المحتوى الرئيسى

د. محمد عبد الستار البدري يكتب : من التاريخ: من تركة الحضارة الإسلامية: ابن خلدون

03/24 14:32

كثيرا ما تنتابنا حاله من الحزن عندما نشعر بتجاهل حركه الفكر الدوليه للتاريخ والفكر والحضارة الاسلامية، بعضها يكون من خلال التناسي واغلبها لاهداف سياسيه خاصه في عصر مليء برؤيه مغالطه للاسلام والمسلمين،

واذا كانت هذه مشكله سياسيه/ اجتماعيه باتت منتشره خاصه في دول الغرب، فان العوده لاسهامات المفكرين والفلاسفه من المسلمين في صرح الحضاره الانسانيه تكون واجبه للتذكره وليعرف من جهل ان هذه الامه لها جذورها الفكريه والثقافيه والتي لا يجب ان تُنسي، فاذا ما كانت بعض الامم تسعي جاهدهً لجذب الحضاره الانسانيه اليها وربط جذور الحاضر بالفكر السابق لمفكريها وفلاسفتها، فان كثيرا من اسس هذه الافكار لها جذورها بل لبنتها الاولي لدي فكر الحضاره الاسلاميه، وإبن خلدون من اهم هذه الامثله، فهذا المفكر والعالم قد وضع في كتابه الوحيد المعروف «بالمقدمه» اسسا لبعض العلوم الحديثه وهي علوم التاريخ والاجتماع واجازف بالقول انه وضع ايضا لبنات اساسيه في علوم السياسه كما نعرفها اليوم.

لقد ولد ابن خلدون في عام 732 هجريا في تونس لاسره نزحت من الاندلس بسبب الظروف السياسيه المضطربه فيها، وقد نشا الشاب علي العلم وتحصيله والفكر وتامله، والسياسه وممارستها، فاستقرت به حياته في عدد من المدن في شمال افريقيا وشغل الكثير من المناصب السياسيه والقضائيه الي ان وصل الي مصر حيث درس في ازهرها الشريف المذهب المالكي، ومات في ارض الكنانه عام 808 هجريا، ولكنه ترك لنا كتابه الوحيد والذي كتبه في اشهر قليله ونقحه في سنوات كثيره. وحقيقه الامر ان ابن خلدون لم يكن المثال الجيد للسياسي حيث كانت ولاءاته تتبدل كثيرا، ولكن علمه الذي وضعه كان بكل تاكيد اهم تركه له ومن اهم ومضات الفكر التي صدرتها الحضاره العربيه للعالم كله واوروبا خاصه.

لقد كان ابن خلدون مهتما بعلم التاريخ فدرس تاريخ العرب والفرس والمغول والتتار وغيرهم، حتي انه يقال انه التقي بالقائد التتاري «تيمورلنك»، حيث اهتم بمعرفه حركه التاريخ والمؤثرات الفكريه والاجتماعيه والسياسيه عليه في محاوله منه لفك شفره حركه التاريخ ووضع ناموسا لانماطه المختلفه، وقد خرج ابن خلدون بنظريه موحده لحركه التاريخ مبنيه علي اسس علميه تجريبيه علي اساس السلوك الاجتماعي للقبائل والامم، فخلص الي ان المجتمعات شانها شان الانسان، تولد وتنمو وتزدهر ثم تصيبها عوامل الاضمحلال مع مرور الوقت فتضعف وتزول، والمقصود هنا بالزوال هو زوال الطبقه او القبيله او النخبه الحاكمه وفقدانها السلطه لصالح اخرين وليس بالضروره الدوله كوحده سياسيه، وقد راي ابن خلدون ان احد الاسباب الاساسيه وراء هذه الجدليه التي شابت النظم السياسية والدول هو ضعف العزيمه السياسيه بتتابع الاجيال عن القبض علي مصادر السلطه، فبعد ان تتمكن النخبه او القبيله الحاكمه من الاستيلاء علي الحكم فانها تدخل مرحله تجميع القوه والاحتفاظ بها، الي ان تبدا عوامل الضعف من خلال الارتكان للحياه الرغده والبعد عن تجميع مصادر القوه، وهو ما يجعل القياده السياسيه تضغط علي المجتمع ومصادر ثرائه فتتاثر فتبدا حركه الاضمحلال الطبيعي الي ان يتم استبدال النخبه او الطبقه او القبيله الحاكمه لصالح اخرين اكثر حماسا وحرمانا.

وتجدر الاشاره هنا الي منهجيه ابن خلدون، فلقد وضع بشكل مبسط ما يمكن ان نسميه بالجدليه الاجتماعيه، والتي طورها فيما بعد الفيلسوف الالماني الشهير «هيغل» بشكل مادي للغايه والذي اصبح فيما بعد اساسا لكثير من المدارس الفكريه وعلي راسها فكر كارل ماركس وغيره، فالمفكران هنا استخدما حركه التطور للتعرف علي ادوات التحول التدريجي سواء في الماده او المجتمع علي حد سواء، وعلي الرغم من ارتكان ابن خلدون الي المنهج العلمي بشكل كبير في تحليلاته والذي يعتمد علي النهج التجريبي المعتمد علي المعرفه من خلال الحواس واللجوء للاستنباط، فانه لم ينكر في اي وقت ان المعرفه تاتي ايضا من خلال عوامل خارجيه مختلفه، وعلي راسها الاديان والرسائل السماويه والتي يكون لها دورها الهام والمحوري في تشكيل الاخلاقيات العامه للامم والشعوب.

لقد رسخ ابن خلدون فكره ان المجتمع كائن حي له حركته وديناميكياته سواء علي مستوي الفرد او الجماعه، ونظرا لانه درس بشكل معمق حركه القبائل في العالم الإسلامى والمغولي فخلص الي ان القبيله بمكونها الاجتماعي هي افضل التكوينات الاجتماعيه السياسيه، معللا ذلك بانها تعيش في شظف ومن ثم تكون مجتمعات الندره، بينما تميل المجتمعات المستقره زراعيا (Sedentary) في اغلب الوقت الي حياه الوفره والرغد، بالتالي تفقد الاخيره الرغبه او القدره علي البقاء، وقد استخدم هذا المفكر مثال الدولة الإسلامية الوليده كاساس لهذا الفكر، حيث راي ان الندره دفعت هذه القبائل للتكاتف والقوه لتسعي للخروج من معطيات الندره الي الوفره من خلال التوسع، وقد ارجع قوه الدفع وراء النجاحات التي حققتها القبائل مقارنه بالمجتمعات الزراعيه المستقره الي ما سماه بالعصبيه القبليه والتي تخلق روح التماسك والتكاتف وتدفع نحو التوسع والقوه. ولكن ابداعات هذا المفكر الفذ لم تقف عند هذا الحد، حيث انه يمكن ايضا ان ينسب له وضع بعض اسس الجغرافيا السياسية كما تُدرس اليوم، خاصه ما يتعلق منها باثر البيئه والجغرافيا علي المجتمعات وسياساتها المختلفه، فقسم هذه العوامل ولو بشكل بدائي الي ثلاثه هي عوامل المناخ والتربه والاقليم، وراي في هذه العوامل تاثيرا مباشرا علي السلوك السياسي بل والاخلاقي وديناميكيه الفرد والمجتمع ككل، ولكن المدقق في اعمال ابن خلدون لن يخفي عليه رؤيته الثاقبه فيما يتعلق بعلم السياسة، فالرجل وضع اللبنه الاولي لفكره القوه في المجتمعات السياسيه، وراي في الصراعات علي السلطه وانواعها وسائل اجتماعيه وسياسيه واقتصاديه طبيعيه، ولم يسع لتبريرها بقدر ما وصف السلوك السياسي القابض علي القوه والرغبه في الاستحواذ عليها علي انه طبيعي، وهو بذلك قد وضع اللبنه الحقيقيه الاولي للمدرسه الواقعيه في العلاقات الدولية (Realist School) والتي تاسست بعد موته بما يقرب من ثمانيه قرون من الزمان، وعلي الرغم من انه لم يقدم في واقع الامر دراسه متكامله حول هذا التوجه، الا انه وضع يده علي الباعث الحقيقي للحركه السياسيه داخل المجتمعات وخارجها وهي المصلحه السياسيه، سابقا بذلك مفكرين كبارا من «ميكيافيلي» الي «هانس مورجنتاو»، في تحليل عميق للغايه، كما انه قدم نظريه بدائيه حول مفهوم توارث الدول والمجتمعات، وهذه الخطوه في حد ذاتها انجاز هام للغايه.

حقيقه الامر ان ابن خلدون يعد مثالا عظيما لتراث إسلامي/ عربي هام للغايه ارتكنت عليه الامم الاخري في وضع اسس انطلاقها نحو الحداثه والعلوم الانسانية، فافكاره بلا شك تمثل اسسا واضحه المعالم لعدد من العلوم وعلي راسها علم الاجتماع والذي ظل لقيطا الي ان جاء المفكران «اوجست كونت» و«اميل دوركايم» ووضعا الاطر الفكريه والنظريه والابيستمولوجيه لعلم الاجتماع، ولعل في افكار ابن خلدون ما يمكن ان يوفر لنا تبريرا لكثير من الامور التي تدور اليوم في الفلك السياسي، فالافكار قد تكون قديمه ولكن الانسان وسلوكياته ومجتمعاته تظل علي ما هي عليه بما يعطي زخما لهذه الافكار مهما مرت عليها السنون.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل