المحتوى الرئيسى

ذاكرة ماركيز لغانياته الحزينات ... هواجس الحب، الكِبَر، والموت..بين الحكى والشوف

04/30 18:45

رجل على عتبات عامه التسعين، أخفق فى الحب كمن حرمته فوبيا المرتفعات من التحليق، أدمن العاهرات كمن يفنى رئتيه على دخان سجائره، احتُبس داخل الذكرى فأكلت واقعه لآخر رمق. قولب خِصاله بين جلد بشرته وضربات قلبه، وعاشر العالم بروح خاوية منه. هذا الرجل المُربِك والمُربَك قرر فى يوم ميلاد عقده التاسع أن يقضى ليلة حب مع عذراء. المفرد الأنسب للفعل الماضى فى الجملة السابقة، "صمم" "تعنت" "عزم" فهى كلمات أليق بنبرة صوته الحاسمة وهو يأمر "روسا كاباركس" مديرة بيت المتعة أن تجلب له فتاة لم يطأ الجنس جسدها قبلا، يقول فى قطع " إنها مسألة حياة أو موت".

السطور السابقة تحمل فى جيوب كلماتها حيوية ملحوظة، شد وجذب، كر وفر، فضول، شغف. كل هذا لأنها معنية بوصف حياة رجل لم يكن سعيدا أو حزينا، راضيا أو ممتعضا. وإنما مغمورا من كل حال بنفحة، لم تركد مياه وقته وإنما تغلى تحت شعلة الإستكشاف، القدرة على الرفض، وهبة القبول الغير مشروط بزمنه المناسب. رجل صفة الجمال فى حياته تأتى من بشاعتها...

قلم ماركيز، محنك، خبيث لدرجة قادرة على صياغة هذه الترنيمة المعقدة. يتفوه بها بكلماته فى انسيابية وحذق، يرمى إليها ببعض النبض فى مواضع، ويمنحها الموات فى أخرى، وعلى ذات الوجهين تتم النشوة. فرواية ماركيز "ذاكرة غانياتى الحزينات" تمثل تحديا بليغا أمام صانع السينما. موضوعا أفقيا متفرعا، خيوطه مشعثة هائشة لا يمكن الإمساك بتلابيبها منتطمة. رحلة نفسية محسوسة، الملموس منها فوقه عدد من علامات الإستفهام المقصودة. فماريكز على مدار صفحاته يقل لنا "اشعر" "فكر" ليس فى المطلق، وإنما فى إطار حدوتة هذا العجوز الذى كلما دنا الموت منه جافاه.

Memoria de mis putas tristes (2011)

قدم المخرج  Henning Carlsen عام 2011 رؤية بصرية قوية لرواية ماركيز. نسخة سينمائية مختلفة الإطلالة، تحمل شخصيتها وهويتها المؤثرة إذا ما قورنت برواية ماركيز. تبدأ من حيث تعى موطأ نهايتها. خالقة حالة ملحمية مرئية، تليق بخيالات العجوز، حقيقة حياته، وماضيه المغلف بالذكرى.

من أهم دعامات سيناريو فيلم carlsen آلية السرد التى لجأ إليها. والتى خلقها وفقا لمحاولة توليف البراح الذى يملكه ماركيز على الورق، وحتمية التزام المفروض على النسخة البصرية وفقا لطبيعتها. وهى المعضلة التى سبق وأخفق أمامها كبار المخرجين حينما حاولوا مجاراة روايات لن تأبى حالتها أن تغادر صفحاتها لأى مكان آخر. بينما السيناريو هنا خلق خطه المستقل، ونهجه الخاص فى السرد معتمدا على خاصية الفلاش باك، وحرفية التقطيع المونتاجى للمشهد الواحد، بحيث يتم موازاته مع مشهد آخر يلائم سياقه.

ففى أول الفيلم نجد العجوز يرفع سماعة التليفون، ويهاتف روسا كاباركاس آمرا إياها فى اقتضاب أن تهيأ له الصغيرة. يُقتطع بقية المشهد لصالح التيترات وبداية خيط ذكريات الطفل العاشق لأمه، والذى لم تثنيه مراحل نموه عن التملص من شبح وجودها، وخاصة فى مرحلة الكِبَر، وبين ظلال الشيخوخة. هكذا يتحرك السيناريو فى مسافات آمنة بافللاش باك، يعلم متى يفتح لها بابا بين أحداث الواقع، ومتى يغلق منفذها. كل هذا يحدث فى أناقة ورقى. ويعطى مجالا لإمتصاص ماء الحياة الموجودة فى حواديت النساء التى خلقها ماركيز فى دنيا هذا الرجل. أمه"فلورينا"، خادمته"دميانا"، خطيبته التى لم يتزوجها"شمينا"، عاهرته"كاسيدا" وعذرائه التى غرق فيها"ديلغادينا". كلهن يتشابكن فى حكاية واحدة، حكايته هو. وقد وعى السيناريو لذلك جيدا، فجعلهن بكل تطرفهن فى الإختلاف مرآه له، وعكس فيهن صورته ومعاناته على مدار سنوات حياته الماضية و الآنية والآتية. فكانت عقبات الزمان، والحدث، والشخصية. عوامل كفيلة بأن تُعتَبَر عبأ، وتداخلها وحده قد يودى بأى سيناريو سينمائى إلى الخواء. فأحيانا من فرط ثِقل المادة السرودة، تخِف وقائع سردها، وتخلو من المتعة والحيوية. ولكن السيناريو هنا أحكم شباك الخيوط، ومنحها انتظاما لم يخل بفوضايتها. فبدا الماضى والحاضر متناغما، وصب تعدد الشخصيات بإقتضاب حكاياتها فى مصلحة جمال الحدوتة، تماما كما حدث فى رواية ماركيز، من حيث تطبيق المنهج والفكرة، بعيدا عن مدى نسبة نجاحه. فالعجوز يضع الوسادة على وجهه بعدما تحرجه خادمته دميانا بإخلاصها فى حبه، ومن ثم تنتقل بنا اللقطة على نفس الحركة التلقائية التى فعلها حينما قرر التخلى عن شمينا خطيبته.

فى السرد خرج السيناريو عن المألوف، واستخدم تكنيكا شاعريا فيه من شخصية كتابة ماركيز عموما، ولكنه فى الوقت نفسه لم يمس شكلها العام. فتراه يحول المكالمات الحادثة بين العجوز ومدام كاباركاس إلى تناجى مُلهِم، لا يتقيد فيه كل منهما بالهاتف إلى جانبه، على الرغم من أن المشاهد يعى تماما أنهما يتحدثان على الهاتف. وإنما حررهما من حقيقة ما يحدث، ونقل حديثهما إلى مستوى آخر من الوعى، نشعر فيه بمهابة علاقتهما ذاتها. فلا تبدو أمامنا مدام كاباركاس مجرد قوادة رخييصة، ولا العجوز كهل مهتاج يرغب فى مراهقة. فى مشهد آخر، يقف العجوز وهو فى ذروة أزمته النفسية بعد ضياع ديلغادينا من يده، والكاميرا تطير حوله بإنسيابية فيتحدث للعدم عن موته من الحب. إنها لحظة تجريدية، خرجت عن سياق المنطق، واستحضرت روح السرد الماركيزى، وواقعيته السحرية فى الحكى.

اجترأ سيناريو الفيلم على إحداث تغييرات ملموسة فى الأحداث. منها تفعيل دور ديلغادينا، ومنحها حضورا أوضح حتى وإن مازال صامتا. ولكنها بدت أبرز فى الكادر، ردات فعلها مُسلط عليها الضوء، ورغباتها تقفز من عينيها، عكس ما تنطوى عليه الرواية، فديلغادينا ماركيز لم تتبدى ولو لحظة حقيقة، ملموسة. ارتُسمت فقط على صفحة قلب العجوز، ولم تنفرد بها توصيفات الكتابة. بينما كانت من رؤى عاشقها، ووصلت إلينا من بين ضلوعه. ليس ثمة مقارنة ما بين المعالجتين، ولكن يظل الستار الخفى الذى أوقف ماركيز ديلغادينا خلفه، سبب أدعى لإثارة الشغف والفضول.

من ما تميز به السيناريو، صياغة العلاقه بين العجوز ووالدته بطريقة مقتضبة ومكثفة. فمن خلال مشاهد الفلاش باك وخيالات الحاضر يتبين لنا تأثير الأم فى حياة هذا الكهل. شبح عذريتها وبرائتها الخفى، الذى أنهكه وملاه بالإشمئزاز لحبه العاهرات. هذا الشبح الذى دفعه للغرق فى براءة ديلغادينا، بإعتبارها رمزا للطهر والنقاء، وهو نفسه الذى رماه على حافة الخَبل حينما ظن أن ديلغادينا تحولت إلى عاهرة، فزهدها وجافاها، ونبذ معها ذكرى أمه التى وظفها السيناريو بمنتهى الذكاء على مدار أحداث الفيلم. ذلك المشهد العذب الذى كان يستحضره الكهل وقت طفولته، وهو يقف بقامته القصيرة ليشاهد أمه وهى تغنى مع ضيوفها، فيراها أميرة لا ينقص من هالتها فى نفسه شيئا، بينما وبعد حادثة شكه فى عُهر ديلغادينا، وصدمته فى أرستقراطية والدته حينما علم بإستبدالها لأحجار قرطيها الأصلية بأخرى مزيفة، تتبدل صورة أمه فى خيالاته، فيرى نفسه وهو يتنده عليها، بينما تشير إليه بلامبالاة وهى منهمكة فى غناها بأن يصمت، فإذا به وفى هذه اللحظة بالذات يصارحها بأقذع حقيقة يكرهها فى نفسه، فيقول "لقد أصبحت عجوز الآن". ولقطات أخرى مقيتة، لا يتحمل فيها هلاوسه بحضور أمه، الذى سبق ورحب به مرارا منذ بداية الفيلم، فينزاح اللمعان الذى كان فى زياراتها الخيالية، ويبدو وكأنه مطاردة من سيدة شمطاء لا يُحتمل عبأ وجودها. كل ما سبق حلول مبتكرة ومجدية، للتأصل فى رحم هذه العلاقة التى حكمت فى جزء كبير منها حياة العجوز، ووجتها بشكل غير مباشر.

هاجس الكِبر، رسم الفيلم له صورة متقدة واعية. حمل المتفرج على الشعور بهلع هذا الكهل من شيبته، فى كل خطوة يخطوها شعيراته البيضاء تحيل بينه وبين شغفه، رغم أنها قد تكون هى ذاتها أحد دواعى هذا الشغف، ولكن الخوف حال بينه وبين التأمل. ففى موقف عصيب لا وقت فيه للوجع من الشيخوخة، تنعكس صورته على صفحة مرآه بترتيب المصادفة، فإذا به ينخلع لمنظره فيها، متناسيا الجثة الواقعة تحت قدميه، والتى تستحثه مدام كاباركاس أن يعاونها فى مواراتها. على الجانب الآخر، يقف الفيلم عاجزا، متراجعا أمام التعامل مع هاجسه تجاه الموت، فى الرواية، يبدو البطل متنغصا بحضور الموت كل لحظة، حتى فى ثنايا حضوره لحفل موسيقى بلغ به ذروة المتعة. فمّثل تجاهل الفيلم لهذه المشاعر نقطة ضعف قوية، أنقصت من شكل حالة العجوز بأكملها.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل