المحتوى الرئيسى

لماذا الإصرار التركي على إنكار إبادة الأرمن؟

04/24 10:58

"لن يقول الاتراك ابداً عن ابائهم انهم كانوا قتله". هكذا انهي المؤرخ جستن مكارثي خطابه في البرلمان التركي عام 2005، فوقف النواب الاتراك مصفقين بحراره لما قاله. تلخص هذه الجمله الختاميه الموقف التركي الرسمي تجاه مذابح الأرمن علي يد العثمانيين، هذه المذابح التي يصفها اغلب المؤرخين في العالم بانها اول أبادة جماعية في القرن العشرين.

ففي الرابع والعشرين من ابريل 1915 جمعت الحكومة العثمانيه ما يقرب من 250 شخصيه ارمنيه في اسطنبول واعدمتهم. وبهذا انطلقت شراره اعمال القتل والتهجير القسري والاغتصاب والتعذيب والتجويع ضد الشعب الارمني في شرق الأناضول، فادي ذلك الي مقتل نحو مليون ارمني. كان لاشتراك بعض الارمن في العمليات العسكرية الي جانب الجيش الروسي، اضافه للنشاط الارمني المحموم ضد الحكومه العثمانيه في المطالبه بالحقوق السياسيه اسوه بالشعوب الاخري كالبلغار واليونانيين، اثره في ما تعرضوا له.

ورغم الاعتراف التركي الحالي بسقوط ضحايا ارمن في عمليات التهجير والقتل، فان الموقف الرسمي يرفض اعتماد تسميه "الاباده" ويقول ان الارمن كانوا ضحايا حرب سقط فيها ايضاً مئات الالوف من الاتراك والعرب وغيرهم. علماً ان الروايه التركيه السائده تعتبر ان الارمن كانوا طابوراً خامساً في الحرب العالميه الاولي وتحالفوا مع اعداء الدوله العثمانية الروس. وعليه، فان سقوط ضحايا، ضمن ضحايا اخرين في وقت الحرب، امر مؤسف ولكنه مفهوم ولا يعد قتلاً منهجياً متعمداً يمكن ادراجه تحت خانه الاباده التي تفترض وجود سياسه مرسومه لاباده اتباع دين او مذهب او عرق ما.

اما الراي العام التركي تجاه تلك الاحداث، فيمكن تلخيص موقفه بما قاله السيد بايزيدهان عثمان اوغلو الحفيد الثالث لاخر السلاطين العثمانيين، محمد السادس، لرصيف22. قال: "ما سمعته من جدي الذي ولد عام 1922 في قصر يلدز وتوفي عام 2004 نقلاً عن ابيه السلطان انه لم تكن هناك ايه اوامر رسميه بالقيام باباده جماعيه ضد الارمن، بل كان الهدف هو التصدي للجماعات الارمنيه المسلحه التي هاجمت القري وقتلت مدنيين وكانت تهدف الي انشاء ارمينيا الكبري علي حساب السلطنة العثمانية وبالتعاون مع اعدائها في الحرب العالميه الاولي، مثل الروس". واضاف: "لو كانت هناك نيه لابادتهم فلماذا تركنا الارمن يعيشون في اسطنبول وازمير وغيرها من المدن التركيه؟".

ولكن الجمعيه الدوليه للباحثين في الإبادة الجماعية حسمت هذا الجدل واقرت منذ فتره طويله بان ما حدث للشعب الارمني هو اباده جماعيه بالفعل. وهذا يتطابق مع التعريف الدولي للاباده الجماعيه، الذي يقول انها افعال تقصد التدمير الجزئي او الكلي لجماعه قوميه او اثنيه او عنصريه او دينيه.

لماذا تستمر تركيا في سياسه الانكار هذه رغم وفره الادله التاريخيه؟ يمكن ان نوجز الاسباب في ما يلي:

رغم ان الحكومات الجمهوريه التي حكمت تركيا منذ اسقاط الخلافه عام 1923 لا علاقه لها بالاباده الارمنيه، فان العديد من المسؤولين الذين شاركوا في المجازر اصبحوا في ما بعد جزءاً من النظام. ومن الامثله علي ذلك التشكيلات المخصوصه Teshkilat mahsusa التي لعبت دوراً في مذابح الارمن عام 1915، ومن ثم اصبح بعض زعمائها جزءاً من منظمه الدفاع الوطني التي اسسها اتاتورك عام 1921.

ولم يكن لمؤسس تركيا الحديثه، مصطفي كمال اتاتورك، دور في تلك المجازر لا بل انه اعتبرها عملاً سيئاً. الا انه بسبب شعوره القومي الطاغي بدا حمله لاعاده بناء الهويه التركيه محت كل اخطاء الماضي واسدلت الستار علي كل مجازر الاتراك وانتهاكاتهم لحقوق الاقليات. لذلك، فان تذكر تلك الاحداث يعيد الي الذاكره فتره تفكك الإمبراطورية العثمانية وهزيمه الاتراك وهو ما يفضل الجميع تجنب الحديث عنه.

وعوضاً عن الخوض في الماضي الماسوي، تعتزم تركيا الاحتفال هذا العام بذكري معركه "غاليبولي"، او ما يسمي ايضاً "حمله الدردنيل"، وهي المعركه التي انتصر فيها العثمانيون علي الحلفاء الذين حاولوا احتلال اسطنبول. واللافت ان المعركه بدات في الخامس والعشرين من ابريل، الا ان الحكومه التركيه قررت الاحتفال بها في الرابع والعشرين منه، في ذكري بدء المذبحه الارمنيه، بل وجهت دعوه للرئيس الارمني الذي رفض حضور الاحتفال.

يبين هذا الاحتفال المدي الذي تذهب اليه الجمهوريه التركيه في الحفاظ علي الموروث القائم علي الفخر بالماضي ونسيان اخطائه. فوضع دره انتصارات الامه التركيه والذي مهد لحرب الاستقلال واقامه الجمهوريه علي يد اتاتورك محل ذكري المذبحه، هو رفض واضح للاعتراف بايه اخطاء ويصل الي حد اهانه ذكري الضحايا.

منذ ان تم تغيير الابجديه التركيه عام 1928، انقطعت الاجيال الشابه عن قراءه تاريخها. فلم تعد الاجيال التي ولدت بعد ذلك التاريخ تعرف شيئاً عما حدث الا من خلال الكتب والاصدارات الرسميه. ونتيجه للتوجه الحكومي، منذ اعلان الجمهوريه التركيه، المشبع بالروح الكماليه المفرطه في التوجه القومي، جري تصوير الامه التركيه علي انها ضحيه لخيانات الاقليات من الارمن والعرب وغيرهما، والتي ادت الي تفتت الامبراطوريه.

وبسبب هذا التعتيم التاريخي، نشات اجيال من الاتراك تنكر ما اقترفته الحكومات التركيه من جرائم ضد الاقليات ابان الحكم العثماني. ويبدو اثر هذه السياسه جلياً في ما نشره اخيراً مركز دراسات الاقتصاد والسياسه الخارجيه من نتائج لاستطلاع للراي بين ان 9% فقط من الاتراك يرون ان علي حكومتهم ان تعترف باباده الارمن وتعتذر عنها.

ان انكار اباده الارمن يرقي الي موقف وطني يوحد الغالبيه العظمي من الاتراك في وجه اعداء الامه ومن يحاولون تدنيس تاريخها. وربما تذكّرنا حادثه الملاحقه القضائيه للكاتب الشهير الحائز نوبل للاداب، اورهان باموك، بتهمه اهانه الدوله التركيه وجيشها حين تحدث عام 2005 عن مقتل مليون ارمني علي يد الاتراك، بمدي حساسيه الاتراك تجاه هذا الامر. ان الاعتراف بالاباده الارمنيه سيتطلب اعاده قراءه للتاريخ التركي، واعاده تشكيل لذاكره امه بكاملها ويبدو ان تركيا غير مستعده لذلك الان.

يقول اغلب المؤرخين ان اباده الارمن هي اول اباده جماعيه حدثت في القرن العشرين. وعليه، فان الاعتراف بها سيضع تركيا القديمه في مرتبه المانيا النازيه. وسيتم التعامل مع اباده الارمن علي انها شبيهه بالهولوكوست النازي. وهذا امر سيرتب علي تركيا، اضافه للتبعات المعنويه المحرجه دولياً، تبعات قانونيه بصرف تعويضات لاسر الضحايا وهو امر مهول اذا ما نظرنا الي ارقام الضحايا التي يقدرها المؤرخون بما بين مليون ومليون ونصف المليون.

ان اي اعتراف بالاباده الارمنيه او تراخ في الحفاظ علي الكبرياء الوطني من قبل اردوغان وحزبه، سيعرضهما لخسائر فادحه في صفوف الراي العام التركي. فالشباب الاتراك الذين تربوا علي مقوله ان الارمن كانوا خونه وان الاباده كذبه كبري، والذين راوا معاناه الاتراك علي ايدي المسلحين الارمن معروضه في المتحف العسكري التركي في اسطنبول، لن يتقبلوا من قادتهم ان يمسوا شعورهم الوطني. وهذا امر، برغم انه مستبعد الحدوث، سيمنح المعارضه اليمينيه ذخيره كافيه في الانتخابات المقبله للنيل من معسكر اردوغان الساعي الي تاسيس جمهوريته الجديده.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل