المحتوى الرئيسى

في الدفاع عن «التعذيب» !

04/26 07:07

لان «بعض» الظن اثم، فلم اشا ان اصدق ان هناك، «دفاعًا عن التعذيب» من ازعجه ان يكون هناك مشروع لتجريمه، كما لم اشا ان اصدق ان صله قرابه او عمل او تحيز لاستقلال القضاء كان وراء ما قراناه من خبر احاله قاضيين للتحقيق «علي خلفيه اشتراكهما في اعداد دراسه قانونيه تكون اساسا لمشروع قانون لمكافحه التعذيب داخل السجون واقسام الشرطه ومقرات الاحتجاز» كما جاء في نص الخبر، ولذا حرصت علي ان احصل علي نسخه من الكتاب / الدراسه موضوع الاتهام لاتبين وافهم.

«لا تغيير هناك.. ستسير علي نفس السياسه .. وستجد الاعذار لما تفعل» جان بول سارتر في رائعته «تاريخ طاغيه»

الخبر، الذي نشرته جريدة الوطن (١٢ ابريل ٢٠١٥) بعد ايام فقط من اعلان «المجلس القومي لحقوق الانسان» شهادته عن التعذيب الذي تعرض له طلاب محبوسون «احتياطيا» في سجن ابو زعبل يقول بان قرار التحقيق مع المستشارين هشام رءوف الرئيس بمحكمه استئناف القاهره، وعاصم عبدالجبار، نائب رئيس محكمه النقض، جاء نتيجه لما ورد «بتحريات الامن الوطني» (!) والتي اشارت الي ان المستشارين «شاركا في وضع مشروع قانون لمكافحه التعذيب داخل السجون واقسام الشرطه ومقرات الاحتجاز» (!) وان الدراسه «القانونيه» جري توزيعها علي رجال القضاء (!) وان الدراسه كشفت عن وجود عوار في قانون العقوبات فيما يتعلق بجريمه التعذيب، لعدم اتفاق نصوصه مع الاتفاقيات الدوليه الموقعه عليها مصر بشان مكافحه التعذيب.

بغض النظر عن ما ورد في الخبر عن طبيعه الاتهامات محل التحقيق، وبغض النظر عن ما يشير اليه الخبر «دون حرج» من ان جهه «امنيه» تتحري عن نشاط القضاه، المفترض انهم «مستقلون»، وما يذكرنا به من كلام لرئيس الجمهوريه الاسبق (محمد مرسي في ٢٣ نوفمبر ٢٠١٢) كنا قد استنكرناه وقتها عن تقارير «امنيه» عن لقاءات لاعضاء هيئات قضائيه، فشكليا، ونحن نعلم ان القضاه يعنون بالشكل كما المضمون، فالكتاب الذي امامي لا يحمل غير اسم المستشار رءوف، اما المستشار عبدالجبار. فحسب ما ورد في الكتاب (ص ٢٠٩ و٢١٠)، فان دوره اقتصر علي اداره احدي حلقتي النقاش حول مضمون الدراسه، في حين ادار الحلقه الاخري المستشار عادل ماجد نائب رئيس محكمه النقض، واستاذ القانون الفخري بجامعه درهام بالمملكه المتحده. وان قائمه المشاركين في حلقتي النقاش ضمت كوكبه من القضاه ورجال النيابه واساتذه القانون (يزيد عددهم علي العشرين). فضلا عن ان الدراسه (موضوع الاتهام) ضمت بين دفتيها ورقتين اعد احداها الدكتور ايمن سلامه استاذ القانون الدولي العام باكاديميه ناصر العسكريه، والاخري اعدها الدكتور فخري صالح كبير الاطباء الشرعيين الاسبق.

اما في «الموضوع»، وبعيدا عن سير تحقيقات قضائيه لن نتطرق اليها (كما اشرت الي حرصي علي ذلك في مقال الاحد الماضي)، فسيقتصر جهدي هنا علي ما تسمح به هذه المساحه من اطلاله سريعه علي صفحات الدراسه القانونيه / الكتاب (موضوع الاتهام).

في مبحث تمهيدي عن «الوضع التشريعي للتعذيب»، تستعرض الدراسه كيف جرمت الدساتير المصريه المختلفه التعذيب، ويذكرنا بنص الماده ٥٢ من الدستور الحالي: «التعذيب بجميع صوره واشكاله، جريمه لا تسقط بالتقادم». وكذلك بالماده ٥١: «الكرامه حق لكل انسان ، ولايجوز المساس بها، وتلتزم الدوله باحترامها وحمايتها». ثم بما كان في الماده ٥٥ من تفصيل: «كل من يُقبض عليه، او يُحبس، او تُقيد حريته تجب معاملته بما يحفظ عليه كرامته، ولا يجوز تعذيبه، ولا ترهيبه، ولا اكراهه، ولا ايذاؤه بدنيًا او معنويًا، ولا يكون حجزه، او حبسه الا في اماكن مخصصه لذلك لائقه انسانيًا وصحيًا، وتلتزم الدوله بتوفير وسائل الاتاحه للاشخاص ذوي الاعاقه. ومخالفه شيء من ذلك جريمه يُعاقب مرتكبها وفقا للقانون.

وللمتهم حق الصمت. وكل قول يُثبت انه صدر من محتجز تحت وطاه شيء مما تقدم، او التهديد بشيء منه، يُهدر ولا يُعَول عليه».

ثم تشير الدراسه في هذا المبحث الي كيف يجرم الدستور انتهاك الحريات الشخصيه، وكيف ان مثل تلك الجرائم لا تسقط بالتقادم. فتورد نص الماده ٩٩: «كل اعتداء علي الحريه الشخصيه او حرمه الحياه الخاصه للمواطنين، وغيرها من الحقوق والحريات العامه التي يكفلها الدستور والقانون، جريمه لا تسقط الدعوي الجنائيه ولا المدنيه الناشئه عنها بالتقادم، وللمضرور اقامه الدعوي الجنائيه بالطريق المباشر…»

ربما لا جديد في تلك النصوص، فمن لم يقراها، او لم يتذكرها منا، هو في الاغلب واحدٌ من الـ ٩٨٪ الذين وافقوا علي الوثيقه الدستوريه التي من المفترض (ان كنا دوله قانون) ان تكون محل احترام من اجهزه تلك الدوله.

للتعذيب تاريخ ـ الرسم من القرن الثامن عشر

حينما ينجح «الديماجوجيون» في اسكات اي صوت يحاول ان يُنبه الي حقيقه ان لا وطن قويًا، الا باحترام كرامه مواطنيه. وان التاريخ يحفل بهزائم دول تصورت انظمتها ان لا قيمه لحقوق الانسان او كرامه المواطن او حريته

وبعد ان تستعرض الدراسه الاتفاقات الدوليه الموقعه من الحكومه المصريه، والنابعه من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وبينها «الاتفاقيه الدوليه لمناهضه التعذيب»، تلفت الدراسه انتباه جهات انفاذ القانون في مصر الي نص الماده ٩٣ من الدستور الحالي: «تلتزم الدوله بالاتفاقيات والعهود والمواثيق الدوليه لحقوق الانسان التي تُصدق عليها مصر، وتصبح لها قوه القانون بعد نشرها وفقًا للاوضاع المقرره». مما يعني ان المحاكم المصريه تستطيع تطبيق نصوص الاتفاقات والمعاهدات والمواثيق الدوليه المتعلقه بحقوق الانسان «دون لزوم وجود نصوص بشانها صادره من المُشرع المصري».

ويُذكرنا المستشار رءوف هنا بان محكمه جنايات امن الدوله طوارئ بالقاهره (في اواخر الثمانينيات من القرن الماضي) قامت بتطبيق نص اتفاقيه دوليه خاص باقرار حق الاضراب، دون وجود نص قانوني «وطني» يسمح بذلك، فانتهت الي الحكم ببراءه جميع المتهمين في القضيه التي عُرفت اعلاميا بقضيه اضراب السكك الحديديه.

لن تسمح تلك العجاله بالطبع بعرض واف لما ورد في الدراسه الدسمه من مباحث «قانونيه متخصصه»، ولكن تكفي الاشاره الي ان هناك مبحثا يناقش فيما يزيد علي ثلاثين صفحه «الركن المادي» وكذا المعنوي لجريمه تعذيب متهم لحمله علي الاعتراف (علي سبيل المثال) طارحا وجهه النظر القانونيه، مستندا بعديد احكام من محكمه النقض في الاجابه عن اسئله من قبيل: 

ــ هل تستوي حاله الاذن بالتعذيب مع حاله الامر بالتعذيب؟

ــ هل يمكن للموظف العام التحجج بانه كان مامورا بالقيام بما قام به من تعذيب؟

ــ ما هي شروط «صحه الاعتراف»، وسلطه محكمه الموضوع في الاخذ به؟

من الادبيات القانونيه تورد دراسه رءوف نص حكمين تاريخيين، احدهما صدر في الخامس من ديسمبر  ١٩٣٢ عن محكمه النقض (برئاسه سعاده عبدالعزيز فهمي باشا) وذلك في الطعن رقم ٢٤٢١ لسنه ٢ قضائيه، والمتعلق بقضيه مقتل مامور البداري علي يد اثنين من الاشقياء، اذ تصف المحكمه في حيثيات حكمها طريقه معامله المامور «المجني عليه» للجناه بانها كانت «اجرام في اجرام» والمثير ان اوصاف تلك المعامله الوارده في حيثيات الحكم الصادر عام ١٩٣٢، لا تكاد تختلف عن ما نسمع مثله اليوم في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.

تورد الدراسه ايضا نص الحكم الصادر في الحادي عشر من فبراير ١٩٩٠ عن محكمه امن الدوله العليا طوارئ (برئاسه المستشار محمد سعيد عشماوي) في قضيه التنظيم الناصري المسلح ١٩٨ لسنه ١٩٨٦ كلي وسط، والتي قضت فيها المحكمه ببراءه جميع المتهمين، بعد ان اشارت الي وقائع تعذيب المتهمين. وقالت انها «لاحظت ان المطاعن التي كانت توجه عاده الي محاضر الضبط قد استطالت حتي وصلت الي محاضر تحقيق النيابه العامه، مثل الاتهام بعدم الحيده وعدم اثبات كل الاقوال والواقعات والتهديد بالايذاء ومجامله رجال الضبط وغير ذلك» موصيه بتعديل تشريعي يبتعد بالنيابه عن تحقيق القضايا ذات الطابع السياسي، ويحيلها الي قاضي تحقيق. معتبره ان هذا التعديل التشريعي هو وحده الذي «يضمن حقوق المتهمين في قضايا الراي والقضايا السياسيه، حيث يستشعر بعض رجال الامن خصومه قبل هؤلاء فيحيدون عن الجاده ويتردون في التعذيب».

بين الحكمين ستون عاما من الزمان، فهل ثمه ما يتغير.

ماذا قالت «تحريات الامن الوطني» عن القضاه «المفترض انهم دستورا مستقلين»، وعن مشروعات قوانين وافق عليها مجلس الوزراء (!)

في نقاش طويل مع احد قضاه جنوب افريقيا القريبين من تجربتهم المميزه في العداله الانتقاليه Transitional Justice, سالني الرجل الوقور، اذا ما كان لدينا قانون او «تدابير لحمايه الشهود»، موضحًا انه بدون هذه التدابير، تفقد لجان تقصي الحقائق قدرتها العمليه علي معرفه الحقيقه. 

في المقترحات التشريعيه الوارده نصوصها كملاحق ضمن دراسه المستشار رءوف (موضوع الاتهام) مقترحٌ متكامل «بمشروع قانون لحمايه الشهود والمبلغين والخبراء»، الي جانب ما يمكن تسميته «بمشروع قانون لمكافحه التعذيب» وذلك بمشروع لتعديل بعض مواد قانون العقوبات رقم ٥٨ لسنه ١٩٣٧، وقانون الاجراءات الجنائيه رقم ١٥٠ لسنه ١٩٥٠.

المثير، والذي قد لا يعلمه الكثيرون ان المشروعين اللذين ينتصران لحقوق الانسان، واللذان هما موضوع الاتهام (حسب خبر احاله المستشارين للتحقيق) هما ضمن اوراق الدوله الرسميه، وضمن مضابط ومحاضر جلسات حكومتها. اذ كانت وزاره العدل قد اعدتهما ايام المستشار / الوزير احمد مكي، وارسلت بهما بالفعل الي مجلس الوزراء في فبراير ٢٠١٣، وناقشهما المجلس، ووافق عليهما، وارسل بهما الي مجلس الشوري حينئذ. الا ان المشروعين لم يُستكملا ابدًا بالاصدار ليصبحا ضمن قوانين الدوله، لا ايامها، ولا ايام الرئيس المؤقت عدلي منصور، ولا خلال ما يقرب من عام من حكم المشير السيسي والذي صدر فيه ما يزيد علي مائتي قرار بقانون.

المشروعان موضوع الاتهام اذن هما من اوراق الدوله الرسميه، ووافقت عليهما الحكومه التي كان الرئيس السيسي وقتها احد اعضائها (!) ارايتم اين تذهب بنا تقارير تحريات الامن الوطني؟

من اعمال الفنان٬ وليد طاهر (من كتاب «ذاكره القهر»)

للمستبدين عبر التاريخ اليات واحده «لتبرير التعذيب». ولوصفه بالمشروعيه، وجعله مقبولا من الناس

ما جري مع القاضيين، دفعني لان اعيد قراءه دراسه الدكتوره بسمه عبدالعزيز «القيمه» التي صدرت في كتاب من ٣٥٠ صفحه تحت عنوان «ذاكره القهر .. دراسه حول منظومه التعذيب». تذكرنا الطبيبه الاديبه بما كتبه جان بول سارتر في نصه المسرحي الشهير «تاريخ حياه طاغيه». في عباره كاشفه، يقول بطل المسرحيه / الطاغيه: «ايها المغفلون .. كل ما حصل هو استبدال اشخاص باشخاص ..» ثم فيما يبدو حديثا داخليا يقول لنفسه: «لا تغيير هناك.. ستسير علي نفس السياسه .. وستجد الاعذار لما تفعل»

تحدثنا الطبيبه المتخصصه في علم النفس عن «تبرير التعذيب» وعن الطرق المستخدمه لوصفه بالمشروعيه، وجعله مقبولا من عامه الناس. وكيف كانت تلك الطرق تكاد ان تكون واحده متماثله عبر التاريخ، مهما اختلفت الانظمه، ومهما تباينت ايديولوجيات المستبدين. حيث نجد دائما الخطاب البراق المضلل المتعلق «بحمايه مصالح الوطن العليا، والحفاظ علي امن البلاد واستقرارها» والذي ينجح عاده في اخفاء ما يُرتكب من جرائم تحت لافتته. كما ينجح صوته «الديماجوجي» العالي في اسكات اي صوت عاقل يحاول ان يُنبه الي حقيقه ان لا وطن قويًا، الا باحترام كرامه مواطنيه. وان التاريخ يحفل بهزائم دول تصورت انظمتها ان لا قيمه لحقوق الانسان او كرامه المواطن او حريته. (انهيار الاتحاد السوفيتي نموذجا، وما جري في العراق نموذجا اقرب). 

وتلفت د. عبدالعزيز انظارنا الي حقيقه ان هذا الخطاب «الوطني/ المضلل» عاده ما يحظي بتاييد شعبي واسع النطاق، فقسم عريض من الناس ينظر الي ما يعتبره تغليبًا لمصلحه الوطن علي حقوق مواطنيه بشيء من التفهم والاقرار، وبالتالي يحظي القمع في نظر هؤلاء بالمباركه والتضامن، فتراهم يشجعون الاجراءات الاستثنائيه المشينه «والمخالفه للقانون» التي تتخذها السلطه حيال نفر من مواطنيها المعارضين، بل دائخين بفعل صخب حفلات «الزار الاعلامي» تجدهم وقد اصبحوا ملكيين اكثر من الملك، فيطالبون اجهزه الدوله بالمزيد (اذكر انني لم اصدق اذني حينما سمعت يوما استاذه جامعيه تنادي في اجتماع رسمي باغراق المعتصمين بمياه مكهربه!) 

الدراسه الشيقه للاديبه طبيبه علم النفس تفصل لنا الاليات السيكولوجيه والاعلاميه التي استخدمها عبر التاريخ «كل نظام قمعي» لاقصاء معارضيه، ولاستعداء مواطنيه ضدهم. ثم لاضفاء صوره براقه علي منتسبيه القائمين بالقمع، وذلك باضفاء المشروعيه «الوطنيه» اللازمه علي تلك الانتهاكات. بل وبالوصول برجاله الي الدرجه التي يموت فيها اي وازع اخلاقي او ضميري قد يحول بينهم وبين روتين القمع اليومي. تاريخ الدماء والاستبداد حافل بالامثله. ولعل منا من يذكر كيف لم يشعر امين الشرطه المصري باي وخز للضمير وهو يفرغ رصاص مسدسه في راس جريح مقيد في سرير مستشفي امبابه في تلك  الواقعه الشهيره (٢ فبراير ٢٠١٥) بل ولعلنا نذكر ان الكثيرين برروا الواقعه، وان مُطلق الرصاص (المفترض قانونا انه مؤتمن علي المحبوس مقيد الحركه) لم يشعر ابدا بانه ثمه خطا فيما فعل.. 

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل