المحتوى الرئيسى

الموالد الشعبية في مصر: طقوس ربّانية في مواجهة التطرف

03/23 16:00

تعد الموالد الشعبيه من اكثر العادات حضوراً وبهاءً في الثقافة الشعبية المصريه، ففيها تتجسد ابرز التقاليد وتكشف الكثير عن ملامح هذا الشعب ذي النزعه الصوفيه الرافضه للتطرف الديني.

تاريخيّاً، دخلت الموالد الشعبيه الي مصر علي ايدي الفاطميين، في القرن العاشر الميلادي. وتؤكد الكثير من المراجع التاريخيه والدراسات الادبيه مثل "موسوعة مصر القديمة" للمؤرخ سليم حسن، وكتاب "الموالد والتصوف في مصر" لنيكولاس بيرخمان، ان الاحتفالات الشعبيه بموالد الاولياء والقديسين امتدادٌ تاريخي لما كان يفعله قدامي المصريين في احتفالاتهم بموالد الفراعنه والالهه، والتي كان من اهم ملامحها تقديس صاحب المولد المحتفل به. كما تشير المراجع الي ان الكرامات والخوارق المنسوبه للاولياء والقديسين تتشابه كثيراً مع ما يحكي عن معجزات وخوارق تنسب للالهه المصريه القديمه.

لا تخلو محافظه او مدينه مصريه من الموالد الشعبيه التي ينتظرها البسطاء والفقراء علي احر من الجمر. فهي ملاذهم الوحيد للتطهر النفسي، والشفاء الروحي والتخلص من اعباء الحياه. وصل عدد الموالد في مصر، وفقاً لاحصاء حديث صادر عن الجمعيه المصريه للماثورات الشعبيه الي 2850 مولداً للمسلمين والاقباط. ومن اشهر هذه الموالد حالياً موالد الحسين والسيده زينب والسيده نفيسه والسيده عائشه في القاهره، ومولد احمد البدوي في طنطا، وابراهيم الدسوقي في مدينه دسوق، ومحمد بن ابي بكر في ميت دمسيس قرب مدينه اجا (دلتا مصر)، وعبد الرحيم القنائي في قنا، وابو الحجاج الاقصري في الاقصر (صعيد مصر)، فضلاً عن الاحتفالات ببعض اولياء الاسكندريه واشهرهم ابو العباس المرسي وسيدي جابر. اما الاقباط فيحتفلون بموالد كثيره للسيده مريم العذراء والشهيد ماري (القديس) جرجس في القاهره وكفر الدّوار، وميت دمسيس، والقديسه دميانه بمحافظه الدقهليه، ومار مينا بالصحراء الغربيه.

هناك طقوس واحده يقوم بها المصريون في موالد الاولياء والقديسين علي السواء. لا يتعاملون مع الموالد علي انها احتفالات دينيه فحسب، بل هي بالاساس احتفالات دنيويه، تعبر تعبيراً صادقاً عن الخصوصيه الثقافيه المصريه. ومن الامور اللافته ان تجد الكثير من المسلمين يشاركون في موالد القديسين وتحديداً مولد العذراء، ومار مرقس، وان تجد الاقباط يواظبون علي حضور موالد ال البيت خاصه مولد السيده زينب.

العادات والتقاليد الاصيله التي يمارسها المصريون في الموالد الشعبيه، عبَّر عنها الشاعر الكبير صلاح جاهين في رائعته "الليله الكبيره". نقل جاهين كل تفاصيل المولد الثريه، بدقه شديده تُظهر تامله العميق في التراث الشعبي المصري. ووصف جمهور المولد المتنوع بين الفلاحين والصعايده واهل القنال، الذين يتركون منازلهم كل عام متجهين الي القاهره للاحتفال بمولد سيدنا الحسين، او غيره من الموالد الاخري التي تشهدها العاصمه، لتزدحم الساحات الاماميه للمسجد بخيام اهل الريف والجنوب المصري التي حملوها معهم.

كما وصف جاهين الاجواء راسماً لوحه نابضه بالحياه للمظاهر الاحتفاليه بالموالد وما تتضمنه من فولكلور شعبي مثل "الاراجوز، وبائع اليخت، والمراجيح، والرايات الملونه، والملاهي، ورفع الاثقال والنيشان، والحاوي". وببراعه تحدث عن اشهر الماكولات التي اصبحت جزءاً اساسيّاً في ثقافه الموالد لدي المصريين فيقول: حمص حمص تل ما ينقص عالنار يرقص/ يرقص ويقول/ دا اللي شاف حمص ولا كلش حب/ واتلوع ولا طلشي.

وتعبيراً عن فوضويه المولد يقول جاهين: يا ولاد الحلال/ بنت تايهه طول كدا/ رجليها الشمال فيها خلخال زي دا. ويستوحي من التراث: يا ام المطاهر رشي الملح سبع مرات، في مقامه الطاهر رشي وايدي سبع شمعات.

يزدحم المولد بعرائس الحلوي، والسيرك والعاب الاطفال، كل ذلك يرصده جاهين في رائعته قائلاً: فوريره للعيّل/ يا ابو العيال ميل/ خدلك سبع فرارير/ زماره شخليله/ عصفوره يا حليله/ طراطير يا واد طراطير، ويواصل: الليله الليله السيرك تعالوا دي فُرجه تساوي جنيه قولو هيه.

ويبرع جاهين حين يصف الليله الكبيره، اخر ليالي المولد، والتي يصل فيها الاحتفال الي الذروه: الليله الكبيره يا عمي والعالم كتيره/ مالين الشوادر يابا من الريف والبنادر. ويُختتم الاوبريت الشهير باذان الفجر والصلاه.

برغم الجدل الدائر منذ زمن بعيد حول حرمه زياره الاضرحه والتبرك بالاولياء، فان جمهور المولد لا يلتفت للانتقادات التي يوجهها البعض لممارساتهم العتيقه. فزياره الاضرحه ومقامات الاولياء الصالحين تمثل اهميه كبيره لدي جمهور المولد. وتجد من ياتي ليسكب همومه علي عتبات ال البيت ويظل يطوف حول مقام الولي المُحتفل به منشداً بعض اشعار الصوفيه وكلمه "مدد" لا تفارق لسانه، وسيدات جئن ليبحن باسرارهن لام العواجز "السيده زينب"، ورجال جاؤوا من اقصي الجنوب ليفوا نذورهم لسيد الشهداء الامام الحسين، فيكلفوا انفسهم ما ليس بواجب عليهم توسماً في ان يفك الله كرباً ما او يستجيب لدعوه ما، وتجد من يطعم الفقراء، ومن يوزع الاموال علي المحتاجين، وفتيات يتبركن بالسيده نفيسه متمنين الستر وابن الحلال.

يُمثل المُنشد الشهير ياسين التهامي قيمه روحيه كبيره لدي جمهور الموالد، فيحرص علي حضور الليله الكبيره، التي يحييها شيخ المداحين بحنجرته الشجيه العذبه، وامامه حشود من الدراويش والعاشقين، ويسقيهم حبّاً تذوب فيه القلوب. يجوب المداح الشهير موالد الاولياء في شتي البلاد، حاملاً رساله التصوف علي عاتقه، متغنياً باشعار ابن الفارض والحلاج، ومرتجلاً الكثير من الاناشيد التي يحفظها جمهور المولد عن ظهر قلب ويرددها في حفلات الذكر.

اصبحت اشعار اقطاب التصوف مع صوت ياسين التهامي زاد المريدين والدراويش، والبسطاء الذين لا ينشغلون بتفسير تلك الاشعار، لكنهم يجدون انفسهم هائمين مع المُنشد الشهير حين يغني "اكاد من فرط الجمال اذوب"، ويتوحدون معه عندما يردد نشيده الشهير "قلبي يحدثني بانك مُتلفي روحي فداك"، ويُلهب حماس العشاق حين يُنشد: يا سيده يا سيده.. يا ام الشموع القايده.

وهناك جمهور اخر يختار ان يسهر علي صوت سلطان المداحين، وايقونه الانشاد الشيخ الراحل احمد التوني. كان للتوني حضوره الخاص، بسبحته التي لم تغادر يديه حتي وفاته العام الماضي، يطرق بها علي كاسه الزجاجيه فتنبعث منها موسيقي تخصه وحده لتنسجم مع ايقاع الطبول والدفوف، فتتسلل الي قلوب المحبين، مصحوبه باشعار "قلوب العاشقين، والكلمه القديمه، انا بمدح اللي يفوح المسك من قدمه". متعه التوني كانت في الانشاد لساعات طويله، متنقلاً بين الطبقات الصوتيه المختلفه ببراعه فائقه، وفطريه اذهلت الكثيرين، بل جعلته يجوب بلاد العالم المختلفه بكاسه الزجاجيه وسبحته المعهوده، وموسيقي صوته العذب.

استاذه الأدب الشعبي الدكتوره عائشه بكر اهتمت في كتابها "موالد الاولياء والقديسين" الصادر حديثاً عن الهيئه العامه لقصور الثقافه، برصد التقارب بين طرق الاحتفال بموالد المسلمين والاقباط، تقول: هناك تقارب شديد بين الاحتفال بموالد الاولياء والقديسين، وهذا يؤكد فكره النسيج الثقافي الواحد، الذي يُشكل الشخصيه المصريه بثنائيه دياناتها "القبطيه والاسلاميه". وتضيف بكر ان الموالد وبركات الاولياء ومعجزاتهم اثرت بشكل كبير في وجدان المصريين، مشيره الي ان هذا يطابق مقوله هيرودوت: ان المصريين كانوا اشد الشعوب تديناً فكانوا يعتقدون ان كل شيء في العالم ملك للالهه، وانهم منبع كل خير وعلي علم برغبات الناس الدنيويه.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل