المحتوى الرئيسى

الأسطورة طوطمُ البقاء

04/03 10:37

اليقظه السينمائيه التي تشهدها الصين في السنوات الاخيره اوصلت الفن الصيني السابع الي العالميه خاصه مع الفيلم الذي انطلق العام الماضي «العوده الي البيت» بعد فيلم «العندليب» (2012) والفيلمان رشحا لاهم الجوائز العالميه. حالياً يواكب هذا الواقع رغبه السلطات الصينيه نفسها باعطاء حيز اكبر للاعمال السينمائيه ويكفي ان نذكر رقما يصعب تصديقه ان فقط في العام 2014 افتتح في الصين 4500 صاله سينما جديده كمؤشر لاتجاهات انفتاح ما عادت السلطات الصينيه المتصابيه، والمتجهه نحو الليبرالية الاقتصادية، تخاف منه، بل بادرت الي تشجيع مخرجين اوروبيين للعمل في اخراج افلام تعيد قراءه تاريخ الصين الحديث، خاصه في النصف الثاني من القرن العشرين ابان السلطه الماويه. هكذا عُهد الي المخرج الفرنسي جان جاك انو اخراج فيلم « الذئب الاخير» (2014) المستوحي من روايه «طوطم الذئب» (2004) للكاتب الصيني المخضرم جيانغ رونغ (اسم مستعار والاسم الحقيقي لو جيامين) وهي عباره عن سيره شبه ذاتيه عن شاب يدعي شين سين من بكين ترسله سلطات الثوره الثقافيه العام 1967 الي مقاطعه منغوليا لتعليم افراد المجتمع الرعوي اللغة الصينية الرسميه. يلتقي في احدي رحلاته الاستكشافيه في سهوب منغوليا بقطيع من الذئاب وينجو. تلك النجاه كانت باباً سحرياً ليخرج ذلك الشاب المشبع بافكار الحراس الحمر الماويين عالماً متكاملاً بعيدا عن بروباغندا السلطه التي تُفبرك في المدينه، عالماً تمتزج فيه الفلسفه مع الاسطوره والتاريخ في طبيعه بقي ابناؤها علي قيد الحياه بفضل سبرهم غور اسرارها. تلك التجربه كانت معرفه جديده لم يتوقع شين سين وجودها وهو الاتي من المدينه التي انفصلت عن اي علاقه مع الطبيعه. يلقنه تلك المعرفه الرجل الكهل ويدعي بيليغ، وهو الذي يقود مجتمع الرعاه المنغوليين الذي يؤمن ان قائدهم الاعظم التاريخي جنكيز خان انتصر علي اعدائه بفضل مراقبته لحياه وحركه الذئاب، تلك الحيوانات النبيله كما يصفها، وتحديداً التعلم من موهبتهم الغريزيه في فن القتال والهجوم وما يسبقهما من انتظار ومراقبه للعدو. تلك الروح القتاليه التي يتميز بها المنغولي توارثها الاجيال، بحيث يؤمن المغوليون ان ما يتميزون به يعود فضله الي وجود الذئاب في سهوبهم. كما انهم يؤمنون بالاسطوره القائله ان جنكيزخان هو نفسه ابن الذئب الازرق الاسطوري الذي كان وجوده حمايه للشعب المنغولي ولاستمراره.

تدور احداث الروايه في منطقه منغوليا وتُظهر بمقاربه انثروبولوجيّه وبيئيه العلاقه الطبيعيه العميقه بين الشعب المنغولي والذئاب التي تتخذ من سهوب منغوليا وصخورها بيوتاً لها. انها ليست صدفه ان يتم اختيار هذه الروايه بالذات اساساً لقصه فيلم «الذئب الاخير» ، خاصه انها تعيد الاعتبار للشعب المنغولي وتقاليده وحكمته المستمده من علاقه عميقه وجدليه مع الطبيعه. وقد لاقت الروايه شهره عالميه وترجمت الي لغات عالميه. كان علي الروائي ان يعيد كتابتها باللغه الصينية المبسطة بعد ان نشرت اولاً باللغه الصينية الكلاسيكية (الماندرين). وبعد نشرها بسنوات ثلاث كشف الكاتب عن اسمه الحقيقي وعن هويته/ استاذ جامعي ولد وترعرع في احضان الثوره الا ان حادث مقتل والده بعد اتهامه بانه عدو الثوره، غيّرت حياه الكاتب ودفعته الي اعاده قراءه التجربه الشيوعيه الصينيه.

معتمدا علي الروايه المذكوره التي تتماهي فيها شخصيه الشاب شين سين مع شخصيه الكاتب وحياته بين الرعاه لمده 11 سنه، يقدم الفيلم حياه الرعاه المنغوليين وسط قساوه الشتاء والصقيع والبرد، ينتقلون بمواشيهم وخيامهم الي حيث الشمس والدفء. يقيمون توازناً حكيماً مع الطبيعه ومع الذئاب. يتقاسم فيها الانسان والحيوان الطعام كذلك تشاركهم الارض عبر الاموات المنغوليين المتروكه جثثهم في العراء وكان المنغولي بذلك يرد للطبيعه ديناً عبر اجساد امواته. تستعمل الذئاب البحيره التي تتجمد في الشتاء كبراد طبيعي لطعامها: طرائد الغزلان التي اصطادتها في الخريف، تغدو طعاما لها حين يتساقط الثلج وتتدني درجه الحراره ما دون الصفر. ياخذ الرعاه ايضا من البحيره المتجمده لحوم الغزلان التي طمرتها الذئاب وذلك لسد حاجتهم وحاجه افراد عائلاتهم من الطعام، لكن يعمدون الي ترك قسم كبير من الطرائد البريه كي تتقاسمها الذئاب ايضا. انها فلسفه الاستمرار وليس الربح. هي ليست مقاربه رومنطقيه للعلاقه بين المنغول والذئاب بل علاقه مبنيه بشكل اساسي علي الرغبه في الاستمرار والبقاء معاً في السهوب المنغوليه. وان قام الرعاه باستهلاك كل مخزون الذئاب الشتوي من الطعام فستضطر حينها الذئاب الجائعه الي الهجوم علي بيوت المغول وقطعانها. حكمه الاستمرار توارثها المنغول ابا عن جد.

ابدع المخرج الفرنسي الذي سبق وقام باخراج « سبع سنوات في التيبيت» (1997) في تحويل الروايه الي مشهديّه ملحميه في فيلم ذي ابعاد ثلاث لتصوير حروب متكرره بين الذئاب وبين ممثلي السلطات الصينيه الذين قرروا التخلص من الذئاب واستقدام جماعات جديده من الشرق مع الياتهم وبنادقهم الرشاشه للاستيطان في تلك السهوب والنتيجه كانت تخريب العلاقه التاريخيه بين السكان المحليين وبين الطبيعه. قتل كل الذئاب وكُسر التوازن البيئي في تلك الطبيعه المنغوليه. ذئب واحد ينجو كان قد اتي به الشاب الاستاذ الي بيته ورباه ليتركه في نهايه الفيلم وسط السهوب وحيدا يفتش عن توازن جديد لعلاقته مع المكان وربما عن ذئب اخر ما زال في مكان ما حيّاً مثله.

تعيدنا مشاهد فيلم الذئب الاخير الملحميه الي عالم كدنا ان نفقده. وهو عالم يقيم وزناً اساسياً للعلاقه بين الانسان والطبيعه. منذ رائعه كيراساوا «ديرسو اوزالا» (1975) لم اشاهد فيلما يغوص بعمق في تلك العلاقه بين الانسان والطبيعه ويقدمها كضروره اساسيه لاستمرار الحياه والبقاء. لا بد لفيلم «الذئب الاخير» اعادتنا ولو من باب التذكر الي عمل كيراساوا رغم الفرق الكبير بينهما الا ان دور الطبيعه في تحديد مصائر البشر وتوازن حياتهم هو اساسي في الفيلمين، حيث كل عناصر الطبيعه من حيوان وانسان ونبات هي جزء من كلٍّ متوازن، قد يسبب الخلل ان اصابه، كوارث علي الانسان والحيوان معاً.

قام جان جاك انو بعمل شاق اذ صوّر فيلمه علي حدود مقاطعه منغوليا في الصين الشعبية وحدود جمهوريه منغوليا البلد المستقل منذ 1924. لكن المنغول في المكانين كادوا ان يفقدوا لغتهم الاصليه ففي المكان الاول يتكلمون الصينيه، كذلك في جمهوريه منغوليا التي تتكلم اللغه الروسيه. فقد المنغوليون لغتهم قراءه وكتابه وقامت السلطات ان في الاتحاد السوفياتي سابقا ام في الصين الشعبيه باجبارهم علي تعلم اللغه الرسميه واتخاذها كلغه لهم. وان كانوا ما زالوا يتكلمون لغتهم، الا ان الكثير منهم لا يعرف قراءه لغته الاصليه ولا كتابتها. حتي موسيقي المنغول وتراثهم الفني قد منع ابان الثوره الثقافيه. واللافت ان المؤلف الموسيقي الاميركي جايمس هورنر استعمل الات موسيقيه منغوليه وعاد الي الارشيف الموسيقي الشعبي للمنغول لتاليف موسيقي الفيلم، مما اضفي علي العمل السينمائي تكاملاً مقنعاً بين المشهديه الملحميه والموسيقي المرافقه. وما روايه جيانغ يونغ سوي احتجاج ( ولو متاخر) علي محاولات الثوره الثقافيه طمس خصائص المجموعات الثقافيه والاتنولوجيه وقد دفع قبل كتابه روايته اثماناً، بين الاعتقال والسجن ومنع الكتابه والنشر، بضع سنوات من حياته، ليغدو كتابه منذ نشره العام 2004 اهم كتاب بعد كتاب الثوره الاحمر، وربما حالياً اهم واكثر قراءه!

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل