المحتوى الرئيسى

الدين والدولة: الحاكمية أم السيادة

03/22 22:24

في عام 1922، كتب كارل شميت مقالته "اللاهوت السياسي" التي راي فيها ان "كل المفاهيم المحوريه في النظريه الحديثه للدوله هي مفاهيم لاهوتيه معلمنه". تبدو اطروحه شميت صادمه وكاشفه في الوقت نفسه، فهي صادمه لانسان الحداثه الذي لطالما منّي نفسه بالانعتاق الابدي من عبوديه الاله، بقدر ما هي كاشفه عن حاله تاليه الدوله. تقوم اطروحه شميت علي مفهوم السياده sovereignty حيث يري ان السيد هو "من يمتلك قرار الاستثناء" بما يتضمنه من تعليق للقانون. لم تكن مقاله "اللاهوت السياسي" هي عمل شميت الاول، فقد سبقتها بعام واحد مقالته الاولي "عن الديكتاتوريه" حيث سعي الي نزع التابو المفروض علي تلك الكلمه علي حد تعبيره، موضحا ان السلطه لا بد ان تتضمن دستوريا عنصرا ديكتاتوريا يتمثل في قدرتها علي اعلان حاله الطوارئ التي يتم فيها تعليق القانون. الدوله هنا هي الاله الذي يضع القانون الذي علي الجميع ان يلتزم به، وهي من تمتلك مع ذلك القدره علي تعليقه وقتما شاءت.

تظهر الارهاصات الاولي لحلول الدوله محل الاله في افكار الايطالي الشهير ميكيافيلي، الذي عد مصلحه الوطن (ايطاليا) هي الغايه التي تباح في سبيلها كل الوسائل. ومنذ حلت الدوله محل الاله، فقد انتقلت الحاكميه منه اليها بحيث صارت هي السيد الذي يمتلك حق التشريع، وبدات الدوله تعلن الاهيتها من خلال طقوسها، فاستبدلت الشعار الديني بالعلم الوطني، والترانيم بنشيدها الوطني، والكتاب المقدس بالقانون او الدستور، كما استبدلت اخوه الدين بالمواطنه، وصار العقد الاجتماعي بمثابه لحظه اعلان الدخول في دينها.

يمثل كارل شميت، استاذ القانون الالماني الذي عاش بين 1888 و 1985، خلاصه افكار الفلسفه الالمانيه عبر تاريخها الممتد. فلقد كان الهاجس الذي يسيطر علي تلك الفلسفه هو محاوله علمنه البروتستانتيه لاطلاق الانسان من قيود الاله؛ بدات تلك المسيره مع كانط الذي جعل الدين تابعا للاخلاق النابعه من داخل الانسان لا من الاله ووحيه، ثم بلغت ذروتها في محاولات هيجل وشلينج اعاده صياغه الميثولوجيا (الاسطوره) المسيحيه والتي تقوم علي تجسد الاله في المسيحيه، بتحويل ذلك التجسد الي رمز لتنصيب الانسان الها لنفسه. لم يكن شميت مع ذلك حريصا علي التصالح مع الدين كما الاباء الكبار المثاليين للفلسفه الالمانيه، فقد كان ينتمي الي المرحله الثانيه الاكثر واقعيه في الالمانيه، والتي افتتحها نيتشه بنقده الثوري لكل القيم الدينيه والاخلاقيه، وهو الانقلاب الذي الّه القوه ووجد من بعده ماكس فيبر (وهو استاذ شميت) الذي هذّب ذلك الانقلاب النيتشوي في اطروحاته العقلانيه. كان من الطبيعي ان ينتهي ذلك التاريخ الطويل للعقل الالماني بنازيه هتلر التي كان شميت الذي يعتز بنازيته هو وجهها السافر في فلسفه القانون والسياسه.

ربما حاولت الليبراليه الخروج من هذا المازق الحداثي الذي يعيد الانسان الي العبوديه التي حاول ان يتحرر منها عندما ابعد الدين عن المجال العام وجعل علاقته بالاله علاقه شخصيه لا تعني هيمنه هذا الاله علي حياته، بان حاولت تقليص حضور الدوله وسلطتها التي لا تعرف حدا بحيث يمكنها وفقا لها ان تقرر الشيء (القانون) ونقيضه (تعليق القانون، او حاله الاستثناء او الطوارئ)، فاوجبت علي الدوله التوقف عند مصلحه الافراد وحقوقهم الطبيعيه وحرياتهم الفرديه والعامه. لكن الليبراليه مع ذلك تعجز عن تحرير الانسان من الدوله كما يتجلي ذلك في مفهوم التضحيه، كما يري بول كان، استاذ القانون في كليه يال بالولايات المتحده، حيث يري كان في عمليه البارزين "وضع الليبراليه في موضعها" 2005 و "اللاهوت السياسي" 2011 (وهو اعاده نظر في افكار شميت عن السياده) ان الليبراليه تعجز عن تفسير وتبرير تضحيه الجندي من اجل وطنه التي تشبه تضحيه الاب من اجل ابنه، فالمجتمع في فلسفه كان يقوم علي الحب والايمان والهويه.

لا يبتعد بول كان في افكاره تلك عن تيار ناقد الحداثه ومازقها الاخلاقي وعلي راسه تشارلز تايلور والسادير ماك-انتري، الذي حاول البحث في التراث الغربي عن منبع للاخلاق وجده في ارسطو واخلاق الفضيله مقدما اطروحته الشهيره "بعد الفضيله"، الي جانب الفيلسوف الايطالي جورجيو اجامبين الذي عرفناه مؤخرا بعد ترجمه كتابه "حاله الاستثناء" 2003؛ لكن هذا التيار الغربي لا يزال عاجزا في اطار المنظومه الغربيه نفسها عن تجاوز ذلك المازق تجاوزا حقيقيا.

في هذا الاطار، تبرز محاولات النقد الاسلاميه للحداثه الغربيه، وفق نموذج التوحيد والشريعه، والتي بلغت ذروتها مؤخرا بعمل المفكر مسيحي الدين اسلامي الفكر وائل حلاق "الدوله المستحيله". حيث تمثل الشريعه مرجعيه متجاوزه للدوله يخضع لها الحاكم والمحكوم علي السواء، في اطار خضوع روحي شخصي وجماعي لاله واحد هو الله الذي لا يتجسد ولا ينصرف في الوقت نفسه عن عباده.

لكن محاوله اخري، ربما تكون اشد بساطه، وليست اقل عمقا، قد قدمها المفكر الرئيس علي عزت بيجوفيتش ضمن عمله الاثير "الاسلام بين الشرق والغرب". ففي الفصل الثالث الذي يتحدث عن "الطبيعه الاسلاميه للقانون" يبين علي عزت ان القانون ليس مجرد اداه لحمايه المجتمع او تعبير من ثم عن اراده الدوله او الاراده العامه او مصالح الطبقه كما في النظريه الماركسيه، وانما هو في الوقت ذاته حق يتم تقنينه حفظا للمصلحه العامه ولامداده بالقوه التي تمنحه الوجود الواقعي بحيث لا يبقي تحفه عاجزه عن ضبط حياه الناس، لكنه في الوقت ذاته يتعلق بضمير الانسان (ما يعبر عنه حلاق بـ: تقنيات الذات)، فلا يستشعر انه مفروض عليه من قوه خارجيه تقهره، وهو ما يعبر عنه علي عزت بيجوفيتش قائلا: "قوانين المجتمع الحقيقيه هي تلك القوانين التي بجانب التهديد بالعقاب، تلزم ضمير المواطنين". فالقانون كما يراه علي عزت هو "المصلحه الانسانيه تم اقرارها كحق؛ فان كلا من الدين المجرد والاشتراكيه لا يصلحان للقانون، فالدين المجرد لا يفهم المصالح، والاشتراكيه لا تفهم الحقوق".

ربما يري البعض ان "الحاكميه الالهيه" كانت ردا من سيد قطب علي افكار شميت حول "السياده العلمانيه" والتي تعرف عليها عبر قراءته الطبيب الفرنسي الفاشي الكسي كارل. لكن الاهم من ذلك وما يمكن ان نخلص اليه من خلال ذلك العرض ان مركزيه الدين هي الاساس الذي يؤدي الخروج النظري عليه الي مازق اخلاقيه لا يمكن حلها الا بالعوده الي الدين نفسه، حيث ان اي اخلاق علمانيه هي في الحقيقه ذات اصول دينيه تبقي نابعه منها نظريا ومحتاجه اليها عمليا.

الارجاء السياسي: ظاهره نقد الدولة الحديثة

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل