المحتوى الرئيسى

محمد إلهامي يكتب: نظرة عامة على العصر العباسي الأول | ساسة بوست

04/09 22:34

منذ 29 دقيقه، 9 ابريل,2015

لقد كان عصر العباسيين الاقوياء هو عصر مجد الدولة العباسية، وكالعاده في عصور المؤسسين يكثر الرجال الاقوياء الذين اقاموا الدوله فحولوها الي واقع بعد ما كانت حُلمًا وامنيه، ثم ان هذا الجيل يورثها الي ابنائه ممن تعهدهم بالرعايه والعنايه والتدريب لكي يحملوا هذه الامانه من بعدهم، ثم ياخذ الحال في الضعف والانحلال بنشوء جيل نشا في القصور والترف ولم يعانِ مما ذاقه جيل المؤسسين، ولم تبلغ بهم الرعايه والعنايه مثلما بلغت المعاناه الحقيقيه بابائهم، وهكذا حتي يظهر الخلفاء الضعفاء فيتسلط عليهم الوزراء او العسكر او تاتي دوله اخري تذهب بالدوله كلها وتعيد سيره السابقين!

وقد شهد هذا العصر العباسي عده تغيرات مهمه في مسار التاريخ الاسلامي نشير اليها بايجاز سريع:

الامامه وتغير الفكره عن الحاكم

لقد توفي رسول الله – صلي الله عليه وسلم- دون ان يعهد الي احد بعينه بالخلافه، وترك الامر شوري، ولذا اختلف المسلمون فيمن يولونه عليهم حتي استقر امرهم علي ابي بكر الصديق (رضي الله عنه)، ثم كان واضحًا لدي المسلمين ولدي ابي بكر ان استحقاقه الخلافه لم يكن الا باختيار الناس وبتوكيل الامه له، فهو وكيل عن الامه وليس وصيًّا عليها او مستحقًا للخلافه بميزه او بعهد! فكان للامه ان تعزله مثلما نصبته وان تحاسبه وتراقبه، فهو واحد منها.

وقد استمر هذا ثابتًا راسخًا في عهد الخلافه الراشده، الخليفه يكتسب شرعيته من اختيار الناس له، فهكذا كان عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم جميعًا!

ثم راي معاويه (رضي الله عنه) ان يعهد بالخلافه لابنه من بعده، تجنبًا للفتن والمشكلات والصراع علي منصب الخلافه بعد ذهاب الكبار وعوده العصبيات(1)، وقد رضيت الامه بهذا فيما عدا اثنين: خرج احدهما (الحسين بن علي) ولم يخرج الاخر (عبد الله بن الزبير)، ثم اثبت التاريخ ان بني اميه كانوا العصبه الاقوي والاقدر علي حكم الدولة الإسلامية، بل وهم الذين حققوا اوسع الفتوحات التي نشرت الاسلام في جنبات الدنيا مما لم يستطعه احد بعدهم.

الا ان تلك اللحظه كانت اول انحراف عن الشوري التي اقرها النبي – صلي الله عليه وسلم- والتي اطردت في عهد الخلافه الراشده، لكن بقي الحاكم يعرف ان لا شرعيه له الا باختيار الناس ولا ميزه له عليهم ولا اختصاص له دونهم، وكان الحكم ينتقل في الدولة الاموية الي الاقوي من بيت الخلافه وليس الابن بالضروره.

اما التغير الكبير فقد جاء مع الدوله العباسيه، فهنا ظهرت للمره الاولي فكره «استحقاق ال البيت بالخلافه» وان الامر ليس مجرد اختيار الناس لخليفتهم، بل هو امر مقرر سلفًا، فالخليفه متميز بانه من بيت النبوه، وان الله قد اختص هذا البيت بعلم لم يكشفه لاحد غيرهم، يجعلهم وحدهم اهل تولي هذه المسؤوليه، وتظل بيعه الناس التزامًا علي الناس بالسمع والطاعه لخليفتهم.

وهذه الفكره ابتكرها اليهودي عبد الله بن سبا منذ عهد عثمان رضي الله عنه وكانت اول الفتنه، لكنها تسربت فيما بعد الي الشيعه وظلت تتمدد وتُلتمس لها الادله والروايات حتي صارت فكره راسخه لديهم قامت كثير من الشخصيات بترجمتها الي ثورات طوال العهد الاموي، ثم كانت هي الفكره الاساسيه التي اعتمدت عليها الدوله العباسيه.. الدعوه الي «الرضا من ال محمد».

ولما كانت هذه الفكره تجمع العباسيين والعلويين، وتُشَغِّب علي العباسيين انفرادهم بالخلافه من بين ال البيت، ظهرت فكره اخري تجعل العباسيين وحدهم اولي بهذا المنصب.. تلك هي اعتبار الخلافه ميراثًا، وحيث انها كذلك فان اولي الناس بها بعد النبي – صلي الله عليه وسلم- هو عمه العباس، فقد مات النبي ولا ولد له، ولكن العباسيين لم يصنعوا مذهبًا جديدًا علي غرار الشيعه بل كان الافضل لهم ان يقولوا بانه طالما رضي العباس عن خلافه ابي بكر وعمر وعثمان فخلافتهم صحيحه من قبيل تنازل صاحب الحق عن حقه.

والصحيح الذي لا شك فيه ان كل هذا كلام باطل، وانه اختُرِع لاسباغ الشرعيه علي الصراع السياسي، لكن الذي يهمنا في هذا السياق هو الاشاره الي تغير الفكره عن الخليفه، فهو لم يعد اختيار الناس بل هو حق شرعي لمجموعه من الناس هم «ال البيت»، ثم هم «العباسيون».

وهذا الانحراف عن الاسلام هو اكبر بكثير واعظم بكثير من ذلك الانحراف الجزئي الذي كان في صدر الدوله الامويه، لانه يؤسس لفكره شرعيه ولا يتحدث عن الاضطرار وحكم الضروره ومصلحه الامه كما كان الامويون يتحدثون.

فمن هنا بدات فكره «الامام الولي او الوصي علي الامه» من بعد ما اسس الاسلام لقاعده «الامام وكيل عن الامه».

وقد ساهم في رسوخ هذه الفكره وتجذرها عدد من العوامل منها:

1. استمرار التنظيم العباسي «الدعوي» حتي بعد قيام الدوله، فقد «ظل الخليفة العباسي صاحب الدوله في مقام الامام صاحب الدعوه وكانت له رسائل الي اتباعه، كما كان لاتباعه رسائل اليه، واستمرت الصلات بتنظيمات الدعوه وجماهيرها، واعتمد الحكم في العصر العباسي الاول علي القاعده الجماهيريه للدعوه، وبالنظر في الرسائل المحفوظه – ومنها علي سبيل المثال رسائل الخميس لاحمد بن يوسف، والتي استمرت حتي عهد المتوكل- يتبين ان التعليمات كانت تُرسل الي المريدين من مختلف الاقطار للاحتفاظ بتشكيل الدعاه والنقباء والعمال، ولعلَّ هذا هو ما اكسب النظام السياسي صلابه وقوه، وهو يفسر ما قام به انصار الخلافه من تبرير لاعمالهم في «رسائل التقريظ» (2).

2. ومنها كون الفرس والموالي قد اصبحوا هم رجال الدوله العباسيه، وهم الذين اعتادوا علي فكره الولاء للسيد، فالفارسي صاحب تقاليد عريقه ضاربه في القدم منذ الحكم الكسروي في الامبراطوريات الفارسيه، والمولي لا طمع له في المنافسه علي السلطان!

وقد كان من البصيره النافذه للامام محمد بن علي ادراك هذا الامر، وهو الاستعانه بالموالي من غير ذوي الاصول العربيه، فبهذا استطاعت الدوله العباسيه ان تحفظ بقاءها لفتره طويله حتي وان كان الخليفه ضعيفًا مغلوبًا علي امره كما سيبدو في العصور التاليه، لكن وجودهم رسخ فكره حق العباسيين في الخلافه وكيف ان احدًا لا ينبغي له منافستهم عليها، فقنعوا بالوجود في مصاف الوزراء والاجناد.

علي ان ثمه نتيجه اخري في غايه الاهميه ترتبت علي وجود الفرس كرجال للدوله، تلك هي:

لقد ظلت الدوله الامويه عربيه في اسلوبها وتقاليدها، فهم لم يتخذوا قصورًا ملكيه للحكم، ولم يتخاطبوا مع الناس بـ«سيدي» او «مولاي»، ولم يكن في بلاطهم تقبيل اليد او تقبيل الارض امام الخليفه، ولم يتخذوا القابًا ملكيه.

بينما سنجد المظاهر السلطانيه انتقلت الي الدوله العباسيه، فكانما جددت البلاط الفارسي الكسروي، فصار للخليفه القاب ومراسم وتقاليد ملكيه، ودخل التعظيم الكسروي الي قصر الخليفه العباسي، ودخلت في النظام الاسلامي فكره الوزير صاحب الصلاحيات الواسعه في التصريف والتدبير.

وعلي الجانب الاخر كان اشتعال نزاع عربي- عربي كبير كفيلًا بتقويض الدوله الامويه، بينما كان غايه ما تفعله الصراعات الفارسيه او التركيه او العربيه ان تنقل الخلافه من عباسي الي عباسي اخر، لانهم جميعا يعلمون استحاله قبول الناس لهم كخلفاء!

وهكذا، كان دخول الفرس بميراثهم الكسروي من عوامل الاستقرار نوعًا ما واطاله عمر الخلافة العباسية، ولكنه كان ايضًا من عوامل انحراف كبير عن الاسلوب الاسلامي في تقرب الخلفاء من الناس ورعايتهم المباشره لاحوالهم.

لقد صار الخلفاء محجوبين عن العامه، قد يظهرون في العام مره او مرتين، ويفصلهم في حال احتجابهم مساحات من الفخامه والترف والمظاهر الملكيه، فاذا كان حال ظهورهم ظهروا في مواكب ملكيه فاخره تزيغ لها العيون رهبه ورغبه!

لقد كانت طبقه الكُتَّاب واصحاب الدواوين غالبًا من الفرس في ذلك العصر، فنقلوا الادبيات السلطانيه الفارسيه، ويعد تراث ابن المقفع مثالًا واضحًا، بل ان ثمه مؤلفات – مثل الوزراء والكتاب للجهشياري- يبدو واضحًا فيها استقرار الامر علي اعتبار تاريخ الوزراء الاسلامي تَبَعًا لتاريخ الوزراء الفرس، وشاعت في ادبيات تلك الفتره الحِكَم الفارسيه وتاريخ ملوك ال ساسان واقوالهم وافعالهم واسلوبهم في السياسه والاداره، بل ان موجه الترجمه الهائله التي بلغت ذروتها في عهد المامون والتي نقلت كل ما طالته يدها من تراث روماني لم تنقل ابدًا اداب الرومان ومسرحياتهم واساطيرهم، ومن اقوي ما قيل في تفسير هذا ان الادب الفارسي كان اقرب الي الاسلام من الادب الروماني واليوناني الممتلئ بتعدد الالهه وصراعاتها وقصصها الاسطوريه السخيفه، ثم ان هذا الادب الفارسي الذي شاع في تلك الفتره خصم طبيعي وتاريخي للادب اليوناني، فيصح ان يقال ان الادب الفارسي كان قد سدَّ هذا الاحتياج او حتي منع من تسرب هذه الافكار – المخاصمه للتراث الفارسي- عن وعي!

ومن هنا دخلت المظاهر السلطانيه الي الحياه الاسلاميه، ثم دخل التنافس الي قلوب الخلفاء في بناء القصور وتكثيرها والمبالغه في فخامتها لتحكي للاجيال سيرته وعظمته، وكان هذا انحرافًا جديدًا عن المسار الاسلامي كما تبدي في سيره النبي والخلفاء الراشدين.

وحيث بُنيِت القصور الفاخره التي احتجب فيها الخلفاء عن الناس، فقد استتبع هذا ظاهره اخري، تلك هي:

لقد صار من اليسير بعد هذا الاحتجاب عن العامه ان تنشا مجالس تشهد ما لا يمكن ان تقبله العامه، وان تنمو حاشيه تحف بالملك في اوقات سمره ولهوه، فتطربه باخبار القدماء وايامهم وادابهم واشعارهم وطرائفهم ونوادرهم، ولئن كان خلفاء العصر العباسي الاول من الجد واليقظه ما جعل مجالسهم هذه بحرًا من الثقافه، فان من بعدهم لم يكونوا هكذا، بل صارت مجالسهم بحرًا من اللهو!

وفيما عدا المنصور يعد وجود الشراب جزءًا من سيره اولئك الخلفاء في لحظات سمرهم، وقد اخْتُلِفَ كثيرًا فيما اذا كان هذا الشراب من المُسكر المحرم ام هو من الحلال، وهو خلاف مشهور بين علماء العراق وعلماء الحجاز، لكن كثيرًا من المجالس شُرب فيها الخمر وقيل فيها ما هو حرام من الاشعار، وكتب الادب تفيض باخبار هذا وتبالغ فيه جدًّا الي الحد الذي يجعل الاخذ منها والثقه في اخبارها في حكم المستحيل احيانًا. واشهر ما يُذكر في هذا كتاب الاغاني لابي الفرج الاصفهاني الذي وُصِف بحق بانه «النهر المسموم» لكثره ما يرويه من الخرافات والاكاذيب(3)!

لكن المبالغات لا تنفي الاصل الذي تتناثر اخباره في كتب التاريخ والتراجم وغيرها، وهذا بلا شك انحراف عن المسار الاسلامي!

ولعل كل هذه الانحرافات تجعل القارئ يتساءل:

اين كانت الامه لتصحح هذا وتقومه وتعيده الي مساره؟ واين كان علماؤها وفقهاؤها؟

لقد كانت الامه موجوده وقائمه وتمارس مقاومتها لكل هذه الانحرافات؛ فالعلماء يمارسون المقاومه العلميه بالكتابه والتاليف والتدريس، كما يمارسون الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو للخليفه نفسه، وكم استطاع العلماء رد الخلفاء عن انحرافات ومنعهم منها، وكم استطاعوا تعديل اوضاع خاطئه او منعها والوقوف دون تمريرها.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل