المحتوى الرئيسى

مسار التقنيات الروائية في مصر

03/20 12:05

منذ النشاه الاولي للروايه المصريه بين 1870 و1914 كان الكثير من الروايات يستلهم في ابنيته التعبيريه التراث السردي القديم. وقد صدرت روايات لجورجي زيدان تُحكَي بالطريقه التقليديه تضم عناصر من عدم الاحتمال والمبالغه وعناصر من المغامره والاعمال الخارقه والحيل العجيبه: «المملوك الشارد»، «ارمانوسه المصريه»، «فتاه غسان» في اواخر القرن التاسع عشر و «غادة كربلاء» و «عروس فرغانه» وغيرها في السنوات الاولي من القرن العشرين. وتقنيه السرد فيها مشابهه لما في «ألف ليلة وليلة». واستخدمت روايه «حديث عيسي ابن هشام» للمويلحي سرديه المقامه لتصوير وقائع الحاضر. وحينما نقرا روايه «نداء المجهول» لمحمود تيمور (1939) نلاحظ اختلاطًا بين احداث معاصره وبعد اسطوري ورمزي ورومانسي في ان، ونسج لحكايه شفاهيه في بناء الروايه، وهنا دمج لشكل الرومانس القديم القائم علي ميول ابديه لا تتاثر بمرور الزمان، فالاشكال الحكائيه التقليديه تهتم بالكلي والعام وما حدث في الماضي.

وبعد ذلك تكاثرت الروايات التي تسير في مسالكَ شتّي وابرزُها رائعه «عوده الروح» لتوفيق الحكيم (1933)، وهي تقدم السابقه الاولي للتوازي بين احداثِ واقع معين وشخصيات عاديه واوصاف تفصيليه من جهه ودلالات اسطوريه من ناحيه اخري. وهذا التوازي سمه مميزه من سمات الحداثه في الروايه العالميه منذ ان قدم جيمز جويس روايته الشهيره «يوليسس» واقامها علي التوازي بين عالم شخصيات عاديه وعالم «الاوديسه» عند هوميروس. وعند الحكيم لا نجد اهتمامًا بدقه التوازي ولم يزد الدور البنائي للاسطوره عن كونه خلفيه رمزيه لسرد المعيش. فليست المشكله عند الحكيم هي المطابقه الكامله بين الشخصيه والرمز، باستثناء سعد زغلول الذي يرمز لاوزوريس، بل قامت الروايه علي الانتقال من تفرق شعبِ مصرَ الي الوحده والتماسك وراء زعيم يقترب من ان يكون معبودًا عن طريق ابتعاث الجوهر المكنون للشعب. انها روايه يقظه بعد ركود اسن. وقد لاحظ بعض النقاد في «عوده الروح» اعتمادًا علي خلفيه بنائيه تنتمي الي الحكايه الشعبيه، حيث يحاول ثلاثه اشخاص انجاز مهمه (الاستيلاء علي قلب سنيه) ليخفق الاول والثاني ويفوزَ الثالث الموعود بالكنز بعد ان يحققَ التزامًا معينًا، اي ان ينفض عن نفسه السلبيه.

ولم يكن البعد الاسطوري الرمزي مستمدًا من اي نزعه حداثيه، فالتركيز في الوصف التفصيلي ظل محتاجًا الي الرمز ليكمل غياب الجوهر الاجتماعي، فالرمز عكاز تغلّفه الرؤيه المجرده للمؤلف ليربط بين التفاصيل. وتطرح روايه المازني «ابراهيم الكاتب» (1931) التي بدا في كتابتها 1925 قضايا مهمه في التقنيه الروائيه فقد اطاحت بالحبكه التقليديه، ولم تنتظر مجيء الحداثه لكي لا تراعي في سردها التتابع الزمني، فهي تسير في الزمن جيئه وذهابًا، ويلعب التناص دورًا بنائيًا في الربط بين اجزاء الروايه. فهي تستخدم ايات من الكتاب المقدس في اول كل فصل من الفصول تعبيرًا عن معناه، كما تتضمن صفحات من روايه شهيره، بل تدمج صفحات كامله من كتب المؤلف. وتحاول الروايه رسم شخصيه بطل اشكالي حافل بالتناقضات، وربما كانت اول محاوله لتقديم ملامح عقليه لشخصيه بطل تلعب الافكار دورًا موجهًا لسلوكه. وتحت طبقات من الاستطرادات والتعليقات والاستشهادات تتالق صور جزئيه مرسومه بدقه تفصيليه وتعتمد الاسلوب الشعري.

ونري بعد ذلك ملامح من واقعيه السرد في روايات صدرت في الاربعينيات تشق طريقها داخل شكل السيره الشعبيه عند طه حسين في «شجره البؤس» 1944 وتوفيق الحكيم في «الرباط المقدس» العام 1944، ومحمد فريد ابو حديد في «ابو الفوارش عنتره» 1947. وقد اخذت هذه الملامح الواقعيه تتبلور عند نجيب محفوظ في سلسله روايات مهمه وفيها يمكن الحديث عن اتجاه واقع نقدي عالي القيمه. وسنري في الخمسينيات صدور قمه الواقعيه المصريه ممثله في ثلاثيه محفوظ (1956-57)، و «الارض» لعبد الرحمن الشرقاوي (1953) و «الجبل» لفتحي غانم (1957) و «الحرام» ليوسف ادريس (1959). ويرسم انصار الحداثه للواقعيه في مصر صوره شائهه يسهل الحاق الهزيمه بها، فقد تعني محاكاه سطح الواقع في تفاصيله اليوميه التافهه، وسلخ جلود جوانبَ من الواقع وتكديسَها. وقد تهتم بتصوير حيوات فئات شعبيه بعينها وتمجيدها، او وصف بؤسها ومعاناتها، كما قد تعني الدفاع عن افكار مجرده تتعلق بالوطنيه او العداله الاجتماعيه، وقد تعني خليطًا من كل ما سبق.

ومن الواضح ان ما نعنيه بكلمه «واقع» لا يمكن الخلط بينه وبين نص لغوي كالروايه، فالفن اللغوي يختلف عن فن بصري ناطق مثل الفيلم في انه لا يستطيع تقديم انعكاس مباشر، بل يستطيع محاكاه طرائق تصوير الواقع في الفن التشكيلي والسينما، وطرائق كلام عن الواقع. فالواقعيه في الروايه هي تمثيل التجربه علي نحو وثيق الاقتراب من اوصاف تجربه مماثله في الاعمال غير الادبيه من الثقافه نفسها. فالقص الواقعي يقدم انساقًا من التجربه سبق اخضاعُها لتنظيم معين من حيث معانيها، فالاشياء والاحداث لها معانٍ بذاتها في ثقافه معينه، علي الرغم من ان القص الواقعي يزعم ان طريقته في التمثيل وتقنياته بديهيه تقدم الواقع نفسه وليس تصورات معينه عنه وان صور شخصياته وحبكاته نابعه من طبائع الامور يحدسها القارئ مباشره من دون مرور ببنيه سرديه وتقنياتها ومواضعاتها. وللردّ علي ذلك يمكن اخذ تصوير الواقعيه للمكان، فهي تعتمد علي مواضعه تقنيه، مواضعه المنظور المركزي في التصوير، وتقدم تمثيلاً موحدًا للمكان من جانب واحد تسوده وجهه نظر واحده تجعل القارئ يدرك اجزاء الحي او المدينه في انطباع موحّد يقوم علي التزامن. وهذه التقنيه تفرض منطقًا داخليًا لوجهه النظر التي تقوم علي التلاؤم المتبادل بين عناصر المكان.

وفي الستينيات اعيد النظر في التقنيات وراي الروائي الواقع بعينيه لا بعيني الايديولوجيه الرسميه او ايه ايديولوجيه اخري، ولجا الي تقنيه تصلح ممرًا الي الحداثه، الي تيار الشعور وعكس اتجاه الزمن والتوازي الاسطوري. وعند بعض روائيي السبيعينيات والثمانينيات مثلت الافعال والاحداث انماطًا اوليه متصله بشعائر الميلاد والوفاه ودوريات الحياه والخصوبه والتجدد او الاضمحلال عند يوسف ابوريه ومحسن يونس. وجاء صهر تقنيات تراثيه وحداثيه (جمال الغيطاني علي سبيل المثال)، او صهر تقنيات واقعيه وحداثيه (اصلان والبساطي وخصوصًا بهاء طاهر). وقد ظلت الروايه المصريه متنفسًا لتقنيات متعدده حتي الرومانسيه عند احسان عبد القدوس ويوسف السباعي وامين يوسف غراب.

وقد ظهرت بشائر الحداثه باعتبارها عناصر انقلابيه داخل التقليد الواقعي في «اللص والكلاب» لمحفوظ و «الرجل الذي فقد ظله» لفتحي غانم. وتحققت قطيعه مع التقنيه الواقعيه عند صنع الله ابراهيم، فهو يكسر عامدًا قواعد المنظور وتراتب اهميه التيمات والاحداث. ثم تالقت الحداثه علي ارضيه الحداثه عند ادوار الخراط، وبطريقه خاصه عند عبده جبير.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل