المحتوى الرئيسى

غسان سلهب: أحب أن أفهم من الآخرين كيف يشاهدون أفلامي

03/21 02:31

في جديده «الوادي»، يصنع اللبناني غسّان سلهب (مواليد داكار/ السنغال، 4 ايار 1958) مزيداً من جمال الصُوره السينمائيه في مقاربه احوال وانفعالات وحالات. يذهب بلغته الي ما هو ابعد من سرد عادي لحكايه محكمه البناء، لان الاهمّ كامنٌ في تكثيف الصُوَر ضمن سياق جمالي متكامل ودقيق وقابل لان يكون مرايا ذوات ومعالم وتفاصيل.

فقدان ذاكره يضع رجلاً في مقابل مجموعه اناس منعزلين في مزرعه بقاعيه. مواجهه صامته ومبطّنه، لكن المرايا تلعب دوراً في الحوار الخفيّ بين الطرفين.

] اودّ البدء معك من امر شخصيّ بحت: ينتابني شعورٌ بقلق ما عندما اُقرّر اجراء حوار مع مخرج اشعر بحبّ كبير لافلامه.

ـ انتَ تعرف اكثر منّي ان الكتابه عن فيلم لا تحبّه اسهل من الكتابه عن فيلم تحبّه. اللاحبّ اسهل في التعبير والتفسير، لكن ان تُشارك الحبّ وتكتب عن فيلم تحبّه، امرٌ صعبٌ. هذا شيء شخصيّ لا جماعيّ. لا اريد ان اضع نفسي مكانك، لكنّي افهم ما قلتَه.

] اقول هذا، واتذكّر ما اخبرتني اياه بعد مشاهدتي فيلمك القصير Posthume (فيديو، 28 د.، 2007)، عندما اردتُ قراءه النصوص الشعريه المرافقه للنص البصريّ كي افهم بعض ما في الفيلم: «الاهمّ ان تُحسّ بالفيلم». هكذا بتُّ اتعامل مع افلامك كلّها. هكذا اشعرُ اني عاجزٌ، احياناً، عن الكتابه او التحليل او النقاش.

ـ الاحساس ضروريٌ جداً. اتفهّم شعورك.

] مع هذا، سانطلق في «دردشتي» واياك من اللحظات الاولي لـ «الوادي»: هناك حادث سير يقع من دون ان نراه، اذ نكتفي بالاستماع الي حاله وقوعه. ثم، فجاه، يخرج رجل (كارلوس شاهين) من وادٍ وينظر حوله. هناك بُقع دم علي قميصه الابيض. عند مُشاهدتي هذه اللقطه، شعرتُ كان هذا الرجل يولد من جديد. كان هناك بدايه مرحله جديده في حياته.

ـ تفسير الامور مهمّ جداً بالنسبه اليّ. احبّ ان استمع الي الاخرين وافهم منهم كيف يُشاهدون افلامي. لا علاقه لهذا بما اذا احبّوا الفيلم او لا، بل لاري ماذا افعل. السينما ليست قوالب جاهزه. اهتمّ بمعرفه انفعال هؤلاء ازاء ما اصنعه ويُشاهدونه.

منذ فتره، قراتُ حواراً مع كاتبه فرنسيه قالت فيه ان الناس عندما يسالونها عن الكتاب الجديد الذي الّفته اخيراً تعرف لماذا كتبته. هذا عائدٌ لوجود طبقات عديده داخل كل واحد منّا. داخل كل فنان او سينمائي او كاتب. عندما اصنع فيلماً لا اقول ان الشخص الذي يمثّله فلان يعني هذا او يعكس ذاك او يقول ذلك. لكن، في الوقت نفسه، اعرف اني اذا وضعت هذه المَشاهد وليست تلك، او هذه الصوره وليست تلك، اعرف ان اموراً عديده ستحدث، وان اشياء كثيره ستنفتح امام المُشاهدين.

في «الوادي»، هناك انسان (كارلوس شاهين) بات اشبه بصفحه بيضاء، وهناك مُشاهِدٌ وانا والعمل برمّته.

هذا هو الفن السينمائي: صوره زائد صوره. تضع هذه قبل تلك. تحذف هذه وتُبقِي علي تلك. فقدان صوره يؤدّي الي نتائج لا تشبه تلك التي ابلغها اذا لم اتخلّ عن صوره اخري. عندما اضع الصُوَر بشكل معين اعرف كيف سيتفاعل بعضها مع البعض الاخر، واعرف ما التاثير الذي سيحدث، واعرف ان التاثير سيتغيّر حتماً. انا لم اقصد ان يكون صعود كارلوس شاهين من الوادي بالطريقه التي اشرتَ اليها انتَ. لم اقصد ان يكون شبيهاً بخروج لعازر من القبر وولادته الجديده. لا اعرف اين هو يسوع في هذا كلّه. لا احد يعرف اصلاً ما الذي حصل للعازر بعد قيامته، او ما اذا كان لعازر سعيداً بقيامته او لا، او موافقاً عليها او لا. الجميع يعرفون قصّه قيامته فقط.

قوّه السينما بالنسبه اليّ كامنهٌ في مدي قدرتها علي ان تمنح الجميع «قراءات عديده». لعلّ الفن السينمائيّ اقدر الفنون علي ادخالنا في تعقيدات، وفي الوقت نفسه، اقدرها علي تسهيل القراءات وجعلها تافهه. اخترتُ الطريق الاولي منذ البدايه.

] انا ايضاً لم اكن اقصد بالولاده الجديده لهذا الرجل لعازر وقصه قيامته. لكن، اشعر بعد ما ذكرتَه انتَ الان ان الفرق بين الاثنين هو معرفتنا ـ الي حدّ ما ـ الي اين ذهب الرجل في فيلمك.

ـ هل فعلاً تعرف الي اين ذهب، وما الذي حصل له؟

] اقول «الي حدّ ما». هناك ولاده جديده له. مرحله جديده من حياته، وان كانت مساله معرفه الي اين ذهب وما الذي فعله غير مهمّه جداً بقدر اهميه التفاصيل الاخري. كفقدان الذاكره مثلاً.

ـ فقدان الذاكره صوره عنّي. ذات مره قبل اعوام عديده دخلت غيبوبه لـ4 ايام، فقدتُ خلالها الذاكره. ليست صدفه ان اضع فقدان الذاكره في الفيلم، مع اني لا اصنع افلاماً كي اتحدّث عنّي فيها.

] فقدان الذاكره قد يكون فردياً او جماعياً. اشعر كانه انعكاس لفقدان ذاكره لبنانيه جماعيه.

ـ وهو مقصود. اي ان اللبنانيين يريدون فقدان ذاكرتهم عمداً. اللبناني يعرف، اذا فكّر قليلاً، ان لديه مشكله مع الذاكره، ومع الحاضر ايضاً. اذا كانت الذاكره قويه «سيَفرُط» كلّ شيء. لن يستطيع عندها ان يقول «انا هكذا» او «انا هكذا».

لكن ليس فقدان الذاكره فقط، بل الانفعال اللاحق بها، او انفعالها هي بالذات. هل انا غريب، ليس عن نفسي فقط بل عن الاخر ايضاً؟ انا لستُ واضحاً، او بالاحري لم اعد واضحاً. انا صفحه بيضاء. شخص مثل كارلوس شاهين يمتلك جسداً ضخماً لا تستطيع ان تواسيه او تحنّ عليه، وهو لا يُخيفك بضخامه جسده في الوقت نفسه. هذا الشخص يفقد ذاكرته ويُصبح غريباً. المفرده الفرنسيه Etranger اكثر دلاله وعمقاً من تعبير «غريب» بالعربيه.

الرجل بات غريباً. الجماعه تستقبله في مزرعتها، مع انهم يبدون كانهم لم يستقبلوه. هو غريبٌ بالنسبه اليهم، وهم ايضاً غرباء بالنسبه اليه. ما يهمّني في مساله فقدان الذاكره هو انفعالها، وردود الفعل عليها. انتَ وانا والجميع نعرف ان لدينا فقدان ذاكره مقصودا. هذا ليس نابعاً من صدفه. الحروب المستمره لا نزال نعيشها. مثلاً: حرب العام 2006 دمّرت قري وبلدات ومدناً في جنوب لبنان، بالاضافه الي تدمير الضاحيه الجنوبيه لبيروت. في عامين اثنين تقريباً تمّت اعاده اعمار كل شيء، بالقرف نفسه او ربما بقرف اكثر. نحن «عَمّرنا» بهذه الطريقه لاننا لا نريد مواجهه دمارنا الداخليّ والخارجيّ.

انطلق من هنا ولا احكي عنه. خطا كبيرٌ ان يقول مخرجٌ لبنانيّ انه يعرف الحرب الاهليه. في الصين يعرفون الحرب الاهليه ايضاً. القصّه ليست حرباً اهليه بل «اين نحن الان؟» بعد وقوع هذه الحرب.

] هذا كلّه في مستوي الحاله النفسيه والفكريه والتامليه. لكن، ماذا عن المكان؟ لن ادخل في نقاش حول مساله معروفه لديّ تماماً: انت لا تضع المكان كديكور للفيلم، بل كشخصيه فاعله ومؤثّره.

ـ في «الوادي»، لم اذهب الي البقاع لان المناخ اجمل، او لان الجوّ العام قابلٌ لكتابه اشعار، كما تفعل الشخصيه التي يؤدّيها فادي ابي سمرا. هؤلاء الناس يقيمون في مزرعه في البقاع لان لديهم حججاً خاصّه بهم. ربما لاسباب ماديه. لكن، يمكن للمرء ان يربح اموالاً في اي مكان اخر ايضاً. استغلّيتُ هذا. انا احبّ الذهاب الي امكنه، كما في «الجبل» (2011). انعزلت الشخصيه (فادي ابي سمرا ايضاً) كلّياً في غرفه في مكان بعيدين عن الجميع. في «الوادي»، مجموعه المزرعه انعزلت لاسبابها الخاصّه. ربما بقصد فقدان الذاكره. احدي الشخصيات تقول ان وقتاً طويلاً مرّ عليها من دون ان «تنزل» الي بيروت.

ما يحصل في البلد اننا ضربنا انفسنا كي نفقد ذاكرتنا. لكننا لم نتوقّف هنا فقط، بل اخترنا الانكار ايضاً. افراد المجموعه اختاروا العزله في مزرعه في البقاع. صناعه المخدرات محتاجه الي عزله؟ ربما. لكن، لا تنسي ان كتابه الشعر (فادي ابي سمرا) وممارسه الرسم (يُمني مروان) محتاجتان هما ايضاً الي عزله.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل