المحتوى الرئيسى

رجال وقفوا وراء اكتشاف اسرار الحضارة الآشورية

03/22 23:33

ظلت مدينتان قديمتان، تحويان كنوز الحضارة الآشورية، مدفونتين لنحو 2500 عام، الي ان تم التنقيب عنهما وكشفهما منذ نحو 170 عاما، قبل ان تتعرضا للتدمير علي ايدي تنظيم الدولة الإسلامية في العراق.

ويمكن القول ان التنقيب عن الاثار الاشوريه مهد الطريق امام تنظيم الدوله لتحطيم ما تبقي منها، لكنه ادي ايضا الي ضمان الحفاظ علي بعض كنوز هذه الحضاره الغابره.

في عام 1872 ، قضي رجل يدعي جورج سميث ليالي معتمه في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، في حجرات المتحف البريطاني يتفحص في رقيم طيني مكسور.

وكان هذا الرقيم واحدا من الاف القطع التي عثر عليها في التنقيبات حينها في شمال العراق، وكانت ممتلئه بنصوص كتبت بحروف مسماريه معقده، استخدمت قديما في بلاد الرافدين، وفكت رموزها خلال حياه سميث.

ويوضح بعض هذه الرقم شؤون الحياه اليوميه، للمحاسبين والموظفين في الدولة الآشورية، وتفاصيل امثال انكسار عجله احدي العربات او تاخر وصول شحنه من الارز والقار، بينما سجلت الواح اخري انتصارات جيوش الملك الاشوري، او تعاويذ الفال التي تنبا بها كهنته ووضعوها في احشاء خروف قدم كقربان.

لكن الرقيم الذي كان سميث يدرسه كان يحكي قصصا، احداها عن العالم الذي غرق بسبب الطوفان، واخري عن رجل بني سفينه، وعن حمامه اطلقت لكي تبحث عن ارض جافه.

وادرك سميث انه يقرا في نسخه من قصه سفينه نوح، لكن الكتاب لم يكن سفر التكوين. انها ملحمه جلجامش، وهي قصيده ملحميه نقشت لاول مره علي الواح من الطين الرطب عام 1800 قبل الميلاد، اي نحو 1000 سنه قبل كتابه التواره اليهوديه (العهد القديم في المسيحيه)، وحتي رقيم سميث الذي يعود الي حوالي القرن السابع قبل الميلاد يعد اقدم بكثير من المخطوطات المبكره لسفر التكوين.

وبعد نحو شهر من ذلك، وفي الثالث من ديسمبر/ كانون الاول، قرا سميث ترجمه هذا النص علي اعضاء جمعيه علم اثار الكتاب المقدس.

وكان من بين من حضروا للاستماع رئيس الوزراء حينها ويليام غلادستون، وكانت هذه هي المره الاولي التي يستمع فيها جمهور الي ملحمه جلجامش طيله اكثر من 2000 عام.

واثارت قراءه سميث ضجه، فتعامل معها البعض بقناعه دينيه، عادا اياها اثباتا للحقيقه الجوهريه التي جاء بها الكتاب المقدس، ولكن ثمه من راها اكثر اثاره للقلق.

اذ صدَّرت صحيفه نيويورك تايمز صفحتها الاولي في اليوم التالي بمقال، يقول عنوانه ان رقيم الطوفان يكشف "تراثا مختلفا عن الطوفان بعيدا عن ذلك الذي ورد في الكتاب المقدس، الذي ربما يكون اسطوريا مثل البقيه ".

وبعد اقل من 15 عاما من نظريه داروين عن اصل الانواع، جاءت ملحمه جلجامش لتبدو للعديدين اشبه بصدع كبير في صرح المسيحيه في العصر الفيكتوري.

وبدات قصه العثور علي رقيم الطوفان في مكان يسمي تل كوسينجق وهو احد الاماكن الاثريه التي يحفر فيها تنظيم الدوله الان بحثا عن الاثار الاشوريه.

وجاءت هذه القصه في كتاب للبروفيسور ديفيد دامروش من جامعه كولومبيا بعنوان "الكتاب المدفون: فقدان واعاده اكتشاف ملحمه جلجامش العظيمه".

وتقع بلده كويسنجق قباله مدينه الموصل علي الضفه الاخري من نهر دجله، وكانت منذ نحو 2700 عاما جزءا من مدينه نينوي اخر عاصمه للاشوريين.

وكانت الدوله الاشوريه امبراطويه واسعه، امتدت في اوج مجدها من شواطئ الخليج الي جبال الاناضول في تركيا وسهول مصر.

وطيله ثلاثمائه عام، ما بين عامي 900 الي 600 قبل الميلاد، كانت الحضاره الاشوريه الحضاره الاكثر تقدما علي الاطلاق في تلك العصور، وقوه تكنولوجيه كبري استندت الي ثروات تجارها وباس جيوشها.

وعثر علي نقش في تل كويسنجق يظهر الملك الاشوري اشور بانيبال، يتنزه في حديقته بينما يتدلي راس عدوه ملك عيلام تيومان المقطوع من احدي الاشجار.

لكن الحضاره الاشوريه لم تكن منيعه علي الغزوات، ففي عام 612 قبل الميلاد اجتيحت نينوي ودمرت تدميرا كاملا في تمرد قاده البابليون، واضحت اغني مدينه في العالم حينها انقاضا.

وسقط سكان نينوي قتلي او اسروا عبيدا، وغطي التراب بقايا مكتبه الملك الراحل اشور بانيبال، ونسخته المكتوبه بعنايه من ملحمه جلجامش.

وبعد نحو الفين وخمسمئه عام من ذلك التاريخ، وفي شتاء عام 1853 رفع رجل يدعي هرمز رسام هذه القصيده الملحميه من وسط التراب.

نشا رسام في مدينه الموصل علي الضفه الاخري من النهر. وفي ذلك الحين الذي كانت القوي الاستعماريه تنظر فيه الي السكان المحليين علي انهم ليسوا اكثر من عمال زراعيين، او اناسا يغطون في الجهل، عين رسام من قبل المتحف البريطاني، ليقود اهم عمليه تنقيب عن الاثار في ذلك العصر، واصبح بشكل او باخر اول اثاري يولد وينشا في الشرق الاوسط.

وكانت عائله رسام من المسيحيين الكلدان، احفاد الاشوريين القدماء، الذين اعتنقوا المسيحيه في القرن الرابع، وظلوا مختلفين اثنيا عن سكان العراق من العرب والاكراد.

وهذه هي المجموعه الاثنيه نفسها، التي اجبرها مسلحو تنظيم الدوله خلال العام الماضي علي اعتناق الاسلام، او دفع ضريبه خاصه تسمي الجزيه في الاسلام، والا يتعرضوا للقتل.

وهرب معظم المسيحيين الاشوريين من الموصل باتجاه الشرق او الشمال الي المناطق الكرديه، التي تتمتع بالحكم الذاتي، او عبروا الحدود باتجاه تركيا.

حينما كبر رسام، كانت الموصل مكانا هادئا، وكانت هذه المدينه جزءا من الامبراطوريه العثمانيه التي كانت تضمحل تدريجيا، وهذه المدينه، التي كانت مساحه خلفيه منعزله، لم توفر كثيرا من الفرص لشاب يتمتع بالطاقه والموهبه.

لكن في عام 1845 التقي رسام بشخص ما غير مسار حياته، وهو اوستن هنري لايارد. كان رسام يبلغ من العمر حينها 19 عاما.

وكان لايارد مستكشفا وصل الي الشرق الاوسط علي ظهر الخيل في نهايه الثلاثينات من القرن السابع عشر مسلحا بمسدسين والكثير من الاموال.

وخلال الفتره التي وصل فيها الي الموصل، كان لايارد قد شاهد بالفعل معبدي بترا وبعلبك بالاضافه الي مدينتي دمشق وحلب النابضتين بالحياه، لكن اثار العراق غير المكتشفه هي التي استحوذت علي لبه.

وكتب لايارد قائلا: "غموض كبير يخيم علي اشور وبابل وكلدو (ارض الكلدانيين)، فقد ارتبطت هذه الاسماء بامم عظيمه ومدن عظيمه.....السهول التي ينظر اليها اليهودي وغير اليهودي علي حد سواء علي انها مهد سلالتهم".

واضاف:"مع غروب الشمس، رايت للمره الاولي تل نمرود المخروطي الكبير وهو يرتفع في مواجهه السماء الصافيه وقت الليل، وكان التل يقع في الجانب الاخر من النهر. والانطباع الذي ولده لدي (هذا التل) لا يمكن نسيانه ابدا.الفكره التي كانت تخطر ببالي باستمرار هي امكانيه الاستكشاف الكامل لتلك الاثار العظيمه باستخدام المجرفه".

وبعد سنوات من التفاوض مع السلطات العثمانيه، ادخل لايارد في نهايه المطاف مجرفه الي التل في منطقه اثار نمرود، التي تبعد 20 ميلا جنوب الموصل، في صيف عام 1845. وهذا هو الموقع الذي بدا فيه تنظيم الدوله الاسلاميه اعمال التجريف في وقت سابق من هذا الشهر، بحسب مسؤولين عراقيين.

في اول يوم من ايام الحفر، عثر لايارد علي حدود اوليه لاحد القصور الملكيه، وبعد اسبوع بدا استخراج الالواح الضخمه من المرمر والتي كانت مصفوفه علي جدرانه، وهي الالواح التي صورت قوه الملك الاشوري والخنوع الذليل من جانب اعدائه.

وخلال ثلاث او اربع سنوات، اكتشف لايارد الحضاره الاشوريه القديمه، التي لم يكن يعرف عنها حتي ذلك الحين سوي اسم مذكور في صفحات الكتاب المقدس، وملا المتحف البريطاني بالنقوش والكتابات من المكان الذي شهد مهد الحضارة المدنيه.

وحينما نشر قصه تنقيباته في عام 1849 في كتاب "نينوي واثارها"، اصبح هذا الكتاب بسرعه احد الكتب الاكثر مبيعا.

لكن باعترافه، لم يكن من الممكن انجاز اي من هذه الاشياء بدون هرمز رسام.

ربما عرف المستكشف البريطاني كيفيه الحصول علي تمويل من امناء المتحف البريطاني، لكن رسام هو من عرف كيفيه التعامل مع القرويين في شمال العراق، والتحدث باللغه العربيه والتركيه والاراميه السريانيه، لغه المسيحيين الاشوريين.

لقد كان رسام هو الشخص الذي عرف كيف يمكن التفاوض مع شيخ قبلي، وكيفيه رشوه حاكم محلي بهديه من القهوه، وكيفيه استئجار 300 عامل لجر تمثال ضخم لثور مجنح الي نهر دجله وتعويمه علي مجموعه كبيره من الالواح الخشبيه وقرب جلد الماعز المنفوخه.

ولم يتمكن رسام ولايارد من شحن كل شيء الي المتحف البريطاني،كما كانا يرغبان. ومن بين المواقع التي جري التنقيب فيها كانت بوابه نيرغال في السور الشمالي لنينوي، وهي البوابه ذاتها التي وقف عندها احد مسلحي تنظيم الدوله الاسلاميه ليصور خطبه عصماء ضد الشرك وعباده الاصنام التي كانت سائده في عصر ما قبل الاسلام.

يحيط بالبوابه ما وصفه لايارد في كتابه عام 1835 بعنوان "اكتشافات ما بين اثار نينوي وبابل" "زوج مهيب من الثيران براسي انسان، بطول اربعه عشر قدما مترا لكل واحد منهم ولا يزالان بكامل هيئتهما رغم وجود بعض الشقوق واثار الحريق".

وكانت هذه الثيران المجنحه المعروف باسم "لاماسو" توضع عند بوابات المدن الاشوريه لترهيب الاعداء وابعاد الارواح الشيطانيه، لكنها لم تبعد المخربين من افراد تنظيم الدوله الاسلاميه، الذين حطموا وجه لاماسو باله حفر.

وبعد ان نجحا معا في انقاذ اشور من النسيان، كون لايارد ورسام صداقه امتدت طوال حياتهما. وحينما كان لايارد، مثل الكثيرين من المستشرقين الاوروبيين، يحرص علي ارتداء الملابس الشرقيه وسط شعور بالابتهاج، كان رسام يبذل قصاري جهده لتقديم نفسه كرجل انجليزي في عهد الملكه فكتوريا.

وجاب رسام سهول العراق وهو يرتدي صدريه وستره، واعتنق المذهب البروتستانتي، الذي وصفه بانه "الديانه النقيه لبريطانيا العظمي". ودرس رسام في اوكسفورد 18 شهرا، حيث تعلم التزلج علي الجليد. وكتب الي صديقه لايارد "افضل ان اكون منظف مداخن في انكلترا علي ان اكون باشا في تركيا".

وكانت التنقيبات الاثريه تعتمد بقوه علي رسام، الي الدرجه التي جعلت المتحف البريطاني يعين هذا الشاب العراقي لمواصله عمليات التنقيب بمفرده بعد تقاعد لايارد عن العمل في مجال علم الاثار وتحوله الي دبلوماسي وسياسي ببريطانيا. وبعد عودته الي الموصل، اظهر رسام تفانيا مذهلا لخدمه مصالح بلاده الجديده التي اختار العيش والاقامه فيها.

وكان علم الاثار جزءا مركزيا في هذه المصالح. اذ تنافس البريطانيون مع الفرنسيين للاستحواذ علي اثار العالم القديم علي امتداد منطقه اعالي نهر دجله.

وكان اول من بدا الحفر في نينوي رجل فرنسي يدعي "بول اميل بوتا". ورغم ان بوتا اوقف اعمال الحفر في نينوي للتركيز علي قريه "خورس اباد" القريبه، الا انه ظل ثمه ادراك علي نطاق واسع بان هذا الموقع لا يزال في دائره النفوذ الفرنسي.

وعلي الرغم من كون رسام في موطنه الاصلي، وعلي الضفه المقابله للمدينه التي نشا فيها، لكنه لم يشهد نقل كنوز نينوي، مثل خورس اباد، الي متحف اللوفر بفرنسا.

ودون الحصول علي اي اذن رسمي، وعبر العمل تحت جنح الظلام، كان رسام وفريقه يحفرون في الزاويه الشماليه من تل نمرود.

وفي ديسمبر/كانون الاول عام 1853، اي بعد حوالي اسبوع من اعمال الحفر، انهار جزء ضخم من الارض وسمع رسام رجاله يصرخون "صور!".

وهناك، في ضوء القمر، كانت هذه الالواح الحجريه التي نقشت قبل اكثر من 2500 عام لغرف ملك الاشوريين اشور بانيبال (الذي حكم خلال الفتره من 668 وحتي 627 قبل الميلاد).

يقول جون كيرتيس، رئيس المعهد البريطاني لدراسه العراق انه فن اسر عال الجوده، فالمشاهد التي تصور مطارده اسد في سهول بلاد الرافدين، وحيوانات تصاب بسهام الملك، مناظر مفعمه بالدراما علي نحو يتفوق علي جميع النقوش التي عثر عليها سابقا في منطقه الشرق الاوسط.

ويضيف "يعود تاريخ مناظر مطارده الاسد الي الفتره الاكثر تطورا في الفن الاشوري، اذ صورت الاسود بطريقه رائعه، نابضه بالحياه والتفاصيل الطبيعيه. انها افضل اعمال النحت البارز(علي الجدران) الاشوريه".

واذا لم تحتو تلك الالواح الحجريه الا علي مشهد مطارده الاسد فقط، فذلك يكفي ليضع قصر اشور بانيبال علي قائمه اهم الاكتشافات الاثريه في القرن التاسع عشر. بيد ان بقايا رقم مكتبه اشور ناصر بال كانت تتناثر علي ارضيه القصر. وقد كتب رسام :"بين هذه الرقم (المكتشفه)عُثر علي قصص كلدانيه للخليقه والطوفان". واستطاع رسام، علي الرغم من جهله قراءه النصوص المسماريه ولم يكن قد تعلم فك شفراتها، انه عثر علي رقيم قصه الطوفان.

وصلت الصناديق التي تحتوي علي مكتبة اشور بانيبال الي لندن في الوقت الذي كان يغادر فيه جورج سميث المدرسه. ومثل رسام، لم يكن سميث عضوا في المؤسسه الفيكتوريه، فقد ولد لاسره تنتمي الي الطبقه العامله، وبدا في سن الرابعه عشره العمل متدربا في مؤسسه لسك العملات النقديه. وكان الصبي رساما جيدا، لكن بمرور الوقت بدا عمله، وتاثر خياله فعلا بمغامرات لايارد الجسور والاثار التي وصلت من نمرود ونينوي.

وبحلول منتصف خمسينيات القرن التاسع عشر، زار سميث اروقه المتحف البريطاني، وشاهد الرقم المسماريه التي كانت تاتي من قصور الملوك الاشوريين.

وعندما بلغ العشرين من عمره في عام 1860 كان سميث قد بدا فهم المخطوطات المسماريه واللغه الاكاديه التي كتب بها معظم الرقم.

وكان سميث يتمتع بذاكره بصريه حاده، واعاد تجميع وفك رموز سطور حواها نص غير صالح للقراءه تقريبا من بين مئات القطع المهشمه.

ولم يمض وقت طويل حتي استطاع سميث، الذي لم يلتحق بالجامعه ولم يغادر بريطانيا، الوصول الي اهم اكتشاف في تاريخ وادب الأمبراطورية الأشورية.

تشجع سميث باعتراف زملائه من خبراء علم الاشوريات بجهده، لكن ما كان يريده بحق هو شئ سيجعل اسمه ذائع الصيت، وهو شيء ما يعادل رحله استكشافيه الي العراق.

في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1872 وبينما كان يتهجا سطور قصيده رقيم الطوفان سطرا بعد سطر، شعر انه توصل الي اكتشاف ما. وكان سميث فرحا جدا، فكتب الي احد زملائه بانه "يدور في الغرفه" وانه من "دهشه اكتشاف هذه الهدايا، بدا في خلع ملابسه".

وبعد شهرين، وبفضل منحه ماليه قدمتها صحيفه "ديلي تيلغراف" وقدرها الف جنيه استرليني، ذهب جورج سميث الي العراق لاستئناف اعمال التنقيب الاثريه التي بدات من قبل.

كافح سميث من اجل التكيف مع ارتفاع درجات الحراره وفظاعه الاعمال التي ترتكبها الامبراطوريه العثمانيه. اذ كان ينقصه توهج سميث و فراسه رسام في التعامل مع الشارع. ويقول ديفيد دامروش انه "كان يشعر بالرعب من مستوي اجراءات النظافه الصحيه، ويشمئز من منظر الكباب، وكان بريئا جدا ولا يستطيع دفع (بخشيش) صغير يسهل تحويل اي شيء".

بيد ان جورج سميث كان بلا شك عبقريا، وقبل وفاته بسبب اصابته بالزحار (الديسنتري) في حلب عام 1876، عن عمر ناهز 36 عاما فقط، كان قد نشر ثمانيه كتب اساسيه عن تاريخ الحضاره الاشوريه ولغتها، فضلا عن عشرات الكشوف الاثريه الرئيسيه، و اماط اللثام عن اول اعظم عمل ادبي في العالم.

وعقب وفاه سميث، اعيد استدعاء رسام للعمل في المتحف البريطاني. حيث واصل العمل لاكتشاف مدينه سيبار البابليه والتنقيب فيها للكشف عن الابواب البرونزيه العظيمه لقصر بلاوات، كما ارسل اكثر من 70 الف لوح مسماري الي لندن.

وكانت هذه الاكتشافات كافيه لتجعل منه ذائع الصيت، ولكن انتهاء اخر بعثاته العلميه في ثمانينيات القرن التاسع عشر، محي اسم هرمز رسام من السجل.

ونسب السير هنري راولينسون، الذي كان يشغل منصب القنصل البريطاني في بغداد وقت اجراء رسام تنقيباته في نينوي، اكتشاف قصر اشور بانيبال لنفسه. وكتب قائلا ان رسام كان مجرد"حفار" يشرف علي العمل. والاكثر اهانه من ذلك هو ما لمح به احد امناء المتحف البريطاني بان رسام استفاد من تجاره الاثار غير المشروعه التي ازدهرت نتيجه التنقيبات في العراق.

لقد تعرض رسام، الذي كان معجبا جدا بسلوك النخبه الفيكتوريه، ووهب مجمل حياته المهنيه لخدمه الامبراطوريه البريطانيه، الي جرعه كبيره من المعامله المتعجرفه والعنصريه والازدراء. ولم يجد ناشرا بريطانيا لمذكراته، وبوفاته في منزله في هوف عام 1910، كان حتي اسمه ازيل من الالواح المعدنيه ودليل ارشاد الزائرين بالمتحف البريطاني.

وكان الانجليزي الوحيد الذي وقف الي جانب رسام هو صديقه القديم لايارد، الذي كتب يقول ان رسام "احد اكثر الزملاء الذين عرفتهم شرفا واستقامه، ورجل لم يتم الاعتراف علي الاطلاق بما قدمه من خدمات".

وتقول الدكتوره لمياء الجيلاني، عالمه الاثار عراقيه في جامعه كوليج لندن :"مازالوا يذكرون رسام في الموصل، انهم فخورون به جدا".

وفي بريطانيا ،علي الرغم من انه لم يرد الاعتبار لسمعته بشكل كامل، تطور علم الاثار بعد جيل من مغادرته الميدان، ليصبح علما منهجيا، وبحثا علميا عن المعرفه وليس تدافعا امبرياليا جشعا للحصول علي الكنوز. فكل قدم من الارض تم نخله والبحث فيه الان وجمعت كل بذره في الارض او سن وجد فيها، وقيست كل قطعه فخار عثر عليها وحللت.

اما لايارد ورسام، اللذان دفعتهما السلطه الامبرياليه لانتشال تحف فن بلاد ما بين النهرين قبل الفرنسيين، ذهبا ليجرفا الجدران الطينيه من المباني القديمه حتي من دون ان ينتبها اليها، ولم يحتفظا الا بسجلات بدائيه جدا، وخاضا بعنف في المواقع التي لو كانا قد عملا فيها ببطء اكثر وبطرق اكثر منهجيه لكان من الممكن ان يقدما ثروه معرفيه كبيره عن حياه الاشوريين. ووفقا لمعايير علم الاثار الحديث، فانهما لم يكونا اكثر من صائدي كنوز مدفوعي الاجر من المتحف البريطاني.

وتضيف الجيلاني :ان "الامر عاطفي بالطبع، بالنسبه للعراقيين"، لزمن طويل ظلوا ياتون الي المتحف البريطاني ويرون هذه القطع الاثريه ويشعرون انها يجب ان تعاد الي العراق، "لكنهم يلزمون الصمت في الوقت الحالي، لانهم يرون ما يحدث بالعراق ويقتنعون ان هذه الاشياء حفظت امنه علي الاقل في المتحف البريطاني وفي اللوفر".

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل