المحتوى الرئيسى

فرانشيسكو جويا.. سيرة الدم والرعب والجمال

04/16 21:26

"دائما يتحدث الاساتذه عن الخطوط والالوان، ولكني لا اري في الطبيعه لا خطوطا ولا الوانَ وانما اري اضواءً وظلالا فقط".. فرانشيسكو جويا

"لا نستطيع ان نتخيل كم هي الحرب مخيفه، مرعبه، وكيف تصبح شيئا عاديا، لا نستطيع ان نفهم، لا نستطيع ان نتخيل".. سوزان سونتاج

فرانشيسكو جويا واحد من اشهر الرسامين الاسبان، واحد الاساتذه الاوائل لفن الرسم الحديث، تتسم رسوماته بحركات الفرشاه الحره والالوان الرائعه الثريه، ما يجعله رائد الحركه الانطباعيه التي ظهرت في اوائل القرن التاسع عشر، حيث صور في لوحاته الكوارث وفظائع الحرب، كما رسم صوراً اخري مليئه بالخيال والاثاره والرعب، لم تخفف منها سوي لمساته الفنيه الرائعه وملاحظاته الواقعيه.

ولد جويا عام 1746 بمدينه صغيره بمقاطعه اراجون لابوين بسيطين يعملان بفلاحه الارض، فكان يعمل هو واخوته معهما في الحقل كسائر الفلاحين الاسبان. مع هذا ظهرت مواهبه الفنيه في وقت مبكر، حيث كان يرسم بالفحم المتبقي من فروع الاشجار المحترقه علي الحوائط و الاحجار.

 في سن الـ14 من عمره ومع انتقال عائلته الي "سراقسطه"، بدا دراسه الفن علي ايدي العديد من فناني المدينه، قبل ان ينتقل الي "مدريد"، ويتدرّب علي يد احد رسامي البلاط الملكي الاسباني، ثم يحاول الدخول لاكاديميه الفنون في مدريد ولكنه فشل.

في الوقت نفسه، حصل علي منحه لدراسه الفن في ايطاليا، فرحل الي روما وعمل في رسم الفسيفساء للكنائس، واشترك في العديد من المسابقات الفنيه. ثم انتقل الي فرنسا واقام بضع سنوات فيها، حيث وقع تحت تاثير افكار كبار مفكري عصر التنوير الفرنسيين، امثال جان جاك روسو ومونتسكيو.

درس الرسم كذلك مع الرسام الاسباني فرانشيسكو بايو، الذي تزوج اخته عام 1773، وفي هذه الفتره طور جويا اسلوبه في الرسم الذي تميز به فيما بعد. كان زواجه خطوه مهمه في مسيرته الفنيه، اذ تمكن من الاقامه في العاصمه، معتمدا علي مساعده شقيق زوجته. وما بين عامي 1775 و1792، اشتهر برسوماته الكاريكاتوريه لمصنع السجاد الملكي في مدريد، حيث كرَّس طريقته في رسم مشاهد من الحياه اليوميه، التي ساعدته في ان يصبح مراقبا حادا للطباع الانسانيه. تاثر بالفن الكلاسيكي، خاصه باسلوب واعمال الفنان الاسباني الشهير فيلاسكويز.

بعد ذلك، اصبح الرسام الاشهر للارستقراطيه الاسبانيه، وانتخب عام 1780 عضوًا في الاكاديميه الملكيه، قبل ان يسميه الملك "رساما" في العام 1786 ورساما للبلاط في العام 1789. في خريف عام 1792 خرج جويا في رحله الي "قادش"، اصيب خلالها بمرض ظلّ يعاني منه لعده اشهر، وعندما شفي منه جزئيا، ظل اصما لبقيه حياته، واثر ذلك عليه وعلي اسلوبه، ومن ثم انتج لوحات ذات طابع كئيب وقاتم، تجلّت في سلسله رسومات نقديه وحاده بلمسه واقعيه مضافه للرسم الديني الكلاسيكي، عرفت باسم "كابريشوس "Caprichos.

ما بين عامي 1795 و1799، عُيِّن سكرتيرا للاكاديميه الملكيه. وفي عام 1799 وتحت رعايه تشارل الرابع، عيِّن رساما اول في البلاط الملكي الاسباني، واصبح الفنان الانجح والاكثر عصريه في اسبانيا؛ ورسم لوحته المشهوره "عائله تشارل الرابع" عام 1800.

دخلت اسبانيا مع بدايات القرن التاسع عشر مرحله من الاضطرابات والحروب والعنف والمجاعات، بعد تعرضها لغزو فرنسي عام 1808، اذ نجحت خطط نابليون بونابرت، الطامح للسيطره علي اوروبا، في الاطاحه بحكم شارل الرابع، وتتويج فرديناند السابع مكان والده، ثم خلعه عن العرش، ونفي شارل الرابع وفرديناند السابع الي ايطاليا وفرنسا، وتم تنصيب اخيه جوزيف ملكا علي اسبانيا.

وكان جويا مثل الكثيرين من معاصريه المفكرين والفنانين الاوروبيين - ورغم كونه الرسام الاول للبلاط الملكي - متاثرا بالثوره الفرنسيه وبمبادئها الانسانيه، ما جعله يرحب -اول الامر- بغزو قوات نابليون لبلاده، ويصبح رسامًا للبلاط الفرنسي حتي العام 1814. وامام ما كان يشاهده من ماس وشجاعه الاسبان في كفاحهم ضد المحتل الفرنسي، تحوّل جويا فكرياً وانعكس ذلك التحوّل في العديد من اجمل لوحاته التي صورت الحرب الاسبانيه من اجل الاستقلال وفظائعها، وفيها لم يعمل علي تجميل الرعب او تقديم مشاهد بطوليه للحرب، بل سلّط الضوء علي تساوي القسوه والشراسه لدي الطرفين، مع انفلات العنف والوحشيه من عقالهم، ونسيان القيم الانسانيه امام الجرائم الوحشيه و اهوال الحروب.

ومن اشهر اعمال تلك الفتره، سلسله النقش الثانيه والثمانين "كوارث الحرب" (1810 الي 1820)، التي رسمها احتجاجًا علي حاله العنف الشديده، التي صاحبت احداث 2 مايو 1808، عندما اجتاح نابليون مدينه مدريد واحتلها، ما ادي الي قتل العديد من اهالي المدينه دفاعا عن مدينتهم.

وثّق جويا هذه الاحداث الدمويه في لوحتين هما "الثاني من مايو" و"الثالث من مايو"، في اللوحه الاولي يصوّر الثوره في المدينه وفي الثانيه يصوّر قيام القوات الفرنسيه باعدام الثوار. واتبع في تصويره لهاتين اللوحتين اسلوبه العاطفي الرومانتيكي الجديد، الذي يهتم بالاحداث الواقعيه، ويعبر عنها بطريقه ماساويه.

مجون ومحاكم تفتيش ونهايه حزينه

عرف جويا بمجونه واستهتاره، ومن المواقف الطريفه انه حين رُحّل جويا الي اشبيليه – في زمن الاحتلال الفرنسي - قام بعمل الرسوم والزخارف في كاتدرائيتها، وصوّر بين الملائكه سيدتين شهيرتين من سيدات المجتمع عرفتا بالخلاعه.

 ورغم انه كان الفنان الاول في البلاط الملكي، الا انه كان يرسم لوحات لافراد الشعب العاديين، واتاحت له تلك الخبره الحياتيه الكبيره كمّا هائلا من التفاصيل ليضعها في لوحاته. وخالط نماذج عديده من طبقات الشعب الاسباني من شباب محروم وغجر منطلقين، وغانيات عابثات، وصولا الي امراء الاسره المالكه وحاشيتها الارستقراطيه، ليكتشف الانحلال الاخلاقي المتستر وراء مظاهر الجلال والوقار المصطنع.

شارك في حفلاتهم واعيادهم و افراحهم، وعندما صوّرهم ابرز خلاعتهم ودماثتهم ووجوههم المنتفخه وخدودهم المتوّرده، لكن العجيب في الامر انه بقدر غلوه في هجائه لهؤلاء الساده، كانوا يغدقون عليه الثناء والعطاء.

حين عادت الملكيه من جديد الي اسبانيا، بعد خروج الفرنسيين، سامحه الملك الجديد واعاده من جديد رساما للبلاط. لكن خلال تلك الفتره اصطدم بمحاكم التفتيش التي لاحقته، بسبب لوحه مبكره لاحدي سيدات المجتمع الارستقراطي، التي تدعي "مايا"، قيل انها كانت علي علاقه بالرسام. اللوحه الاشهر" مايا العاريه The Naked Maja" تسببت في استدعائه للتحقيق عام 1815، ما اضطره لاخفائها ورسمها من جديد بعد ان البسها!

خلال تلك الفتره الاخيره من حياته في اسبانيا، تميَّز غويا بمواقفه التحرريه وبمعارضته للمفاهيم والاساليب الرجعيه في حكم اسبانيا، مما انعكس علي رسوماته. زادت تلك الروح المُقبضه الكئيبه في اعماله بعدما استسلم للصمم ولوساوسه، فرسم "اللوحات السوداء" علي جدران منزله، وهي عباره عن 10 لوحات تتمحور حول الساحرات والاشباح والشياطين والنسوه العجائز اللواتي نهشهن الزمن، اعمال فنيه تشكل شهاده عميقه علي فتره حالكه في تاريخ اسبانيا واوروبا، فتره محاكم التفتيش والغزو الاجنبي وعوده الملكيه من جديد.

أهم أخبار فن وثقافة

Comments

عاجل