كم أنا وحيد بدونك! | المصري اليوم
هذه جوهره جديده من جواهر ادب امريكا اللاتينيه، من ترجمه استاذ الترجمه الاسبانيه صالح علماني كتبتها سيده نادره من نيكارجوا «جيوكوندا بيللي» (مواليد العاصمه ماناجوا 1948). هي شاعره ومقاتله سياسيه ضد الديكتاتوريه التي حكمت بلادها لنصف قرن ومازالت تقاتل ضد سيطره العولمه الامريكيه وضد نفي الرجل لدور المراه في صناعه الفكر والحضاره والمستقبل. تنتمي اصلاً الي عائله كاثوليكيه ارستقراطيه. تزوجت قبل ان تبلغ العشرين. لها اربع بنات. نقلت السلاح عبر الحدود الي ثوار السندوينستا، وكتبت شعراً حراً جريئاً عن مشاعر المراه، وشغلت بعد سقوط نظام الديكتاتور سوموزا «1979» مناصب في وزارة الداخلية، وانشات اذاعه حره جديده في بلادها. لها روايه شبه سيره ذاتيه بعنوان «المراه المسكونه» (مترجمه الي العربيه هي وعملها هذا في سلسله الجوائز المصريه)، امراه جميله قويه مازالت تطالب بعولمه مختلفه تنشر السعاده والعدل، عولمه لا تنفي فقراء العالم بل تكون في خدمتهم، تعيش الان في الولايات المتحده، ولها كتاب عن حياتها بعنوان «بلادي تحت جلدي».
الروايه التي بين ايدينا، ذات العنوان الغريب «اللامتناهي في راحه اليد» او في راحه يدك او يدي- اجمل تعبير عرفته عن دهشه اكتشاف الحياه خيرها وشرها، دهشه اكتشاف النفس، الضعف والقوه، اكتشاف الجنس، والبحر، والشمس، الخوف من السحاب والقمر، الفرح بالمعرفه والقمر، تقول في مدخل الروايه «200 صفحه - 31 مشهداً قصيراً» قسمان الاول بعنوان (وخلقهما رجلاً وامراه) والثاني بعنوان (اثمروا وتكاثروا). لعلك عرفت ان الروايه عن ادم وحواء، وعن جريمه قابيل وهابيل» تقول في مدخل الروايه ابياتاً من قصيده للشاعر الانجليزي وليم بليك «تري العالم في حبه رمل، والسماء في زهره بريه، وتجمع اللامتناهي في راحه يد، والابديه في ساعه واحده».
او تقول مع ت. س. اليوت: نهايه كل اكتشافاتنا: الوصول الي المكان الذي بدانا منه والتعرف اليه اول مره، تقدم بيللي بعملها المدهش «وهي المراه غير المتدينه. بايات من سفر اراميا من التوراه الاصحاح 51، 37 الذي يقول: «تكون بابل كوماً ماوي بنات اوي، ودهشاً، وصغيراً بلا مساكن» اطلت في سرد هذه المقدمات لكي اصل الي التقديم الفاجع الموجود في اولي صفحات الكتاب ونصه: هذا الكتاب مهدي الي ضحايا حرب العراق المجهولين، ففي مكان ما من تلك البلاد، بين دجله والفرات، كان هناك فردوس ذات مره».
ولد هذا العمل الجميل من الدهشه والحب والاتقان والبحث في اصول اساطير خلق ادم وحواء في التراث العالمي: العبري «اربعين ايه في سفر التكوين» ومخطوطات مكتبه نجع حمادي المصريه التي اكتشفت في الصعيد عام 1944، وفي مخطوطات البحر الميت في وادي قمران، و«الميذورا» وهي تعليقات كتبها حاخامات متفقهون في شرح العهد القديم.
«هذه قصه ادم وحواء وابنائهما (قايين وهابيل) ولولوا واكليا، تسلحت لكتابتها بتلك القراءات المترعه باستنتاجات كاشفه وفاتنه، اطلقت العنان لمخيلتي لاستحضر في هذه الروايه خلفيات تلك الدراما القديمه، ومشهد الفردوس السريالي، وحياه ذلك الثنائي الشجاع والمؤثر، ومع انني لست متدينه، الا انني اري انه كانت هناك امراه اولي ورجل اول، وانه يمكن لهذه القصه ان تكون قصتهما، هذه الروايه تخيل يستند الي تخيلات اخري وتفسيرات واعاده تفاسير نسجتها البشريه حول اصولنا منذ ازمنه لا ترقي اليها الذاكره، انها في دهشتها وحيرتها قصه كل واحد منا».
ملاحظه اخيره: لفظ حواء ليس لفظاً قرانياً!
فجاه من اللاكينونه صار كائناً يعي ما كانه. فتح عينيه، تلمس نفسه وعرف انه رجل دون ان يعرف كيف عرف ذلك، راي الحديقه واحس انه مرئي. نظر في كل الاتجاهات املاً في ان يري اخر مثله.
وبينما هو ينظر، نزل الهواء عبر حنجرته فايقظت الريح البارده حواسه. شم، تنفس ملء رئتيه واحس في راسه بالتقلب المضطرب للصور الباحثه عن تسمياتها، فانبثقت الكلمات والافعال من اعماقه نقيه واضحه لتحط علي كل ما يحيط به. سمي، وراي ان ما يسميه يتعرف علي نفسه. هب النسيم علي اغصان الشجر، غرد العصفور، فتحت الاوراق الطويله اياديها المرهفه، اين هو؟ تساءل: لماذا لا يظهر ذاك الذي يرصده بنظرته ولا يسمح بان يري؟ من هو؟
بهذا الغموض الشعري الواضح والفاتن في نفس الوقت، تتوالي مشاهد الاسطوره الحديثه التي اعادت الكاتبه حكايتها مشحونه بالمعرفه والحكمه والشعر، هناك تلك القوه المدبره الخالقه المسيطره التي يطلق عليها «الوكيم» (وهو لفظ توراتي عبري يشير الي مكان ملاك الخالق)، ثم هناك حواء التي تذكر ان شقا قسم كيانه واخرجت منه المخلوقه الحميمه التي كانت تقبع في داخله. انساه وجودها احساسه بالسقوط الطويل الذي دفعه الي نوم يشبه الاغماء، شغله تفحصها عن لعبه النسيان والتذكر واخذ يتامل ما بينه وبينها من تشابه واختلاف «مد يده وقربت يدها مفتوحه، تلامست راحتاهما، وزاناً بين يديهما، ذراعيهما والساقين، اخذها للتجول في الحديقه، احس بانه ذو نفع، وانه مسؤول، اراها النمر وام اربعه واربعين، والزرافه والسلحفاه، ضحكا كثيراً، تقافزا مرحاً، تاملا تنقل الغيوم وتبدل اشكالها، واستمعا الي ترنيمه الاشجار الرتيبه، جربا كلمات لوصف ما لا يسمي، كان يعرف انه ادم ويعرف انها حواء، وكانت تريد معرفه كل شيء.
- ما الذي نفعله هنا؟ سالت.
- من الذي يستطيع ان يشرح لنا من اين اتينا؟
- لا اعرف اين هو. ما اعرفه فقط انه يتابعنا.
انه يفتقد التامل الهادي الذي كان يسلو نفسه به قبل ظهورها، وبالرغم من انها تضطره الي الركض من هنا الي هناك مثل ظبي وليد، الا ان سماعها تضحك او تتكلم يشعره بسعاده اكبر بكثير من الصمت والوحده، عند الشجره وقفت:
هذه ليست اي شجره، انها شجره الحياه.
- متسلطه، واقول انه عليك الا تقتربي كثيراً.
واقتربت واكلت من الثمره، وتحتها كانت الحيه تنتظر التي قالت لها:
- لم يمكننا مقاومه الرغبه في تاملكما.
- لست وحدك اذن، من معك؟
- الرجل يقول انني خرجت منه.
- انت كنت مخباه داخل الرجل، الوكيم خباك في احد اضلاعه: ليس في راسه كيلا تكتشفي الغطرسه، ولا في قلبه كيلا تراودك الرغبه في التملك، وكان الرجل يسمع حديثهما.
من فضول حواء يعرف ادم اشياء جديده كثيره، وتبقي الكاتبه بتتابع سريع للمشاهد ذهن القارئ يقظاً مندهشاً ومفاجا رغم انه يعرف القصه كلها.. انه يعرف مع ادم حقيقه انه لكي ياكل عليه ان يقتل ارانب او طيوراً او اسماكاً. اننا ناكل بعضنا البعض، وبمتابعه لقاء المراه مع الحيه يدرك انها عدو وصديق في نفس الوقت، وان الشر جزء من المعرفه، كانت النار تفقده العزيمه حتي قبل ان يعرف الخوف. انها اقوي العناصر واعظمها، وعندما اشتعلت في منطقه خاف ان تكون حواء في داخلها، ظل هو وكلبه يلفان ويدوران حولها، لا يعرف ماذا يفعل، وكانه اصيب بالجنون، كان يلومها علي انها اكلت من الثمره، ولكن بعد خوفه عليها عندما اشتعلت في الغابه نار وخاف عليها ادرك كم تؤنسه وكم تبدو الحياه كئيبه بدونها.
تسال حواء: اين نذهب عندما ننام، ومن هؤلاء الذين نراهم هناك؟ تغيرت الحديقه التي كانا فيها، حيث كانت الشجره. هي اكلت الثمره وعرفوا الخير والشر، وهو قتل الارانب فعرفوا المقاومه والاستسلام والموت.
تتصاعد براعه الكاتبه في وصفها الجميل الفاتن، للتعرف الجنسي بين ادم وحواء، حيث تتحول الكلمات الي بقع من الضوء الشفاف الذي يدغدغ العقل والعواطف معاً.
اما ماساه القتل والتي تاتي قرب نهايه الروايه، حيث يقتل قايين اخاه من اجل الغيره علي الاقتراب من الاخت الجميله لولوا فانها تنقل العمل الي مستوي فاجع اخر كاننا نشاهد مسرحاً يونانياً قديماً.
Comments