المحتوى الرئيسى

نقد التراث (1/ 2): نقد صحيحي البخاري ومسلم

04/07 20:55

حظيت السنه بمنزله كبري عند المسلمين حتي كادت ترتفع الي مكانه القران وتوازيه، خاصه عند السواد الاعظم من المسلمين اي أهل السنه والجماعه، حتي قال يحيى بن أبي كثير (من علماء اليمامه، ت: 129هـ): السنه قاضيه علي الكتاب وليس الكتاب بقاض علي السنه. وقال أحمد بن حنبل: لا اجسر علي ان اقول هذا، ولكن اقول: السنه تفسر الكتاب وتبينه.

وصحيحا البخاري ومسلم هما اجل جوامع السنه؛ فقد اشترطا علي نفسيهما اعلي شروط الصحه فجاء كتابهما في الذروه بين جوامع السنه وتلقتهما الامه بالقبول.

ومع ذلك فلم يزل كتابا البخاري ومسلم يتعرضان للنقد علي مدي التاريخ والذي يتراوح بين الدراسه العلميه والخطاب الفكري الساخط عليهما ويتراوح كذلك في شدته بين من ينتقد احرف يسيره وبين من يسقط قيمه الكتابين او يطالب بسحب تلك القيمه الكبيره التي منحها الكتابين. نذكر في هذا التقرير ابرز تلك المحاولات النقديه ونصنفها بين ثلاثه انواع: النقد السلفي، والنقد الشيعي، والنقد التجديدي.

لا يعرف كثيرون ان الصحيحين قد تعرضا لنقد من علماء الحديث الكبار في الازمنه اللاحقه عليهما مباشره، فعلي الرغم من ان بعض العلماء (كالاسفرائيني وهو فقيه شافعي كبير ت: 418هـ، والدهلوي وهو عالم هندي كبير ت: 1176هـ) قد تسرع في نقل الاجماع علي ان كل ما في الصحيحين من الاحاديث الموصوله (يعني التي اتصلت سلسله الرواه فيها بين صاحب الكتاب وبين من نسب اليه الحديث) المرفوعه (اي التي نسبت او رفعت الي النبي صلي الله عليه وسلم ولم تنسب او تقف عند احد الصحابه رضي الله عنهم او التابعين) صحيح ثابت. ولا نعني مع ذلك بالنقد السلفي النقد الذي وجهه  الاسلاف وحدهم وانما نعني كذلك النقد الذي وجهه من سار علي دربهم وان كان من المعاصرين.

لكن هذا لا ينفي ان النقد السلفي قد اتسم بتحفظ كبير (وسنذكر خصائصه لاحقا). يقول ابن الصلاح (جامع علوم الحديث واول من دونها، ت: 643هـ):

          ||ما تفرّد به البخاريُّ او مسلمٌ مندرجٌ في قَبيلِ ما يُقْطَعُ بصحته، لتلقّي الامّهِ كل واحدٍ من كتابيهما بالقبول، علي الوجه الذي فصّلناه من حالِهما فيما سبق. سوي احرفٍ يسيرهٍ تكلّم عليها بعضُ اهلِ النقدِ من الحُفّاظِ كالدارَقَطْني وغيرِه. وهي معروفهٌ عند اهل هذا الشان||

وسنقف هنا عند ابرز محاولتين لنقد الصحيحين في السياق السلفي كما بينا، احدهما لواحد من ائمه السلف القدامي وهو الحافظ الدارقطني والاخر لواحد ممن التزم هذا المنهج وهو الشيخ محمد ناصر الدين الالباني.

(1) كتاب "الالزام والتتبع" للدارقطني:

الدارقطني هو ابو الحسن علي بن عمر، ولد بدار القطن-بغداد سنه 306هـ وبرع في علوم الحديث خاصه، وتوفي سنه 385. صنف في نقد كتابي البخاري ومسلم كتاب "الالزام والتتبع" الذي طبعته دار الكتب العلميه ببيروت حديثا بتحقيق الشيخ مقبل بن هادي الوادعي حيث يركز علي العلل التي ترد علي بعض احاديث البخاري ومسلم وتصل في كتابه الي حوالي مائتي حديث.

وقد تكفل الحافظ ابن حجر العسقلاني (امام علوم الحديث الكبير وشارح البخاري، وهو مصري، ت: 852هـ) بالاجابه التفصيليه عن الاعتراضات التي وردت علي احاديث البخاري في كتابه "هدي الساري" الذي جعله مقدمه لشرحه لصحيح البخاري الذي اسماه "فتح الباري". فقد عد ابن حجر ما انتقد علي البخاري من الاحاديث فوجده 110 من الاحاديث، اشترك مسلم معه في روايه 32 منها. هذا من اصل 2602 حديث في البخاري بعد حذف المكرر (لان البخاري كان قد يجزئ الحديث او يكرره تحت الابواب المختلفه الموضوعيه في كتابه) والمعلق (التي لم يروها بسلسله من الرواه وانما ذكرها عن قائلها دون روايه).

وقد صنف كذلك ابو مسعود الدمشقي (من علماء الحديث، ت: 401هـ) كذلك "الاجابه عما اشكل الدارقطني علي صحيح مسلم"، وطبعته دار الوراق بتحقيق ابراهيم ال كليب.

الالباني هو الشيخ محمد ناصر الدين بن نوح (1914 – 1999م) هو اشهر المتخصصين المعاصرين في علوم الحديث، ولد بالبانيا واستوطن سوريا ثم انتقل الي الاردن وقضي فيها باقي حياته بعد هزيمه 1967 م التي تخللتها زيارات لدول كثيره؛ وله منزله كبري عند السلفيين المعاصرين.

وفي اطار مشروعه الضخم في دراسه السنه وتقريبها، تعرض الالباني بالنقد لبعض احاديث الصحيحين، لكنه لم يفرد لها دراسه فيقول:

          ||الإمام البخاري والإمام مسلم قد قاما بواجب تنقيه هذه الاحاديث التي اودعوها في الصحيحين من مئات الالوف من الاحاديث، هذا جهد عظيم جداً جداً. ولذلك فليس من العلم وليس من الحكمه في شيء ان اتوجه انا الي نقد الصحيحين وادع الاحاديث الموجوده في السنن الاربعه وغيرها غير معروف صحيحها من ضعيفها. لكن في اثناء البحث العلمي تمر معي بعض الاحاديث في الصحيحين او في احدهما، فينكشف لي ان هناك بعض الاحاديث الضعيفه! لكن من كان في ريب مما احكم انا علي بعض الاحاديث فليعد الي (فتح الباري) فسيجد هناك اشياء كثيره، وكثيره جداً، ينتقدها الحافظ احمد ابن حجر العسقلاني|| (فتاوي الشيخ الالباني، ص526، جمع عكاشه الطيبي)

ومع ذلك فقد تعرض الالباني بسبب ذلك الي هجوم شديد، وان كانت تلوح منه رائحه المناكفه المذهبيه بين علماء الحديث السلفيين وعلماء الحديث الاشاعره في القرن المنصرم. فقد تصدي محمود سعيد استاذ علوم الحديث المصري لنقد الالباني لبعض احاديث مسلم فكتب "تنبيه المسلم الي تعدي الالباني علي صحيح مسلم"، وقد رد عليه كذلك باحث مصري سلفي هو طارق عوض الله بكتابه "ردع الجاني المعتدي علي الالباني".

اتسم النقد السلفي للصحيحين مع ذلك بمجموعه من السمات تجعل منه نقدا متحفظا لا يمس مكانه الصحيحين ولا يرمي الي تحقيق خطوات واسعه في التجديد بعيدا عن المسار السلفي لعلوم الحديث والدين، فمن خصائصه:

1- نقد عملي لا نظري: لم يتجاوز النقد السلفي الجانب العملي الي النقد النظري لقواعد علوم الحديث التقليديه بل التزمها.

2- نقد تقني لا فكري: توجه النقد السلفي الي الجانب الفني في علوم الحديث في الصحيحين دون ان يعني ذلك عند هؤلاء النقاد اثرا كبيرا لما انتقدوه علي علوم الدين والفقه الاسلاميين.

3- نقد سندي لا متني: توجه النقد بالاساس الي علل الاسانيد، وحتي عندما كان يصل النقد الي المتن فانه كان غالبا لترجيح لفظ علي لفظ لا لرد المتن بسبب معارضته للقران او للعقل او للفطره السليمه، اللهم الا في احاديث معدوده كحديث عمرو بن ميمون في انه راي حد الرجم عند القرده، وقد روي البخاري ذلك، وانكر القصه ابن عبد البر والالباني من المعاصرين، وحديث تميم الداري في انه التقي الدجال والمعروف بحديث الجساسه (انظر: منهج نقد المتون عند علماء الحديث النبوي، د. صلاح الادلبي).

توجه بعض علماء الشيعه الي البخاري بالنقد باعتباره اهم مراجع الحديث عند السنه، وهو [اي الحديث] المجال الذي يقع فيه خاصه النزاع بين السنه والشيعه. فقد صنف الميرزا فتح الله بن محمد جواد الاصبهاني (ت: 1339هـ) كتابا سمي "القول الصراح في البخاري وصحيحه الجامع" نشرته مؤسسه الامام الصادق بقم-ايران، وقدم له: الشيخ جعفر السبحاني. ويركز النقد الشيعي للبخاري علي امرين:

1- الاثر السياسي والايديولوجي لسنيه البخاري علي روايته لمناقب اهل البيت، وبذلك يكون النقد الشيعي سابقا للنقد التجديدي في اثاره تلك النقطه.

2- نقد ما في بعض احاديث البخاري مما يخالف عقائد الشيعه بخصوص الذات الالهيه وما يجوز ان تتصف به وما لا يجوز.

ولجعفر السبحاني نفسه المرجع الشيعي الايراني المعاصر، كتاب "الحديث النبوي بين الروايه والدرايه" وهو دراسه لحديث اربعين من الصحابه رضي الله عنهم. يقترب الكتاب كثيرا من النقد التجديدي حيث يركز علي نقد المتون في ضوء القران والعقل، لكن الاثر المذهبي يظهر في تركيز المؤلف علي المراجع السنيه دون نظيراتها الشيعيه دون اي مبرر علمي.

نعني بالنقد التجديدي النقد الذي يوجهه بعض المعاصرين لاحاديث صحيحه علي قانون علوم الحديث التقليدي خاصه من احاديث البخاري ومسلم. وهو نقد، علي خلاف النقد السلفي، يتسم بما يلي:

1- نقد نظري: يطال النقد التجديدي الاسس النظريه لعلوم الحديث ويتبني اسسا متغايره من ابرزها:

          ا- نفي القول بعداله الصحابه قاطبه، حيث يطالب النقد بالتعامل مع الصحابه باعتبارهم رواه كسائر رواه السند، يتفاوتون في الامانه كما في الضبط. فيبرز لذلك نقد الصحابي المكثر من الروايه ابي هريره كما نري في كتاب "ابو هريره شيخ المضيره" لمحمود ابوريه، و"اكثر ابو هريره" لمصطفي بوهندي.

          ب- يطالب النقد التجديدي باستخدام ادوات النقد التاريخي، اي اعتبار الظروف السياسيه والفكريه لرواه الحديث قبل الحكم عليه بناء علي موقف اصلي منهم باعتبارهم ثقات او حفاظ.

2- نقد فكري: يري النقاد التجديديون ان السنه قد لحقها تضخم، فزاد حجمها لاسباب تاريخيه واصوليه استدعت من العلماء التوسع في تدوينها وطلبها دون تمحيص كاف لانه تم بادوات ناقصه تعرضت هي نفسها لضغوط الظرف السياسي والفكري. اضافه الي رفع تلك المرويات المجموعه الي منزله القران (انظر مثلا: اعمال العقل، لؤي صافي – السلطه في الاسلام، عبد الجواد ياسين – من اسلأم القرآن الي اسلام الحديث، جورج طرابيشي).

3- نقد المتون: يري النقاد التجديديون كذلك ان الموقف السلفي النظري بان متن الحديث يرد اذا عارض القران او العقل الصريح فانه يرد بذلك، لم يفعل بل وضرب حول تفعيله حصار سلطوي، باعتبار من يطبقه مبتدعا او نحو ذلك.

يمكن النظر الي موقف بعض الفرق الاسلاميه كالخوارج والمعتزله من السنة النبوية، باعتبارها قريبه من الموقف التجديدي، من حيث ردها بعض الاحاديث التي رات انها تعارض القران، ورفضها الاحتجاج احيانا باخبار الاحاد (اي التي لم يروها سوي الواحد او العدد القليل). كما ان النقد الاستشراقي للسنه والذي بلغ ذروته في كتاب المستشرق المجري جولدتسهير "العقيده والشريعه في الاسلام" للسنه باعتبارها اثارا للعقل الاسلامي بعد نضجه تمت نسبتها الي السنه (وقد رد عليه العالم السوري مصطفي السباعي في كتابه "السنه ومنزلتها في التشريع الاسلامي")، يشبه النقد الذي وجهه بعض التجديديون باعتبار كثير من نصوص السنه مواقف فكريه وسياسيه وفقهيه لاحقه تم تحويلها الي نصوص نبويه، وهي العمليه التي يسميها عبد الجواد ياسين "التنصيص".

يتراوح النقد التجديدي للسنه بين مستويات ثلاثه:

المستوي الاول: هو موقف المفكرين التحديثيين الذين درسوا العلوم الانسانيه الغربيه الحديثه وتاثروا بقيمها وادواتها؛ فهم ينظرون الي التراث باعتباره منتجا انسانيا ينبغي اخضاعه لتلك العلوم. ويعتبر المفكر المغربي محمد عابد الجابري ابرز ممثلي ذلك الاتجاه. ولا يزال هذا الموقف حبيس التاسيس النظري الذي لا يقدم علي المستوي التفصيلي سوي ملاحظات علميه متفرقه دون تقديم دراسات تطبيقيه شامله الا في حالات قليله، كمحاوله الجابري كتابه تفسير جديد للقران. وهو الموقف الذي يمتد الي جذور خطاب النهضه العربيه عند الشيخ محمد عبده وتلميذه محمد رشيد رضا اللذين وجها نقدهما الي بعض احاديث البخاري خلال تفسيرهما الشهير "تفسير المنار" (انظر: اراء محمد رشيد رضا في قضايا السنه النبويه، محمد رمضاني، مجله البيان، 1434هـ). ومن بين الاعمال البارزه عن السنه في هذا المستوي: كتاب "الامام الشافعي وتاسيس الايديولوجيه الوسطيه" لنصر حامد ابو زيد، وكتاب جورج طرابيشي "من اسلام القران الي اسلام الحديث".

المستوي الثاني: هو محاوله بعض الباحثين المختصين في العلوم الدينيه او المهتمين بها تجديد النظر في علوم الحديث باتخاذ مواقف جريئه، نذكر من ابرز تلك المحاولات:

1- محاوله الشيخ الازهري محمود ابوريه في كتابه "اضواء علي السنه النبويه" والتي اثني عليها الدكتور طه حسين والتي ووجهت بنقد شديد من الشيخ محمد ابو شهبه في كتابه "دفاع عن السنه النبويه".

2- محاوله الشيخ محمد الغزالي التي اثارت ضجه كبيره توازي ما له من المكانه الكبيره وما يحوزه من ثقه المسلمين في انتمائه ونواياه الحسنه، من خلال كتابه "السنه النبويه بين اهل الفقه واهل الحديث". وقد انتقد الكتاب الشيخ السعودي سلمان العوده في كتابه "حوار هادئ مع الشيخ الغزالي".

3- كتاب الكاتب المصري جمال البنا "تجريد البخاري ومسلم من الاحاديث التي لا تلزم".

4- كتاب "نحو تفعيل قواعد نقد المتون" لاسماعيل الكردي.

5- كتاب "اضواء علي الصحيحين" لمحمد صادق النجمي.

المستوي الثالث: وهو الهجوم الصحفي من خلال المنابر الاعلاميه علي الصحيحين او نحو ذلك، ويمتاز هذا الخطاب بانه خطاب عاطفي خالص تسيطر عليه الانحيازات السياسيه والدوافع التسويقيه في الاعلام المعاصر. ولذا فانه يعتريه كثير من الابتذال. لكن هذا لا ينفي قيام البعض بمحاوله توصيل الافكار الي الجماهير بطريقه افضل جذبت الانظار اليه، منهم: السوري عدنان الرفاعي الذي قدم لمده برنامجا فضائيا علي قناه مصريه، والشيخ عدنان ابراهيم الخطيب والمحاضر الذي لفت الانظار بشده في الاونه الاخيره.

نخلص من ذلك الي ان كثيرا من محاولات النقد التجديدي قد عابها خطابها العاطفي الذي لم يتحول الي جهد علمي موضوعي، فصارت لا تختلف بذلك عن الموقف المناقض لها وهو تقديس التراث، اذ ان كليهما يعبر عن نزوع عاطفي لذات مازومه تحت ضغوط الحضاره والسلطه المعرفيه سواء للتراث او للحضاره المتغلبه. لكننا في الوقت ذاته لا يمكن ان نعمم ذلك علي كل تلك المحاولات، فلا يمكن انكار جديه كثير منها وداوفعه الحسنه التي وان اعتراها النقص العلمي فانها تلتمس عذرها في كونها محاولات اوليه لا تستحق التقريع فقط وانما ايضا العنايه والتقويم. 

رابعا: موقف الصحابه من قضيه نقد السنه

من المعروف ان النبي صلي الله عليه وسلم كان قد نهي عن تدوين كلامه (رواه مسلم) وقد سار اصحابه من بعده علي نفس الدرب، فقد خطب ابو بكر الصديق رضي الله عنه في الناس قائلا:

          ||انكم تحدثون عن رسول الله صلي الله عليه وسلم احاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم اشد اختلافا. فلا تحدثون عن رسول الله صلي الله عليه وسلم شيئا، فمن سالكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه|| (تذكره الحفاظ، 1/ 3)

وقال عمر رضي الله عنه:

          ||اني كنت اريد ان اكتب السنن. واني ذكرت قوما قبلكم كتبوا كتبا فاكبوا عليها وتركوا كتاب الله. واني والله لا اشوب كتاب الله بشيء ابدا||

وقد كان عمر يحث الصحابه علي الاقلال من الحديث عن النبي صلي الله عليه وسلم، وهدد ابا هريره في ذلك بالنفي. وكان شديدا في قبول الروايه فقد روي البخاري عن ابي سعيد الخدري رضي الله عنه:

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل