بالحرب، لكن خطاه الجوهري انه اسلم ذقنه للاخوان، اما عبدالناصر فكان وطنياً مخلصاً وصعيدياً شهماً، والشهامه لا تجدي في هذا العصر، ومبارك ليس الا «كمساري» اتوبيس لا يمنع احداً من الركوب ويضع ثمن التذكره في جيبه، فتجرف البلد في عهده، ومن ثم قامت الثوره التي اشعلها الشباب، وهنا نصل الي محور الروايه.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل