المحتوى الرئيسى

ليست مغامرة، إنها بديل صناعي

04/10 13:06

اعترف انني كدت اعتذر عن المشاركه في هذا الملف، فالحرب هي ابغض الموضوعات الي نفْسي، لكن الحضور الملطف للابداع في العنوان جعلني اغير رايي، وهانا ذا اتصدي للموضوع علي امل ان اُنَحِّيَ، ولو قليلاً، حضور الحرب في يقظتي ونومي!

احسب ان الحرب جنون تدميري منظم يطلقه اذكياء اشرار لخدمه مصالحهم الانانيه بعد صبغها بالوان الخير العام. اما الابداع فهو جنون من نوع اخر، قد يلجا فيه الكاتب والفنان المبدع الي «الكذب» لقول الحقيقه.

قبل سنوات توصلت للاستنتاج التالي: الابداع هو احد ثلاثه؛ ان تقول شيئاً جديداً بطريقه جديده، او ان تقول شيئاً جديداً بطريقه قديمه، او ان تقول شيئاً قديماً بطريقه جديده، وكل ما عدا ذلك لغو.

هل العلاقه ضديه بين الابداع والحرب؟ للوهله الاولي قد يبدو الامر كذلك، لكننا لو فكرنا اكثر لوجدناها علاقه تكامليه، فالابداع خلق، والحرب قتل، ولا بد من فعل الخلق كي يتم فعل القتل.

القتل هو اول ما يحضر في الذهن عند التفكير بالحرب، والقتل فعل بغيض منكر تنهي عنه كل الاديان والشرائع السماويه والارضيه، غير ان رجال الاديان والشرائع لا يبررون القتل في الحروب وحسب، بل يعتبرونه جواز مرور الي المراتب الاعلي في حياه ما بعد الموت.

منذ بدء الحرب المجنونه علي بلدي سوريه، ثمه سؤال يلح عليَّ ولا اجد له جواباً:

هل القتل هو اسوا ما في الحرب؟

يبدو لي ان التجار الذين يتفننون في سرقه اللقمه من افواه الناس، قد يكونون احياناً اسوا ما في الحرب. فانا احترم الموت بوصفه النقطه التي تختتم بها جمله الحياه، الا انني اتعاطف مع المظلوم الجائع اكثر من المظلوم الميت. ربما لان المظلوم الجائع هو مشكله تتفاعل وتتفاقم، في حين ان المظلوم الميت هو مشكله اخذت بعدها الاقصي وانفجرت.

في احيان اخري، يبدو لي ككاتب، ان اسوا ما في الحرب هو ان اضطر لان اغض النظر عن الفاسدين المفسدين علي الجبهه التي انتمي اليها، كي لا اتهم باضعاف الشعور الوطني.

بعض الكتاب يركبون خيول الحرب ويمتشقون استعاراتهم وتشابيههم ومبالغاتهم، وينخرطون في المعارك لرصد ما يجري في ميادينها، وما يفعله هؤلاء له تقديري شريطه التزام الصدق والحرص علي الحياه البشريه بوصفها القيمه الاعلي في هذا الكون.

بعض الكتاب يعتبرون الحرب مغامره شيقه ممتعه، وهؤلاء غالباً ما يكونون ممن يفتقرون للحساسيه الانسانيه والرصانه الفكريه، صحيح انني لم اخض ايه حرب بالمعني الدقيق للكلمه، لكنني عشتها من خلال كلمات كاتبي المفضل ابن السماء الطيار انطوان دو سانت اكزوبيري، الذي اختفي مع طائرته اثناء الحرب العالمية الثانية، فقد قال اكزوبيري في روايته: «الطيران الي الراس» التي صدرت عام 1942 اي قبل وفاته بعامين: «الحرب ليست مغامره حقيقيه، انها مجرد بديل صناعي». فحيث تنشا العلاقات، وحيث تقوم المشاكل وحيث يتم التحريض علي الابداع ـ هناك تكون المغامره. لكن ليست هناك ايه مغامره في لعبه «وجه العمله او قفاها»، في المراهنه علي ان المقذوف سيخرج حياً او ميتاً. ان الحرب ليست مغامره. انها مرض اشبه بـ «التيفوس»! والتيفوس كما تعلمون هو داء معد حاد تسببه بكتيريا ينقلها القمل في الاماكن القذره المزدحمه.

عشت الحرب ايضاً من خلال الرسائل المؤثره التي كتبتها الممرضه الانجليزيه الشهيره فلورانس نايتنغيل اثناء عملها كممرضه في منطقه البحر الاسود عام 1855: «في الحرب رعب لا يستطيع احد ان يتخيله. المرعب ليس في الجراح او الدماء او الحمي او الزحار، ولا في البرد او الحر او الجوع، بل في التسمم، والقسوه المخموره، وانعدام الاخلاق والانضباط من جهه الطبقه الدنيا، والغيره والوضاعه وعدم المبالاه والانانيه والوحشيه من جهه الطبقه العليا».

صحيح ان البشر هم الذين يشنون الحروب ويتحملون مسؤوليتها، لكن الحروب من حيث طبيعتها ونتائجها اقرب الي الكوارث الطبيعيه، ذلك لانه ما من احد يمكن ان ينتصر في الطوفان او الزلزال، ولو دققنا في طبيعه الحروب الضاريه لوجدنا ان الثمن الباهظ للنصر فيها غالباً ما يجعله يشبه الهزيمه.

احسب ان الابداع الحقيقي هو ضرب من الاستبصار الخلاق الذي يمارسه المبدع لمعرفه نفسه واستبطان ما يعتمل في اعماق مجتمعه من نزعات وهواجس وتوجهات. واخطر ما في الحرب علي الابداع، برايي، هو انها تخلخل العلاقه بين الانا والاخر، مما ينجم عنه تشوه مفهوم «الانا» او مفهوم «الاخر». وعندما يحصل هذا او ذاك، او كلاهما، يتحول الكاتب من مبدع معني بالانسان الي بوق معني بمصالحه ومصالح الفئه التي ينتمي اليها.

قبيل وفاته بقليل، قال الكاتب الاميركي الساخر ويل روجرز: «لا يمكنك القول ان الحضاره لا تتقدم، فهُم في كل حرب يقتلونك بطريقه جديده». والحق ان خيال البشر في مجال القتل والتخريب لا حدود له، فمن منا كان يتصور ان جره الغاز المنزليه الوديعه ستتحول ذات يوم الي قذيفه يطلقها مدفع من جهنم!

جاء في ميثاق منظمه اليونسكو العالميه للتربيه والثقافه والعلوم التي تاسست عام 1945: «بما ان الحروب تنشب في رؤوس الرجال اولاً، فمن الواجب بناء دفاعات السلام في رؤوس الرجال ايضاً». ما لا شك فيه هو ان هذه العباره تلقي مسؤوليه كبري علي اكتاف مبدعي العالم ومعلميه في التصدي للحرب لا في رؤوس الرجال وحسب، بل في رؤوس الاطفال قبل ان يصبحوا رجالاً. لا شك ان الكُتَّاب العرب يعانون من تشوش نسبي في رؤاهم الابداعيه يحول دون ان يلعبوا دورهم في بناء روح المواطن كما يجب، الا ان تقصيرنا في مجال التعليم يكاد يكون كارثياً بكل معني الكلمه!

في عام 1936 اصدر باحث لبناني يدعي يوسف ابراهيم يزبك كتاباً محتواه في عنوانه «النفط مستعبد الشعوب» قدم له المجاهد الكبير ابراهيم هنانو الذي تم قطع راس تمثاله في ادلب قبل ايام علي ايدي «المعارضه المعتدله». وقد افتتح يزبك كتابه بمقوله اطلقها وزير الحربيه البريطاني اللورد فيشر عام 1901: «استعدوا لحرب النفط» والحقيقه ان كلَّ ما شهدته منطقتُنا من ويلات منذ ذلك التاريخ وحتي الان هو معارك في الحرب التي طالب اللورد فيشر الغربَ بالاستعداد لها.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل