المحتوى الرئيسى

راشد المبارك وجه الثقافة في الرياض

03/17 11:46

سهرت في احدي الليالي البارده بمدينه كولومبوس اوهايو عند زميل كان احد طلاب الدكتور راشد المبارك في كليه العلوم، وتحدث باهتمام وتعظيم لاستاذه القدير في الفيزياء والكيمياء راشد، عن علمه وادبه واتساع معارفه ووجاهته لدي الجميع، وحدثني باكبار عن مجالسه وندواته، وذكر انه ينحدر من تلك العائله الاحسائيه العلميه الشهيره بعلمها ونبوغ كثير من رجالها، فتعلقت باخباره.

وفي احد الايام -بعد قدومي للرياض، وبعد ظهوري الاول في برنامج "اضاءات" الذي كان يقدمه الاستاذ تركي الدخيل- تلقيت مكالمه بعد وقت قصير جدا من اذاعه البرنامج؛ وبعد القاء المتصل السلام، قال: انا راشد المبارك، هل معي فلان؟ قلت: نعم، وعبرت عن سعادتي باتصاله، فدعاني الي "غداء تكريمي"، فشكرت له تلك المبادره والاهتمام، وحاولت التخلص مما قد يكلفه وقتا او نحوه -وهو الجواد بالمال والوقت للجميع- ولكنه اصر علي التكريم في احد يوميْ الخميس او الجمعه الموالييْن، وطلب ان اذكر له اسماء اقترح ان يحضروا الدعوه التكريميه ليدعوهم.

والحقيقه ان احتفاءه بالقول والدعوه والاتصال كان تكريما كبيرا كافيا من مثله، كيف وهو من كان كرمه وعلمه واتساع ثقافته وعلو قدره وتقديره في المجتمع واسعا. وقد جمع الي سعه الافق تنوع المعارف وخاصه في العلوم الحديثه، وله حضوره في الادب والنقد، وتميز بحده ذاكرته ونبوغه في ميادين كثيره، قد غمرت اخبارها المهتمين في البلاد وخارجها.

فواعدته الغداء بعد صلاه الجمعه، واعطيته اسماء لبعض ذوي العلم والثقافه والادب، وهو يعرف الناس ويعرفونه، وحضر معي اخي والنخبه التي اقترحت عليه اسماءهم، استقبلنا بجسمه المتقارب النحيف الابيض الجميل، وكان انيق الشكل واللباس، ويتحدث بلغه جميله راقيه، فلا يُغرب القول ولا يهمل ولا يتكلف في النحو، قول فصيح بلا تكلف وقد حذق الفصيح السهل.

حضرنا قصره الواسع في شرق الرياض، بقاعتيه الكبيرتين المتقابلتين يمين ويسار المدخل، حيث مقر لقاءات احديته الاسبوعيه، ولقينا في مجلسه ايضا نخبه قليله من العلماء والادباء المقربين. وقد اهمني لقاء بعضهم ممن قرات لهم ولم اكن قد قابلتهم من قبل، مثل المؤرخ السوداني عز الدين موسي، وحسن المالكي، وادباء ونحاه ومحدثين وعلماء علوم تطبيقيه بارزين.

لم اكن عارفا بطريقته في الدعوات، وبعد الترحيب افتتح الجلسه واخرج ورقات مطبوعه بيده وبدا يتحدث ويرجع لها، وموضوعها الاعتراض علي مرويات ابي هريره رضي الله عنه، وكانت ورقه علميه وثقها باحصاءات.

واذكر من اعتراضاته علي كثره مرويات ابي هريره ان ابا هريره اسلم عام الفتح وبقي عاما في المدينه مع الرسول صلي الله عليه وسلم، ثم بعدها تولي ولايه البحرين، فلوا افترضنا انه حضر كل الخطب النبويه خلال عام فستكون اثنتين وخمسين خطبه، ولو قدرنا ان حجم كل خطبه كذا كلمه او ورقه فان المجموع سوف يقل كثيرا عما روي من الاحاديث التي وصلتنا. وبهذا فان النقد الخارجي العقلي -بخلاف السند- يرفض امكان صحه هذه المرويات، وهذا نقل قريب مما اعترض به رحمه الله.

تولي التعقيب بعده علي الموضوع الشيخ حسن فرحان فنقل بعض الاعتراضات التي رُويت قديما علي مرويات ابي هريره، وبعض الاجابات عن تلك الاعتراضات، ولم يتفق مع الدكتور تماما ولم يعترض علي مجمل ما وصل اليه.

واتجه النظر الي الضيف بجواب او مشاركه، وهنا شعرت بحرج الموقف، فلست متخصصا في موضوع النقاش، صحيح ان لدي الماما بالموضوع وقدمت دروسا في مصطلح الحديث، وعكفت بجد في مقتبل الطلب علي كتب المصطلح، ولكن العهد بعيد.

وبدات بالرد علي مقولات الدكتور فيما يخص روايه ابي هريره عن الرسول (ص)، ولم اقف كثيرا عند حجج النقل، فكان التعقيب علي مقوله قصر المده بانها مردوده بنصوص منقوله عن ابي هريره رضي الله عنه، منها: تفرغه للحديث، فان الصفق في الاسواق واعمالا اخري قد شغلت الصحابه، اما هو فتفرغ للحديث، وذكر كيف تتبع احاديث الرسول (ص) ونقلها عمن سمعها او حضرها من الصحابه.

رددت ايضا بان نهي عمر بن الخطاب لابي هريره الا يحدّث الناس في المسجد مقترن بما حدث لبعض الحاضرين من انهم كانوا يخرجون من الدرس فيروون ما اورده ابو هريره، ويخلطونه بما قال لهم انه سمعه من قول كعب الاحبار عن اهل الكتاب. وبهذا لم يكن تحديثُ ابي هريره هو موردَ الشبهه بل الخلطُ من السامعين، وتلك مشكلتهم لا مشكلته.

ثم ان الحافظه التي تميز بها ابو هريره ممكنه وموجوده، وتتكرر عبر العصور والمجتمعات، ولا يقتصر هذا علي زمانهم، بل هناك نماذج في زمننا موجودون، وذكرت مسلمين معاصرين لا يكررون سماعا ولا قراءه قول، بل يحفظون من اول مره، وضربت مثلا بالشيخ الموريتاني محمد الحسن الددو.

واشرت الي مساله اخري؛ وهي ان مقام القائل له اثره في اهتمام السامع بقوله، وهذا معروف عن الناس قديما وحديثا، فان النص يهم مُتَلقِّيه بحسب مُلْقيه، وكفي بالرسول (ص) مثيرا لانتباه السامع، ولا شك ان مقام السماع عن النبي في زمنه وبعده عظيم، ولذا صح عنه وكذب عليه الكثير، ومن هنا جاءت علوم السند والمتن.

ولم يزل الناس علي مدار القرون يحفظون ويكتبون الخطب العظيمه والوصايا والنصائح التي حفظ منها الكثير منذ اكثر من ثلاثه الاف عام، ومع هذا فقد كانت كتابه الحديث مبكره عند المسلمين، ولا نخلط بين الكتب المنظمه اللاحقه كالصحيحين وبين الكتابات الاسبق، مما امتلات باخباره كتب المصطلح.

اما النقطه الاخيره فهي ان علماء الاسناد تتبعوا هذه النصوص المنقوله عن ابي هريره من طرق او اسانيد اخري لم يكن مصدرها ابو هريره، فثبتت احاديثه من طرق اخرين، ولم ينفرد الا ببضعه احاديث من الالاف التي رواها. واهم كتاب صدر في هذا الموضوع هو كتاب "دفاع عن ابي هريره" (صدر عن دار القلم ببيروت، ومكتبه النهضه ببغداد، 1973م ) للشيخ عبد المنعم صالح العلي العزي الذي عُرف لاحقا باسمه الرمزي: محمد احمد الراشد (اشرت هنا الي ما اذكره من القول في المجلس، وليس لسرد الحجج في هذا البحث.

). وهو كتاب قيم وجدته في قديم الايام بمكتبه مدرسيه في بلجرشي وكنت عائدا من مكه الي ابها.

وبعد الامتحان اللطيف للضيف في غير فنه دعانا راشد المبارك الي مائدته الاخري. ثم تابعنا النقاش ودياً في موضوعات اخري، ومجلسه وقوله يحمل عبق التنوع وسعه الافق وتسامح البحث العلمي، وهذا ما اشار اليه في كتابه "فلسفه الكراهيه" حين قال: "واذا كان الحق والسلام النفسي مطلب النفوس الخيره تبحث عنه وتتوق للوصول اليه، فلن يضير هذه النفوس ان تستمع الي راي جديد او موقف فيه مخالفه لما الفته وعرفته علي انه الحق والصواب" (النص ورد في سلسله المقالات التي كتبها الاستاذ عبد الله القفاري في جريدة الرياض بعنوان: فلسفه الكراهيه.. القراءه في وجه واحد (ثلاث حلقات).

ولعله شعر من حديث سابق خاص او عام وكاني الوم بعض المثقفين علي قله مساهمتهم في السعي للاصلاح، ولذا فقد اعدّ لنا ملفا جمع فيه صورا لمخاطباته ووساطاته في قضايا واحوال كثيره، وفي مناقشات سياسيه واقتصاديه مختلفه، واطلعنا علي بعض المواقف التي تمت الاستجابه لها.

قدمت في بيته محاضرتين اولاهما محاضره بعنوان: "نحو افاق الحريه"، قدمتها في يوم 9\9\1427هـ الموافق: 1\10\2006م، وكانت في بدايه معرفتي به، ثم طلبني من الدوحه لالقاء محاضره حول مساله "هاجس المؤامره في المجتمع العربي" وقدمتها يوم 1\4\1432هـ 6\3\2011م، وقد بداتها بمثال متخيل وشدّدت علي السامعين اني انما اضرب مثالا، وقلت للحاضرين مثلا ان احدا قد يكون شاهد او قيل له ان مباني الماسونيه تصمم بالطريقه الفلانيه، وبما ان بيت الدكتور المبارك نمطه علي شكل قصر او بيت او رمز ماسوني فانه لا بد ان يكون ماسونيا، وضربت نماذج لطريقه العقل التامري وكيف يعمل.

ولما انتهيت من المحاضره وجاء وقت الاسئله، اذا باحد السامعين قد فهم فهما اعوج غريبا بعيدا، فتحدث عن الاشكال الماسونيه ووجودها في بيت الدكتور وعلاقه ما نحن فيه بالماسونيه، وهنا اشار الدكتور راشد الي انه قد خشي -وهو يسمع المثال الافتتاحي- ان يفهمه بعضهم بخلاف القصد، وقد تحقق ما خاف منه.

تجتمع في مجلس الدكتور راشد اطياف المثقفين، فقد كان يحضر ضيف معتاد من بقيه الحزب الشيوعي: "ص.م" يحمل حقيبه منشورات الحزب علي عاتقه، ويوزعها في المجلس علي الحاضرين، وقد يعترض علي المحاضر، ولا ينسي تمجيد مشاريع لينين وخلفه من الشيوعيين في روسيا، وبناء مساكن الطبقه العامله، واعترض عليّ، وقد عقب عليه الاديب السحيمي بانه لم يبق في العالم من شيوعي مؤمن بالحزب الا "صاحبنا ص.م وكاسترو".

بعدها وقبلها كان الدكتور وصولا دائما ويحرجني باتصاله ووده المستمر، وكنت ابادله باقل من مبادراته للاسف، ومره شدّد علي في الزياره فقلت له: اذا مررت بالرياض زرتك، قال: افا؟ يعني ليس لي من زياره خاصه، ولكن مجرد مرور في سياق عمل او زيارات؟ ثم الجمني بيتا من الشعر جميلا ومعبرا عن الموقف.

مجلسه وذكرياته وضيوفه ومن عبر بندوته من اجمل ما يتحدث عنه، وكذا قصصه في رحلاته ودراسته يسوقها ادبيا او في سياق فكره وباسلوب لا يمل، اما اطلاعه ومعارفه فهي زحام هائل لا يستعرض به، ولكنك تراه علي فلتات كلماته، لقد كان بقيه من رجال عبروا تمنينا لو استفدنا منهم اكثر.

وقد كان متواضعا، قال في نقاشه مع الاديب الشاعر السفياني وقد مدحه ومدح دوره فردّ بقول الاول: "عند فقد الرجال رايتمونا رجالا"، واهتمامه بالفلسفه والفلاسفه، وثقافته الادبيه التراثيه الهائله، واستحضاره للشعر والنثر، وكتبه في هذا المجال مبذوله، وهو لم يهتم بان يكون كاتبا والا لكان اكفا من غيره، ولكن للاسف كثيرا ما يصمت المقتدرون ويكتب غيرهم.

اما رواد مجلسه فهم وجوه الثقافه في البلاد وزوارها من مثقفي وعلماء العالم العربي، وان لم تكن محتاطا في اختيار الموضوع الذي يهمك في جدول الندوه فقد تجد عالما في تخصص علمي دقيق يشرح نظريه في الفيزياء او اختراعا، او ندوه في الادب او الفن، والشعر والشعراء، او جوله في الفلسفه او القضاء او الحديث او التفسير. او قد تصادف بدعته فيما سماه "مُشاركه".

وفي ندوته تجد بعض المرابطين فيها مثل المؤرخ عز الدين موسي من السودان، واللغوي مرزوق بن تنباك، والمؤرخ حسن المالكي، واللواء هنيدي، والفنان السحيمي، ولغويين من الشام والعراق، الي جانب نجوم في علوم مختلفه، ويبقي صاحب الديوان نجما في عدد من التخصصات دون تكبر ولا بروز مفتعل، وتدل تعقيباته القليله في اواخر الندوات علي الزهد في زائد القول، ولولا تبسطه ولطفه لهاب المتحدثُ المشاركهَ لعلو قدر وعلم الحضور.

اما انجازاته فاهمها ندوته الاحديه التي لم يكن لها مثيل في الجزيره العربيه لمده ثلث قرن تقريبا، فعوضت كثيرا من المثقفين عما حاق بالمجال العام، وكذلك استاذيته خلالها لجيل من المثقفين في فنون عديده، وفتحه مجلسا حرا للثقافه والعلم، ومواقفه الاخلاقيه، وكان يعطي حق جاهه من عون المحتاجين في علاج او قضاء حوائج، وكان عوناً للمضطهدين العرب خاصه مبادرته في احداث سوريا عام 1982.

Comments

عاجل