المحتوى الرئيسى

بانتظار اختراق الانسداد السياسى فهمي هويدي

03/17 10:28

لو ان الجهد الذي بذل لتحقيق الانطلاق الاقتصادي استكمل بسعي مماثل لاختراق الانسداد السياسي لفازت مصر بالحسنيين.

فانت اذا نظرت الي مصر من خلال ثمار مؤتمر شرم الشيخ ستري الافق الاقتصادي رحبا ومسكونا بطموحات لا حدود لها، وستحلق بك تلك الطموحات عاليا. لكن الامر سوف يختلف اذا يممت وجهك شطر خرائط الواقع في مصر، اذ ستلمح فيها من الاشواك والالغام ما قد يسحب بعضا من رصيد التفاؤل الذي اشاعه «العرس» الاول. علما باننا مازلنا عند مرحله «عقد القران»، ولئن كان التفاوت بين الحلم والواقع مفهوما، الا انه يصبح خطرا اذا كان من شان الواقع ان ينال من الحلم او يهدد باجهاضه.

في هذا الصدد، لا مفر من استعاده بعض البديهيات التي لا يختلف عليها اهل النظر ممن ربطوا بين التقدم الاقتصادي والاستقرار والسلم الاهلي ذلك ان، هؤلاء اعتبروا ان الاستقرار لا يشكل فقط عنصر الجذب الاساسي لاي مستثمر وانما هو الحصان الذي يجر عربه الاقتصاد والتنميه بشكل عام. لذلك لابد ان يتقدمها والا صرنا نقلب الايه وتوقعنا من العربه ان تجر الحصان!

عند الحد الادني، فالحصان المصري يفتقد الي اللياقه التي تؤهله لان يجر عربه الاقتصاد. اذ ليس صحيحا ان البلد يتوفر له الاستقرار والامان الذي يمكنه من تحقيق الانطلاق الاقتصادي المنشود. واذا قال قائل بان القوات المسلحه انضمت الي الشرطه في تامين كل الاماكن العامه، وان الاعين مفتوحه والمدرعات جاهزه ونقاط التمركز الامني بمقدورها ان تجهض اي اخلال بالامن، فلن اختلف معه في فيض معلوماته، لكن ذلك كله لا يكفي لتوفير الاستقرار والامن. بل ازعم ان هذه الاجراءات داله علي ان الامن غير مستتب وانه لن يتوفر الا اذا ظلت القوات المسلحه مستنفره للاحتشاد علي جبهه الداخل، واذا بقيت المدرعات والعربات المصفحه في الشوارع وحول الاماكن العامه. ذلك ان الامن الحقيقي لن يطمئن اليه الناس الا اذا ادركوه دون الحاجه الي تلك الحشود والاجراءات. ثم ان هناك فرقا بين امن المرافق والمباني الذي يمكن ان تحرسه المدرعات وبين امن الناس الذي لا تراه العين لانه شعور كامن في الاعماق.

حين اصدر المركز الالماني لدراسات السياسه والامن تقريره بمناسبه انعقاد مؤتمر شرم الشيخ، فانه اعتبر ان الاستثمار في مصر في الوقت الراهن محفوف بالمخاطر، بسبب عدم استقرار الاوضاع السياسيه في البلاد. وهذا ليس رايا شاذا، لانه متداول في اوساط الدبلوماسيين الغربيين المقيمين في مصر، الذين يشكلون انطباعاتهم ويحصلون معلوماتهم من خلال الاحتكاك المباشر بالواقع. وقد سمعت من احدهم ان الاعلام المصري يعتبر مصدرا غير موثوق به في تصوير ذلك الواقع. وذلك كلام لا مبالغه فيه، لان من يدقق في الواقع المصري لا تفوته ملاحظه تزايد ارهاصات العنف ومؤشراته. ومن جانبي ازعم ان تلك المؤشرات تتوزع علي ثلاثه مصادر هي: النشطاء والحركيون ــ والمزاج العام للمجتمع ــ والسلطه.

فيما يتعلق بالمجموعه الاولي لن اتحدث عن انصار بيت المقدس ولا عن اجناد مصر او غيرهما من الجماعات الصغيره التي انزلقت في مسار العنف لسبب او اخر. لكن ما يعنيني في اللحظه الراهنه هو العنف الذي بدا يظهر بين بعض شباب الاخوان، والعنف الذي بدا يمارسه افراد ليسوا من الاخوان ولكنهم من اهالي الذين تحالفوا معهم واصبحوا من ضحايات الاعتصامات او المظاهرات.

كنت قد اشرت في مقام سابق الي ان الاخوان لم يعودوا شيئا واحدا. وكان لي راي سابق تحدثت فيه عن جماعات الاخوان الذين خرجوا من عباءه الجماعه الواحده. ويفيدنا في ذلك التحليل ان ننبه الي الاختلاف الفكري التقليدي بين المحافظين والقطبيين والسلفيين داخل الجماعه، وهؤلاء تعايشوا جنبا الي جنب خلال العقود الاربعه الاخيره. ورغم ان التباينات بينهم لم تظهر الي العلن. الا ان كتاب «دعاه لا قضاه» الذي صدر في ستينيات القرن الماضي باسم المرشد الثاني للاخوان المستشار حسن الهضيبي يعد علامه في هذا الصدد. ذلك انه كان ردا علي افكار الاستاذ سيد قطب في كتابه «معالم في الطريق»، الشاهد ان تباينات التيارات الفكريه ظلت تتفاعل في محيط الجماعه بصوره او اخري، لكنها ظلت تحت السيطره في وجود القياده بتشكيلاتها المختلفه. وبعد عزل الدكتور محمد مرسي من الرئاسه، والزج بقيادات الجماعه العليا والوسيطه في السجون والمعتقلات انفرط عقدها وعادت التباينات الي الظهور مره اخري. وهذا التباين حدث ايضا في محيط الاخوان المصريين الذين لجاوا الي الخارج. وذلك واضح في التصريحات والبيانات التي تصدر عنهم. وهو ملاحظ في اداء القنوات الفضائيه الثلاث او الاربع التي تبث باسم الاخوان من تركيا. اذ كان منطقيا ان يكون للجماعه قناه واحده في البلد الواحد علي الاقل، ولكن التعدد كان انعكاسا لتباين الاراء والمواقف.

ما يثير الانتباه في تحري مسار الجماعه ليس فقط ان الجهات المعنيه لم تحاول الفرز بين مكوناتها، ولكن ايضا ان السنوات الاخيره افرزت جيلا من الشباب خرج عن طوعها وبدا يتصرف من واقع رؤيته وقناعاته الخاصه. والمقلق في الامر ان هذا الجيل بدا رافضا للديمقراطيه ودفعته التجربه الي عدم الوثوق في الياتها، ومن ثم اصبح اكثر استعدادا لممارسه العنف والانخراط في العمل السري. وهذه الانطباعات تشكل نقاط التقاء بينهم وبين اهالي الضحايا من غير الاخوان. ومشكله هذه الشريحه من الشباب انهم لا يرون اي افق للحل في المستقبل المنظور. وهذا الانسداد يشكل حافزا لها للثار والانخراط في العنف، الذي يمكن ان يتزايد مع تزايد الشعور بالياس واستمرار الانسداد، وهذا تحليل اذا صح فانه يعني ان العنف القادم لن يكون مقصورا علي انصار بيت المقدس واجناد مصر وايه كيانات اخري مماثله، ولكن دائرته مرشحه للاتساع بسبب انشطه تلك الشريحه من الشباب اليائس والمحبط.

في الشق الخاص بالمجتمع لا يستطيع الباحث ان يتجاهل تنامي مشاعر النفور والتشفي مشفوعه بجاذبيه القبول بالعنف في اوساط الراي العام المصري. ولكي اشرح هذه النقطه فانني اذكر بما حدث في فرنسا في اعقاب نجاح الحلفاء في هزيمه النازيين واسقاط حكومه نيشي المواليه لها عام ١٩٤٥، اذ رغم ان الفضل في تحرير فرنسا راجع الي الدور الذي قام به الحلفاء وليس الي المقاومه الفرنسيه. فان الشعب الفرنسي كان معبا ضد النازيين الي الحد الذي دفع جماهيره الي الاقدام والحفاوه باعدام ميليشيات النظام السابق ومخبريه مع تجار السوق السوداء دون محاكمه. كما تم اعدام ثمانين شخصا من المسئولين الذين شاركوا في النظام السابق. وتجلي التلذذ بالانتقام الجماعي في الحمله التي نظمها البعض وادت الي سوق مئات وربما الاف النساء المتعاونات في الشوارع كالسبايا، وحلق شعورهن امام الجمهور، وسط التهليل والتصفيق.

رغم التباين بين حكم النازيين لفرنسا وبين تجربه الاخوان في السلطه، فالشاهد اننا في مصر صرنا بازاء حاله من النزوع الي الانتقام والتشفي دفعت كثيرين الي الترحيب بالمذبحه التي وقعت اثناء فض الاعتصامات، والي الاستهانه بخنق واحراق ٣٧ شخصا في عربه الترحيلات امام سجن ابوزعبل وصولا الي تبرير قتل المحاميه شيماء وقبلها سندس فتاه الاسكندريه، ذلك فضلا عن المطالبه بتعليق المشانق للمعارضين باعتبارهم خونه ومجرمين. وقل مثل ذلك بالنسبه لعمليات التعذيب والزج باكثر من ٤٠ الف شخص في السجون.

لقد قام الاعلام التعبوي بدور لا ينكر في اذكاء ظاهره التشفي والقابليه بالعنف. وهو ما احدث تراكما خطرا لا اظن انه يشكل عنصرا مساعدا علي التعايش والاستقرار في المستقبل القريب.

ليس الامر مقصورا علي تسميم مشاعر وضمائر قطاعات من الراي العام، لان الاخطر من ذلك ان الظاهره شملت بعض عناصر النخبه التي احتلت منابر الراي العام وسبق ان وصفتها بانها كتائب الاباده، وكان لها دورها في تعميم وتاصيل الكراهيه والنزوع الي التشفي والانتقام. وهو عامل له اثره الذي ينكر في تسويغ العنف وتبريره.

لست بحاجه لان نستفيض في عرض العنف الذي تمارسه السلطه من زاويتين، الاولي تتمثل في التعويل علي الامن في التعامل مع مختلف مظاهر الحراك الاجتماعي، الامر الذي اغلق الابواب امام الحلول السياسيه. والحاصل مع الجامعات والمظاهرات السلميه والشباب الذين عارضوا المحاكمات العسكريه خير شاهد علي ان التفكير السياسي ليس مطروحا، وان الحلول الامنيه وحدها المعتمده. كما يتمثل عنف السلطه ايضا في سلسله القوانين والاجراءات المقيده للحريات بدءا من قانون التظاهر وانتهاء بقانون الكيانات الارهابيه ومرورا بتعديل قانون تنظيم الجامعات الذي اطلق يد الامن في فصل الاساتذه الي جانب قانون محاكمه المدنيين امام المحاكم العسكريه. ولا تسال عن مشروع قانون الاستغناء عن الشهود في القضايا المنظوره.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل