المحتوى الرئيسى

الرواية التاريخية بين «كوكو كباشي» و«شوق الدراويش»

03/24 14:57

في ورقه قدمها د. عبدالرحمن حجازي، استاذ اللغة العربية وأدابها ، ضمن ملتقي الروايه العربيه الذي شهدته القاهره الاسبوع الماضي، قارن الكاتب بين الرواية التاريخية ومفهومها وعوالمها عند اثنين من اهم الروائيين العرب؛ وهما الكاتبه المصريه سلوى بكر، والكاتب السوداني حمور زياده .. وتحمل السطور التاليه تفاصيل الورقه .

  ”   لا شكَّ ان المؤرخ، مهما كانت الحقبه التي يحاول التاريخ لها، يفرض عليه الاستناد الي الاحداث الواقعيه، بيد ان هذا لا يعني مصادره حقه في مواكبه الاحداث بالتعليق الذي يُرضي توجهاتِه الفكريهَ والسياسيه، او ادماجَ تاويلاتِه؛ لان المحاكمهَ الحقيقيه التي يتعرضُ لها المؤرخُ تستندُ الي معيار صدق او كذب الوقائع التي يسردُها قياسًا الي ما وقع بالفعل وفقَ الشواهدِ والوثائقِ الموجوده. اما التعليقُ والتحليل فلا يُعتبر تزييفًا للتاريخ بل قراءهً سياسيهً ممكنه ما.

اما الروايهُ التاريخيهُ فتشاكلُ التاريخَ الفلسفي وفقَ تحديد هيجل؛ لان مادتها المرجعيه ليست الواقع كما هو، بل الماده التاريخيه كما بُنيت من قِبَل المؤرخين الاصليين.

ولذلك فالروائي لا يبحث عن حقيقهٍ جديدهٍ للتاريخِ بل ينطلقُ مما انتهي اليه المؤرخ، لكي يصوغَ الدلالهَ التي يودُّ تشكيلَها. وبفضلِ الاختلاف في خصوصيات المرجعيين، تستطيعُ الروايهُ التاريخيهُ ان تُضيفَ الي الاحداثِ ما تشاء، وان تحذفَ ما تشاءُ ايضًا؛ لان السؤالَ الذي يُطرحُ علي الروايهِ التاريخيهِ لا يتعلقُ بمقدارِ الوفاءِ للتاريخ، ولكن بالفكرهِ الايديولوجيهِ التي من اجلِ التعبيرِ عنها كانت العودهُ الي هذه الحقبهِ التاريخيه؛ وذلك لانها وان كانت تاريخيهٌ لا يمكنها ابدًا ان تكونَ مصدرًا لكتابهِ التاريخ.

    وعلي الرغم من ان زمنَ الطبع بين الروايتين- روايه ” كوكو سودان كباشي” لسلوي بكر، وروايه “شوق الدرويش” لحمُّور زياده- يُقَدَّر بعشر سنوات؛ اذ طُبعت روايه ” كوكو سودان كباشي” لسلوي بكر عام 2004م، وروايه “شوق الدرويش” لحمُّور زياده عام 2014م، فان الروايتين تتناولان حكايتين مختلفتين يربط بينهما استخدام السرد التاريخي او البنيه التاريخيه؛ حيث يلعب التاريخ دورًا كبيرًا وفعَّالاً في البناء الفني للروايتين، كما ان كل روايه- وان كانت تعكس واقعها المعيش وحياتها الواقعيه- فانها تعتمد علي التاريخ سواء اكان شخصيًا ام عامًا ام موضوعيًا عن طريق التشويق الفني للتاريخ او التوثيق التاريخي او حتي التخيل التاريخي...الخ.

      ولا شك ان العلاقه بين الادب والتاريخ علاقه جدليه، وان النص الذي يوظف التاريخ له جانبان: احدهما تاريخي، والثاني ادبي؛ فتصنيف روايه ما– مثلاً- علي انها تاريخيه يعني اننا نفترض ان النص روائي وتاريخي؛ اي ان مفهوم النوع مرتبط بعنصرين اساسيين هما: الروائيه والتاريخيه، والروائي لا يكتب رواية تاريخية خالصه، وانما يكتب عن التاريخ كنوع من المراجعه للموقف الحضاري او اعاده انتاج الزمن الروائي.

  ويري د. احمد ابراهيم الهواري ، ود. قاسم عبده قاسم في كتابهما” الروايه التاريخيه في الأدب العربي الحديث” ان” ثمه علاقه جدليه بين الفن والتاريخ؛  فالفن ماده من مواد التدوين التاريخي، والتاريخ بدوره يشترك مع الفن في دعاماته الثلاث : الانسان والزمان والمكان “. كما ان “الحدود بين الفن والتاريخ ليست حدودًا صارمه مانعه، وانما هي حدود متداخله بحيث تحسبها حدودًا وهميه في بعض الاحيان؛ فالانسان هو الموضوع المشترك لكل من الفن والتاريخ، وهو من ناحيه اخري، المبدع في دنيا الفن وصانع احداث التاريخ.

    من هنا تقول الروائيه سلوي بكر- صاحبه روايه ” كوكو سودان كباشي”-                        في حوار اجري معها:” انا لا اكتب روايه تاريخيه، وانما اكتب عن التاريخ...، والتساؤل عن التاريخ هو ضروره ملحَّه الان كنوع من المراجعه لموقفنا الحضاري، ثانيًا انا معنيَّه بالكتابه عن التاريخ، معنيَّه باعاده انتاج العلاقه بين المتون والهوامش التاريخيه واعاده مَلءِ الفراغات التي لم تُملا من قِبَل المؤرخين سواء بسبب الاهمال او النفي او الاستبعاد، ومعنيَّه ايضًا باعاده النظر في طرائق القراءه للتاريخ، ومن هنا كان اهتمامي بالكتابه عن التاريخ”.

     ونستطيع القول ان الروايه التاريخيه شاعت في الابداع العربي خلال فترات معينه من القرن العشرين، كمحاوله للبحث عن الهويه، او الذات القوميه القويه المنتصره، او البحث عن دواء شافٍ للمحن التي تتعرض لها الامه، او لاجل التمني والحُلم بالانتصار خلالَ فتراتِ الانهزام، وتجاوزت ذلك في العصر الحالي في ظل الاحتكاك الحضاري؛ حيث اصبحت تُجسِّد قضايا عالميه معاصره باسقاط ذاك الماضي علي الحاضر وتفسيره.

   وتعتمد روايه “كوكو سودان كباشي” علي واقعه تاريخيه في التاريخ المصري الحديث قلَّما تحدثت عنها كتب التاريخ، وهي الحرب الاهليه المكسيكيه، والتي غاض غمارها اورطه من الجيش المصري تتالف من الجنود المصريين والسودانيين والنوبه خلال الفتره من 1863 الي 1867. وعند حمُّور زياده في روايته “شوق الدرويش” التي تدور احداثها في خضم الثوره المهديه (1885- 1899) التي قامت في السودان بزعامه “محمد احمد المهدي” ردًا علي مظالم الحكم التركي المصري حينذاك، وترصد الروايه احداث تلك الثوره من خلال رحله العبد “بخيت منديل”.

      ففي روايه “كوكو سودان كباشي” ، تَسرد اوراق الشيخ عثمان تاريخ الاورطه المصريه السودانيه التي ارسلها الخديوي سعيد لتحارب في المكسيك بناء علي طلب الفرنسيين الذين لم تتمكن قواتهم من الصمود هناك لسوء الطقس وانتشار الاوبئه وقسوه البيئه.

وهذه الاوراق- بالاضافه الي المتعه السرديه التي تقدمها- فانها تحمل الكثير من الدلالات الاخري التي تشكل العصبَ الرئيسي لرؤيه الكاتبه؛ اي ان الاوراق هنا هي ما يشبه الصندوق (صندوق بندورا) او الارشيف الذي يكشف المسكوت عنه تاريخيًّا كما تري د. شيرين ابوالنجا.

وهذا التاريخي يتواشج بدوره مع النفسي والفكري والاجتماعي، مما يسمح للقارئ بتتبع تطور شخصيه خالده. هذا هو المحك الرئيسي الذي ترتكز عليه الروايه اذن؛ فالتغير مرهون فيها بقراءه، واعاده قراءه، ومساءله التاريخ، بل اعاده النظر في كتابه التاريخ؛ «فمن ذا الذي يقوم بكتابه التاريخ؟».

عبر قراءه الاوراق تستغرق خالده- بطله الروايه- في محاوله الاجابه عن عده اسئله مهمه تتعلق مثلاً بغياب الاشاره في المناهج التاريخيه الي الحرب المكسيكيه التي شاركت فيها الاورطه المصريه السودانيه.

ثم تظهر دهشتها من موقف مصر في ذلك الوقت ازاء تجاره الرق، وما يثير الدهشه اكثر هو موقف الشيخ عثمان من هذه التجاره؛ فهو لم يمانع مطلقًا في اتخاذ جاريه من سوق العبيد في المكسيك، الا انه لم يجد غايته «المطابقه للمواصفات»؛ مما جعله يبدا في سرد محاسن سوق العبيد في مصر المحروسه.

تتوقف خالده طويلاً عند هذا الجزء، وتتساءل عن جعل اميركا هي نقطه البدايه التاريخيه لتجاره العبيد. اما علي المستوي الفكري فهي لا تستطيع ان تستوعب التوافق بين فكر الشيخ وبين موافقته علي تجاره العبيد، وهو ما يسمي بلغه الشيوخ «هذه نقره وتلك نقره اخري».

اما السؤال الاهم فهو ذاك المتعلق بعلاقه الاورطه المصريه السودانيه بالحرب في المكسيك؛ فقد مات الكثير منهم اثناء الاشتباك القتالي او بسبب الاوبئه او بسبب الهلع الشديد من البحر الذي كان يسمي «بحر الظلمات».

كما كانت الاورطه تضم العديد من السودانيين الذين اختطفوا من بيئتهم المحليه ليتم بيعهم كعبيد مشاركين في هذه الاورطه، ومنهم كوكو سودان كباشي الذي وردت قصته في اوراق الشيخ عثمان وتعاطفت معه خالده بشده؛ اذ تم «اصطياده» من الغابه.

ولا تكتفي سلوي بكر بتوظيف الاوراق تاريخيًّا للكشف عن جزءٍ من تاريخ مصر في فتره الخديوي سعيد، بل انها توظف ايضًا مهنه خالده، وهي المحاماه لتجعل من التفاعل بين الماضي (اوراق الشيخ عثمان) والحاضر (وضع العديد من السودانيين في مصر) احد المحاور الرئيسه للعمل.

فعبر العديد من قضايا السودانيين في مصر تكتشف خالده عبثيه التاريخ؛ فهؤلاء السودانيون الذين حاربوا في المكسيك باسم مصر في نهايه القرن التاسع عشر يتم انكار حقوقهم في القرنين العشرين والحادي والعشرين، بل هم مطالبون باثبات مصريتهم في معظم الاحوال، ومنهم، علي سبيل المثال، عبد النبي ادريس الذي كان جدُّه قد شارك في حرب المكسيك، وعبد النبي نفسه شارك في حرب 1948 ثم تم توظيفه بالحكومه المصريه حيث خدم بها اربعه عقود.

وعندما اراد عبد النبي ان يذهب الي الحج طلبت منه الحكومه المصريه ان يحصل علي جواز سفر من الخرطوم. ولكثره القضايا المتشابهه التي تتعامل معها خالده يتواشج الماضي مع الحاضر في تفاعل او تنافر او تناقض او قطيعه، وهو ما تقابله خالده غالبًا بابتسامه ذات مغزي ليقوم القارئ بتفسير الماضي علي خلفيه الحاضر.

وبقراءه اوراق الشيخ عثمان تتمكن خالده من العبور؛ فهناك العبور من الخاص الذي كان محدودًا ومحددًا بالصوره المُلهمهِ للاب الي العالم الارحب والاوسع الذي يكشف عن الكثير من التاريخي والاجتماعي المسكوت عنه بفعل سلطه انتقائيه تطوع التاريخ لمصالحها. وينعكس كل ذلك علي خالده التي تتحول نبرتها الي نبره متسائله متامله واعيه بعد ان كانت في البدايه لاهثه ومتلاحقه ومستنفره. حتي ان ذلك التحول ينعكس علي علاقتها بعمتها فتصبح اكثر صبرًا واوسع افقًا.

     اما روايه “شوق الدرويش” الصادره مؤخرًا عن دار العين للنشر بالقاهره (2014م)، فتدور احداثها في خضم الثوره المهديه (1885-1899) التي قامت في السودان بزعامه “محمد احمد المهدي” ردًا علي مظالم الحكم التركي المصري وقتها، وترصد الروايه احداث تلك الثوره من خلال رحله العبد “بخيت منديل”.

وقد علَّق الروائي حمور زياده نفسه علي روايته قائلاً: “ان قدم الثوره ثقيله مثل قدم الطغيان، وهذا الشكل المغاير الذي بدت عليه روايتي عن الثوره جاء لاقترابها من الانسان الذي شهدها؛ فكل الروايات السودانيه التي عالجت”المهديه” انما تناولتها من جانب احتفائي؛ علي نحو: اننا “قمنا بثوره عظيمه، ونحن دحرنا المستعمر، ونحن بهرنا العالم”، متناسيه ذلك البعد الانساني وهؤلاء البشر الذين تاثروا سلبًا بهذه الثوره، ومن دهستهم هذه الثوره حتي لو كانوا مؤمنين بها”.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل