المحتوى الرئيسى

أفول السلطة في العصر الحديث

04/16 14:52

لا زال انسان المجتمعات الحديثه ينظر الي السلطه بقدر من الهيبه الممتزجه بالغموض. ولا زال موضوع السلطه من اقل المواضيع عرضه للدرس والتحليل. ولا زالت نظرتنا للحكام –خاصه في البلدان التي تتدني فيها مستويات الديموقراطيه– تاليهيه، تضفي عليهم طابعاً سحرياً متعالياً.

هذا المقال محاوله لتفكيك ونقد هذه النظره الملتبسه ازاء السلطه، مع محاوله بث روح التفاؤل، باستشفاف سيرورات اجتماعيه وسياسيه، اخذه بالتشكل والحضور من حولنا، تنبئ بازمان تكون فيها السلطه (ونخص هنا السلطة السياسية) اقل حضوراً وسطوهً وتاثيراً.

السلطه ظاهرة اجتماعية، ملازمه للاجتماع الانساني منذ نشاته، ولكنها، دينامكيه، تتمظهر في اشكال ونُظُم مختلفه من عصر الي اخر. في العصور القديمه تمظهرت السلطه في صوره الحاكم صاحب الخصائص والصفات غير الاعتياديه الخارقه، والذي يعتقد شعبه انه مبعوث العنايه الالهيه (او انه هو ذاته اله)، والذي يحقق الخيرات لشعبه واتباعه. حيث استمد الحاكم سلطته من هذه الاعتقادات الشعبيه، والتي وصلت احياناً حد عباده الناس وتقديسهم لشخص القائد. وفي عصور لاحقه تمظهرت في صوره "اوليغاركيه"، منحصره في حكم اقليه من المتنفذين، او "عسكرتاريه"، في يد المؤسسه العسكريه.

مع مرور الازمنه وانخراط المجتمعات المختلفه في سيرورات التحضر والتحديث، ونتيجه للتغيرات الجذريه الطارئه علي الواقع المادي واتجاهه نحو التعقيد والتركيب، تحولت السلطه الي التمظهر في نماذج اكثر تعقيداً وتركيباً في الحكم. وصارت تتجسد في اجهزه ومؤسسات معقده. من فرعون المصريين الممثل للاله رع علي الارض، ومن الامبراطور الياباني المقدس، الي حكم الاجهزه والمؤسسات. حيث اخذت السلطه[1] و النفوذ يتشظيان بين البُني الاجتماعيه المعقده، ويتوزعان بين شريحه اكبر من المواطنين. واخذت السلطه تتوزع في "انساق"، علي اساس نظام تسلسلي، لكل درجه فيه مركز من مراكز القوي، في اطار السيروره التي عرفت في دراسات الاجتماع السياسي بـ "البيروقراطيه".

وفي اطار هذه السيروره تحولت عمليات صنع القرار واتخاذه وتنفيذه من كونها محصوره في شخص الحاكم او في مجموعه وفئه قليله حاكمه، الي كونها منتشره ومتوزعه علي شريحه واسعه من مواطني الدوله، ممن يشغلون وحدات الهرم التنظيمي المتشعب، المتمثل في الاجهزه البيروقراطيه للدوله. هذا الهرم الذي امتد الي مختلف مفاصل الدوله والمجتمع من الشركات والصناعه والنقابات والاحزاب والجامعات.

ولم تعد النخبه الحاكمه اليوم محتلّه لمكان عال فوق بقيه قطاعات المجتمع؛ ذلك انها قد غدت مرتبطه بالمجتمع من خلال سلسله من النخب الفرعيه، والتي تشكل جماعه كبيره تمثل "الطبقات الوسطي"[2]، اما فئات هذه الطبقات فتشمل كبار الموظفين، والمديرين، المتخصصين التكنولوجيين، والتقنيين[3] حيث تمثل هذه الطبقات العنصر الاكثر حيويه في المجتمع، والمخزن الاكبر للخدمات. وهكذا، غدا المجتمع الحديث، المبني علي البيروقراطيه والماسسه، محتوياً علي عده نخب، تتمتع بمكانه اجتماعيه، وامتيازات خاصه. و بذلك اتسعت الطبقه الحاكمه في المجتمع الحديث، بحيث اصبح عدد كبير من الافراد المجتمع يتقاسمون الحكم. وقد عرفت هذه العمليه من الماسسه والبرقرطه في دراسات الاجتماع السياسي بـ "الثوره الاداريه"[4].

ورافق سيروره الماسسه –وضمن سياق التحديث– سيروره "الدستره" و "القوننه"، والتي عملت علي تحويل عمليات اتخاذ القرار وكل نشاط سياسي الي فعل منظم، يُمارس ضمن الصياغات القانونيه والدستوريه، ومن خلال اليات تحددها هيئات ومجالس تشريعيه، وتنفذها هيئات اداريه. بحيث لم يعد بامكان المتنفذ فعل ما يحلو له دون الاخذ بعين الاعتبار التبعات الدستوريه والقانونيه لما سيقترف. وحتي في الدول التي تتغول فيها السلطه التنفيذيه علي القضائيه، لا امكانيه لتجاوز القانون الا في نطاقات محدوده، ولو تم تجاوزها، فسيكون منذراً بانهيار التعاقد القانوني المؤسس للمجتمع والضامن لاستقراره.

اما التحول الجوهري الثاني الذي عرفته السلطه، فهو تحول في شكل ممارسه السلطه، من كونها تمارس من خلال ادوات بسيطه ومباشره، كاستخدام القوه المباشره، الي كونها اليوم تنزع الي اشكال جديده، ذات طابع اكثر نعومه وخِفيه.

منذ ابن خلدون وميكافيللي، ومن بعدهما هوبز، وصولاً الي المدرسه الماركسيه، والسلطه تعرف بانها المحتكر الوحيد للعنف في المجتمع. ولكن، اليوم، تحولت مما كانت عليه دائماً باعتبارها ظاهره الاحتكار للعنف في المجتمع، الي كونها اليوم الاحتكار "الشرعي" للعنف؛ اي الاحتكار الذي يتمثل في الضمير الجماعي، كسبيل لتحقيق المجتمع المستقر.

حيث تستمد السلطه السياسيه اليوم، بصفتها "شرعيه"، وجودها من رضا المحكومين وقبولهم لها، في حين كان الحال في الماضي لا يشترط هذا الرضا، طالما كان الحكام قادرين علي اخضاع المحكومين، ولم يكن المحكومين قادرين علي كسر "شوكه" الحاكم والخروج عليه.

وفي سبيل تحقيق هذه "الشرعيه"، انتقلت الدولة الحديثة من العنف المادي الي ميدان "العنف الرمزي"، حيث لم يعد الاعتماد فقط علي الوسائل الماديه المختلفه لاخضاع الجموع والسيطره عليهم؛ من ممارسه القوه المباشره علي الاجساد، او استخدام اساليب العقاب والمكافاه. فلجات السلطه السياسيه الي الوسائل الرمزيه، وسعت الي السيطره علي ادوات الاعلام وتشكيل الراي العام، ومختلف وسائل التربيه، والتنشئة الاجتماعية، وتلقين المعرفه والايديولوجيا.

ان مجرد القوه الماديه اليوم لا تعني السلطه السياسيه، وانما الذي يجعل من القوه سلطه سياسيه هو تمثلنا الاجتماعي لها (او باصطلاح بورديو: الهابيتوس)؛ اي ربطها في ضمائرنا بالخير العام، فتبدو لذلك "شرعيه". وبذلك غدت السلطه اليوم ذات طابع اكثر رمزيه، ولامرئيه، ولم يعد يمكن ان تمارَس، الا بتواطؤ اولئك الذين يابون الاعتراف بانهم يخضعون لها، بل ويمارسونها. وهنا نري مره اخري السلطه متشظيه منتشره بين مختلف وحدات المجتمع.

التحول الثالث لطبيعه السلطه جاء من داخل بُني السلطه نفسها، مع انفتاح السلطات المحليه المختلفه علي بعضها البعض في اطار سيروره "العولمه". حيث تجسدت هذه العولمه في مؤسسات وهيئات امميه كالامم المتحده وصندوق النقد الدولي، وفي الشركات متعدده الجنسيات، والتي اخذت في التاثير علي عمليه صنع القرار الداخلي للسلطات السياسيه المحليه.

رافق هذا التراجع للسلطه المحليه انتقاض ونخر داخلي لها تمثل في السياسات النيوليبراليه، والتي فصلت السياسه (الدوله) عن الاقتصاد، مما اطلق سيروره "الخصخصه" والتي عملت علي تاكل الدوله، وتحول الحكم تدريجياً من الساسه الي رجال الاعمال واصحاب رؤوس الاموال. مما تبلور في تبعيه "السياسي" لـ "الاقتصادي". واين هو خضوع شركه كشركه الهند الشرقيه للحكومه البريطانيه في القرن التاسع عشر من خضوع حكومات اليوم لاملاءات شركات النفط اليوم؟

السيروه الاخيره التي سنشير اليها جاءت من خارج نطاق السلطه، وهي التي رافقت "الثوره المعلوماتيه" وتمثلت في صعود العوالم الافتراضيه الموازيه وزياده دائره انتشارها، والتي تبلورت في "المجتمع الشبكي"، حيث اتاحت "شبكات التواصل الاجتماعي"، القدره للجميع علي المساهمه في تشكيل الراي العام، وعرض وجهات النظر التي لا تتبناها السلطات الحاكمه ازاء الاحداث المتلاحقه، وسهلت الوصول الي المعلومات، بعد ان كانت اسراراً و حكراً علي صانعي القرار. كما وفرت القدره علي التجمهر والحشد، و كل ذلك انتهي الي زياده و مضاعفه شريحه المشاركين والمتابعين للحدث السياسي والفاعلين فيه.

كما ساهمت هذه العوالم في خلق شبكات من العلاقات  المبنيه علي الاجتماع علي اسس اختياريه من تقارب فكري واتفاق علي مشاريع مشتركه، الامر الذي ساهم في تعطيل اليات الاخضاع التي تمارسها السلطه، والتي تسعي الي تذرير المجتمع، او الابقاء عليه ضمن تجمعات، كالعشيره والطائفه، والتي يسهل السيطره عليها والتحكم في افرادها.

ما قدمناه اعلاه ليس من قبيل التحليل الدقيق والتنبؤ العملي. هو اشارات متفرقه الي مجموعه من السيروروات الاخذه بالتبلور، علي مدد زمنيه متوسطه وطويله، والتي تنبئ بتراجع السلطه السياسيه وتاثيرها في المجتمعات، وبزياده شريحه وتاثير الفاعلين السياسيين من الافراد العاديين.

[1] باعتبار ان السلطه هي القدره علي اتخاذ القرار وانفاذه.

[2] نريد هنا "الطبقات الوسطي" بمعناها "السوسيو – سياسي" لا "السوسيو – اقتصادي".

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل