المحتوى الرئيسى

الرواية: الوعي بالمكان وتأسيس المواطنة

04/17 09:45

يبدو المكان في هذه الايام العصيبه وكانه ينسحب من تحت ارجلنا، بفعل تاريخ اعمي ينغلق علي نفسه ويغور في بحث عصابي عن عصر ذهبي متوهم، يُجمّد التاريخ في لحظه زمنيه وينبذ المكان. فيعمّ الدمار مُتلبّسا وجه دعوه الهيه تطهر البشريه من شرورها. في الزمن الداعشي، يتقنّع هولاكو بوجه الحق: انه العنف الطهراني المقدس. للمؤرخ ان يتقصي جذور هذه الظاهره في عقائد متشنجه تمسخ الدين وتشوّه السلوك الاجتماعي، عقائد تمتّ بصله ما الي الوهابيه، بحكم هيمنتها علي الفكر العربي منذ هزيمه حزيران1967. وله ان يبحث عن اسبابها في استكلاب الغرب علي الاستئثار بخيرات المنطقه علي حساب الشعوب ضاربا بعرض الحائط كافه القيم الانسانيه، وفي تهافت النخب العربيه علي سلطه يدفعون ثمنها دماء شعوبهم، وايضا في غطرسه الاستراتجيه الاسرائيليه المنبعثه من الاساطير. وللسياسي ان يقترح الحلول الكفيله بضمان اجماع المواطنين. غير ان ظاهره انسحاب المكان هذه تستثير الناقد الادبي ليطرح قضيه المكان، او بالاحري الوعي بالمكان، في الروايه العربيه. وذلك ما احاوله هنا.

مما لا خلاف فيه ان الروايه شكل ادبي متحول ابدا، حدّه الوحيد والجوهري انه يقوم علي رصد الانسان الفرد بمواصفاته الشخصيه الفريده عبر تحولاته في الزمان والمكان، من حيث انهما ركيزتا الوجود فلا وجود الا بهما. من هذا المنظور، لا يستطيع الباحث الا ان يقر بان الروايه العربيه قد انبثقت في معظمها ولا تزال من الاحساس بالتاريخ وثقافته علي حساب الوعي بالمكان. ولا اقصد بالمكان هنا توظيف الحيّز المكاني (او حسب التعبير الشائع المترجم بحرفيته «الفضاء الروائي») في عمليه السرد ليكسبه درجه من الاتقان الفني يمكّنه من التعبير بجداره عن الرؤيا المبتغاه؛ واساليب هذا التوظيف معروفه في ما يسمي «شعريه المكان» التي تاخذ بالمكان المغلق او المنفتح، المرتفع او المنخفض، المالوف او الغريب وغيره. كما لا اقصد به الرومانسيه السهله التي تتغني بالطبيعه وتستفيض في الحنين الي الوطن، في حين لا تتناول المكان بقدر ما تاخذ بانعكاساته في الشعور. بل اقصد الوعي بالمكان في صورته الماديه الحسيه كما في ثقافته المرتبطه بجغرافيته وبنيه عناصره الطبيعيه واثر الانسان فيها؛ ذلك الموقف الذي يتجلي الي حد ما في مقاربه جمال حمدان حين يتحدث عن «عبقريه المكان»، خاصه في ما حاول غاستون باشلار سبره في دراساته عن المكان («شعريه المكان»، «الارض واحلام الراحه»…). المقصود هو اذا الوعي بالمكان، بالحيز المكاني، لالتقاط ابعاده الرمزيه والثقافيه وحتي الانطولوجيه، انطلاقا من صورته الماديه، والاحساس به احساسا وجوديا علي المستوي الذاتي الخاص. ولا شك ان ليحيي حقي فضل الاسبقيه في التنبيه الي ذلك منذ خمسينيات القرن الماضي، حيث لفت انتباه روائيي عصره الي غياب الوصف التفصيلي الدقيق للاشياء الحسيه المرتبطه بالحيّز المكاني ولا سيما منها عناصر الطبيعه، حتي لدي الرومانسيين الشديدي التغني بها: «نشا هذا الجيل وقدرته علي الانتباه لطبيعه بلاده والتاثر بها والتعبير عنها محدوده جدا». ويمثّل علي ذلك بقوله: «كلمه شجره تعني عنده كل الاشجار، اما محدداتها فيحفظ الفاظها كالببغاء ولا يعرف ذواتها ان راها. يكاد لفظ العصفور يغطي كافه انواع الطير». واستشهد بقول معاصره العقاد في كتابه الديوان «عن غرام كتّاب مصر بالتحدث عن البلبل، وهم لا يعرفونه، ويعرضون عن الكيروان وصوته ملء اسماعهم. ويتغنون، من قبيل التقليد الزائف، بالربيع، ومصر لا تعرفه، وان عرفته فبانه شهر سموم الخماسين، وانما ربيع مصر هو الخريف» (راجع كتابه «خطوات في النقد»، ط الهيئه المصريه، 1976، ص 182).

ان هذا التاكيد علي التاريخ علي حساب المكان يتضح من استعراض الروايه العربيه في مراحلها المتعاقبه منذ قرن ونصف: من الروايه التعليميه الاولي الي التاريخيه فالرومانسيه والقوميه، وحتي الواقعيه ولا سيما الواقعيه الاشتراكيه الملتزمه، بل وحتي السيره الذاتيه في معظمها. فكلها تبغي تربيه العقل وتهذيب الاخلاق الخاصه والعامه وتحديث اداب السلوك وتنميه الحس الجمعي والانتماء القومي، من خلال الوعي بالتاريخ وحركيته وامجاده، في سبيل تعديل الصيغه الثقافيه الراهنه وهي محصله تاريخ قريب العهد نسبيا مرتبط بتاسيس الدوله العربيه الاولي في ظل الاسلام. ان هذا المنحي الروائذ يعتمد ركيزه عقائديه او فكريه تتوسل العقلانيه - كما اقتبسناها وعلي عواهنها من عصر التنوير الاوروبي - التي اتخذت صيغا متعدده منها القوميه، الماركسيه، الاصلاحيه الليبراليه وحتي الدينيه. فهي من جهه تبتسر الانسان الي بعده العقلاني علي حساب الشعور واللاوعي والحدس والبعد الجسدي فضلا عن العالم الروحاني (ولا اقول الديني). وهي من جهه اخري تقصر التاريخ علي مرحله انتشار العربيه مع الفتح الاسلامي. ومن اللافت من هذا المنظور ان النهضة العربية قد اعتمدت الاحياء اللغوي اساسا للخروج من الاطار الديني المهيمن سابقا، وبنت علي المنجزات اللاحقه التي تبلورت في اللغه العربية؛ في حين اعتمدت النهضه الاوروبيه الرؤيه الاغريقيه للعالم في ابعادها الفكريه العلميه، وفي افاقها الفلسفيه المتعدده بل والمتناقضه، وفي انجازاتها الفنيه الابداعيه، وحتي في اساطيرها التاسيسيه من دون فكرها الديني. واما المستوي التعبيري اللساني فقد اقتبسته من واقعها الراهن الحي، اي اللغه الشعبيه في تعدد صيغها.

ان التركيز علي البعد الزماني (التاريخ) في الروايه ادّي، كما يبدو لي، الي خفوت الحس المكاني والوعي بثقافه المكان. فالبعد الزماني يستدعي عمليه فكريه مجرده تتناول معطيات التاريخ وغالبا ما تتاتي من مصادر رسميه، وتقتصر في مرحلتنا الراهنه علي موقف قومي يكاد لا يولي اهتماما الا للبرهه العربيه القائمه منذ 15 قرنا دون ان يتجاوزها؛ كما انه يتناول حصرا مصير الجماعه وتحولاتها. اما البعد المكاني فيستدعي كافه الملكات الانسانيه من دون ان ينحصر في الاطار الفكري، ويتجاوز المرحله التاريخيه الراهنه الا ما سبقها بقرون بل بالاف السنين؛ والوعي به لا ينبثق الا في ذات فرديه محدده. وان كان له ان ينتشر فمن خلال ذوات اخَر تتمثله فرديا، فتنداح دوائرها لتشمل جماعه واسعه، تؤلّف اذاك «وطنا». ولا بد من التنبه الي ان «الوطن» - الاحساس العميق بالانتماء الي موطن او وطن - هو غير «القوميه». هذه تستند الي ثقافه تاريخيه، بينما «الوطنيه» هي الوعي بالمكان المادي، بالموطن وثقافته، الموطن الطبيعي بكل حمولاته عبر التاريخ منذ اقدم العصور. «الوطنيه» بهذا المعني لا تزال هي العقده عندنا. ومتي انبنت علي الانتماء العميق الي المكان الطبيعي بثقافته، شملت كل من عاش في ظله، ثم انفتحت علي الانسانيه جمعاء. ولعل خير دليل علي ذلك قائم في نشوء فكره الوطن عند جبران انطلاقا من «تلك البقعه الرائعه من شمال لبنان». وعي جبران بكل ملكاته حموله مكان مولده المحدد جغرافيا، ثم تلمّسه في سياقه الجغرافي الذي شمل كافه المشرق بامتداداته العربيه، وتعرّف علي ثقافته العريقه التي تمتد جذورها الي الاف السنين، فتجلّت له في بوتقتها الساميّه الاولي، تلك البوتقه التي بقيت متوهجه، كما يقول، في البؤره العربيه التي تمثّلت نسغ البؤر الساميه الاخري فنجحت في انتاج حضاره عالميه منها استمدّت النهضه الاوروبيه اهم ادواتها؛ وحين خبا وهجها في عصور الانحطاط، بقيت كامنه في صدور الناس ولاوعيهم حتي اليوم. لذا يمتد الوطن عنده امتداد بقعه الحضاره العربيه بحمولاتها الثقافيه، فيشمل كل من ينتمي اليه بكامل حريته. لذا، لم يقل جبران بوطن لبناني بل بوطن عربي يختزن كافه الثقافات المحليه ويكمّلها. وان تمكّن في كتاباته الانكليزيه ان يتوجّه الي اي انسان، فقد تيسر له ذلك لا بسبب تجاوزه لمفهوم «الوطن»، بل بفضل ترسخه في موقعه لينفذ منه الي القيم الانسانيه المشتركه، اي الي موقف «انسانوي» به يلتقي كل انسان.

الوعي بالمكان نفسه نلمسه عند يحيي حقي، وان بصيغه اخري. يتجلي ذلك في قصته الشهيره «قنديل ام هاشم»، حيث طرح اشكاليه انسانيه شامله لا تزال وستبقي قائمه، هي جدليه العلم والدين. لم يفك عقدتها الا ظاهريا. حسبه انه ابرز ابعادها في تعدد وجوهها بحيث انه تجاوز المحلي الخاص الي المستوي الانساني العام. ولا يخفي علي احد ان هذه الاشكاليه هي من اهم اشكاليات العالم الحديث في ادراك كنه الانسان منشاً ومالا وفي اختيار سلوكه في الحياه. ويبدو لي ان البؤره التي انطلق منها هي وعيه العميق لمكان محدد هو «ميدان الست زينب»، الذي نفذ الي ثقافته انطلاقا من حواسه، ثم تجاوز الحواس (او البصر حسب تعبيره) الي البصيره، التي تشمل الفكر والخيال والحدس والاحساس؛ وبها بلغ الي معرفه عميقه هي «المعرفه بالقلب» حسب تعبير ابن عربي. عبّر يحيي حقي عن عوالم وطن، يشترك فيه كل «مواطن» علي تعدد مشاربه وتوجهاته علي كافه الصعد. لا يزال هذا المسار حيّا، وان بشكل مضمر احيانا. وقد يكون، كما اعتقد، من اثري المسارات الروائيه العربيه حاليا، التي يمكن للباحث ان يرصدها لدي مبدعين روّاد منهم عبد الحكيم قاسم وعبد الرحمن منيف وحسين البرغوثي وبعض المعاصرين من امثال علاء خالد في سردياته الفذّه. وعندي انهم روّاد المواطنه بمعناها الحديث الرحب القادر علي مواجهه همجيه العصر وتخاذل النخب.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل