المحتوى الرئيسى

خيالات بيروت القديمة

03/27 11:39

وتتذكر ساحه البرج، ساحه المعرض وبرج الساعة. دار الكتب الوطنية، ورسومات الوجوه المعلقه علي الجدران: جبران خليل جبران، إبراهيم اليازجى، مصطفى الغلاييني، الياس ابو شبكه، عمر فاخوري، وديع عقل، أمين تقي الدين، ورسومات زيتيه لمعلمين وشعراء وكتاب اخرين، صنعوا للبلد الصغير نهضته الادبيه.

وتتذكر باب ادريس، شارع فوش وشارع اللنبي، شارع ويغان وسوق البزركان. ستاركو، وادي ابو جميل، جاده الافرنسيين وميناء الحصن. زقاق البلاط، حيث كان متجر والدك، وحي الصنائع، حيث كانت مدرستك الاولي. عمارات وبيوت، احياء وساحات، شوارع ومعالم هشَّمتها الحراب، واسِّنه الغرائز الاهليه.

كيف لعينيك ان تستعيدا شيئاً ولو يسيراً من تلك الظلال، من تلك الخيالات البعيده البعيده؟ كيف لاذنيك ان تستردا وقع لهجات تلك الساحه الواسعه، ساحه البرج؟ لهجات بشر من الساحل والجبل، ومن الشمال ومن الجنوب. من دمشق وحمص وحلب، وحوران البعيده. من دول عربيه مختلفه، مع خليط غريب من لكنات كرديه وسريانيه وارمنيه وتليانيه ويونانيه وفرنسيه وانكليزيه.

تتذكر تلك الساحه، ودخولك الاول الي صاله السينما برفقه اخيك الكبير، بعد توسل دام اياماً، لتشاهد احد افلام رعاه البقر. لم تنم تلك الليله، كيف وقد شاهدت ما لم يشاهده احد من رفاقك، وكل تلاميذ المدرسه؟! هل كنت في السابعه ام في الثامنه؟ هل كانت سينما ريفولي ام سينما دنيا؟

تخونك الذاكره، وقد تنسيك اشياء كثيره في بيروت القديمه، لكنها لن تنسيك ساعه التجربه الاولي، حين اغراك ترب لك في الحي يكبرك بسنتين، فذهبتما معاً الي بيت عتيق في زقاق ضيق، متفرع من تلك الساحه، يقال له شارع المتنبي! هناك اغوتك احدي الغانيات، فاودعت في يدها ما كان في جيبك، وودعت تحت ضوء مخدعها الاحمر، ما كان لك من براءه الصبا، وعفته.

وتعود الي باب ادريس، متذكراً ساعه من ساعات الظهيره، وانت تدخل محلات «عماطوري» بقروشك المعدودات، لتشتري زجاجه عطر صغيره، تقدمها للفتاه الحلوه في حاره اليهود. كان بيتها يجاور منزل رفيقك في المدرسه، فيولع هو الاخر بحب راحيل، وتصبحان معاً، كالمتنبي ورسوله، كلاكما جوي، وكلاكما قلب متبول!

وتتذكر مقهي «كوزموس» في باب ادريس، وكان ذلك اول عهدك بالمقاهي. كنت في الحاديه عشره، او دونها بقليل. تدخل المقهي برفقه والدك وتتناول ما طاب لك من الحلوي، ثم يستوقفكما وانتما تهمان بالخروج، سائح فرنسي يسال عن الطرق المؤديه الي الجامعه الاميركيه. تتولي المهمه وترشد السائح التائه الي حيث يريد. يربت والدك علي كتفك لانك ترطن بالفرنسيه، من دون ان يدري كم تهشَّمت لغه «موليير» علي لسان صغيره! وما كان ادراه، وقد حالت الظروف، بينه وبين المدارس، لكنه كان يسعد كلما راي ابناءه يتعلمون، ويقراون ويكتبون.

وتتذكر «كيت كات»، المقهي الاخر في «الزيتونه»، ساعه كان ابوك يصطحبك معه ايام العطل، لتقرا له ما في الصحف من اخبار محليه، وما كان ميشال ابو جوده يكتب في «النهار»، وكامل مروه في «الحياه». ولن تنسي بالطبع، يوم احد من ربيع 1964، وانتما في المقهي، وقد جلس الي طاوله مجاوره رجل يعتمر طربوشاً، ربع القامه، منتفخ الوجه، مكتنز الصدر والبطن، له شاربان معقوفان كحرف التاء في الابجديه العربيه. كان برفقه حاشيه من رجال، وكان يتحدث بقاف مفخمه غليظه، عرفت من ابيك في ما بعد، انه احد امراء الدروز، وانه احد اعيان الجبل، وان اسمه الامير مجيد ارسلان!

وتتذكر «عين المريسه»، وبيت خالك الذي علي الناصيه، برواقه الضيق وغرفه الصغيره. كان خالك ذاك ممرضاً وطبيباً. خدم في الجيش الفرنسي سنوات طويله زمن الانتداب، وكان يتحدث الفرنسيه مثل اهلها. وكان في نظرك اعظم طبيب في العالم. الم يخرج من خشمك نواه ثمره الخروب؟ الم يشفك من الحمي غير مره وانت صغير، وكان يداويك بكؤوس الهواء الساخن كلما اصابك برد في الشتاء؟

تتذكر «عين المريسه»، بيوتها المتجاوره وجدرانها الرطبه، شرفاتها المتعانقه وابوابها المتلاصقه، مراكب الصيادين وشباكهم المشلوحه علي الصخور، تستسلم للراحه عند طلوع الفجر، بعدما حملت للناس ما طاب من اصناف السمك. تعود الصوره اليك ورائحه السردين الشهيه لا تزال تزكم انفك. تتذكر كم راودتك وانت تشاهد صوراً مشابهه لها في قري الاندلس النائيه، حيث عشت سنوات طويله.

وكان اذ ترك البيت العتيق، وسار في الطريق المؤديه الي البحر، فسوف يصل الي «ساقيه الجنزير»، الساحه التي يعني اسمها السلسال الغليظ. ويقال ان المنطقه كانت تدعي من قبل «ساقيه الخنزير»، نسبه الي ساقيه كانت ترد منها الخنازير، وان بعض مشايخ الدروز المعروفين بعفه اللسان سكنوا المكان، وما كان يؤنسهم ان يقال انهم يسكنون في منطقه فيها خنزير، او خنازير، فتغير حرف الخاء علي لسانهم مع الزمن، وصار اسم المكان «ساقيه الجنزير»!

علي اي حال، لا يذكر صاحبنا انه شاهد في تلك الساحه ساقيه، او خنزيراً، او جنزيراً، وانما راي مرتفعاً من الارض مدروزاً باشجار الصنوبر، ما اكثر المرات التي تردد اليه مع شياطين الحي، ولعب فيه، واحس نسيماً عليلاً يهب من ناحيه البحر.

وكانت الطريق من البيت في اتجاه «الساقيه»، تؤدي الي مفارق اربعه يقطعها شارع فردان. ولم يكن هذا الشارع ماهولاً كما هو اليوم، ولم تكن فيه المباني القائمه حالياً والتي تحجب عنه نور الطبيعه. كانت فيه مدرستان تابعتان للجاليه الايطاليه، واحده للبنين واخري للبنات، يدرس فيهما طلاب من عائلات ايطاليه، واسر لبنانيه ميسوره.

لا ينسي الصبي مره وقف فيها امام بوابه المدرسه، يسترق النظر الي التلاميذ يلعبون علي ارض نظيفه، عليها انواع مختلفه من مركبات لعب الاطفال: اراجيح وسلالم ودواليب، ومنزلقات ودوائر متحركه، تختلف كل الاختلاف عن ملعب مدرسته الخاوي المبني من الاسمنت الرتيب، وكيف ان كاهن المدرسه، وكان ايطالياً يدعونه «بادري»، دعاه الي الدخول فدخل بخجل، ولعب مع اولاد في عمره، كانوا يتكلمون ويعبثون بالايطاليه، فلم يفهم شيئاً مما كانوا يقولون.

خلف المدرسه الايطاليه الخاصه بالبنين، كانت تقوم حديقه كبيره مهجوره يسمونها «جنينه المدور» كان الناس يعتقدون انها مسكونه بالعفاريت! كانت علي الشارع العام، عند الطرف الاخر من حيث يقع اليوم فندق «بريستول». كانت مسوره بحائط يبدا عند بوابه عاليه من الحديد وينتهي في اخر الدنيا. وما اكثر المرات التي كان يقفز فيها فوق ذلك الحائط، ليدخل الحديقه ويلهو مع رفاقه، بين شجر البرتقال المر، واشجار الكينا، والاس، والمقساس، والبلان، والتوت والزعرور، واللحلاح، والجميز، وقصب السكر، واشجار اخري متنوعه، عرفتها بيروت في ما مضي ولم يعد لها مكان لتنمو الان!

كان للحديقه دور مؤثر في حياته، وكانت تعني له العيش مع الطبيعه علي مسافه غير بعيده من بيته. كان يذهب اليها مع رفاق الحي، لكنه لم يجسر يوماً علي ان يذهب وحده او بعد المغيب، خشيه ان يظهر له احد العفاريت! ومثلما تاثر لغياب المبني التاريخي لتلك المدرسه الجميله، بفرعها الخاص بالبنين، والاخر بالبنات، يحز في نفسه وقد راي الحديقه قد غابت، لتقوم عليها محطه للمحروقات، وبنايه هائله من المكاتب والشقق، هي جزء من صور كثيره مقززه، تطبع بيروت الحاضره، وتسلخها عن ماضيها الاخضر الجميل.

في الحي الذي يسكن فيه في لندن، محل لبيع العاديات. يدخله، فتقع عيناه علي رسومات مائيه، وصور قديمه بالابيض والاسود، حفر الزمن علي بعضها اخاديد طفيفه، منها صوره الشارع حيث بيته، فاذا البيت والشارع كما هما في الصوره، لم يتغيرا منذ مئه سنه، واذا الكنيسه كما هي منذ 600 سنه، واذا «مدرسه الملكه اليزابيث» التي درس فيها طفلاه، ما زالت كما هي، لم يتغير فيها شيء، خلا رتوش ضئيله، اقتضتها ضرورات المدنيه. علي الجدار الامامي في بهوها الواسع، لوح من الخشب الاحمر العتيق، عليه اسماء المديرين الذي تعاقبوا علي ادارتها منذ 500 سنه!

هنا يكمن السر اذن! او قل هنا يظهر الفرق بين شعب وشعب. في حال بني جلدته، تبدو اللعنه الابديه جليه واضحه: قبيله تبني برجاً، فتاتي قبيله اخري بعد حين فتهدمه. تتبعثر الصور ويتكسر زجاحها، وتتراجع الذاكره الجماعيه، كما يتراجع موج الشاطئ المتثاقل الي البحر... تتلاشي وتصبح نسياً منسيا.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل