المحتوى الرئيسى

د. جلال أمين يكتب : حضارة تدمّر حضارة

03/09 17:38

في اعقاب الغزو الاميركي للعراق في مارس 2003، (مؤيداً بقوات اخري من اوروبا واليابان) سمعنا عن مختلف انواع التدمير والتخريب، كان اشدها ايلاماً، ما فعلته هذه القوات الغازيه ببعض من اثمن واعز اثار الحضاره العربيه والاسلاميه في العراق، التي كانت تاويها المتاحف والمكتبات العامة والمدن التاريخيه.

كان من الممكن النظر الي هذه الاحداث من زوايا مختلفه: غزو دوله لدوله اخري مستقبله ذات سياده بحجه ما يسمي «بالحرب الاستباقيه» مما يمنعه القانون الدولي او قتل اشخاص ابرياء لا علاقه لهم بجرائم صدام حسين، ويكرهونه اكثر مما يكرهه الاميركيون (الذين ظلوا علي علاقه طيبه معه طالما كان يحارب الايرانيين)، مما يجرح اي مشاعر انسانيه. ولكن هناك ايضا، بالاضافه الي خرق القانون الدولي ومجافاه الانسانيه، قيام حضاره بتدمير حضاره اخري.

ان تدمير اثار الحضاره العربيه والاسلاميه ليس طبعاً بالامر السهل، فهو يحتاج الي عمل دؤوب وممتد لفتره طويله من الزمن، وفي عدد كبير من الدول العربية والاسلاميه، ومتاحف اخري كثيره في دول غير اسلاميه.

ولكن العراق من اهم البلاد التي يمكن ان يضعها عدو لهذه الحضاره هدفاً له. وها هو التدمير يبدا هناك، وقد يري البعض ان هذه النظره الي ما حدث، وما زال يحدث في العراق، مبالغه في التشاؤم. فلا يزال الكثيرون ينظرون الي ما حدث علي انه من احداث السياسه الدوليه، في نزاع بين دوله واخري، او اطماع دوله قويه في دوله ضعيفه، او من منافسه بين اطماع عده دول قويه تحاول كل منها ان تظفر ببعض الموارد الثمينه قبل ان تظفر بها الاخري. وكل هذا موجود بالطبع، ولكن، الا يوجد ايضا شيء اهم واكثر خطوره، وهو تدمير حضاره لاخري؟

ان اصدار حكم من هذا النوع علي بعض الاحداث لا ياتي عاده الا بعد مرور فتره طويله علي حدوثها.

ان فتره الالف سنه التي قضتها اوروبا، بين سقوط الامبراطوريه الرومانيه وبين عصر النهضه التجاريه والثقافيه في القرن الخامس عشر، لم يقرر المؤرخون وصفها «بالعصور الوسطي»، بما يتضمنه هذا الوصف من «تشخيص» هذه الفتره بانها فتره «مظلمه» جاءت بين حضارتين مزدهرتين، الي بعد مئات من السنين من انقضاء تلك الفتره. هل يمكن لنا اذن ان نصدر الان حكماً بالتشخيص الحقيقي لما يفعله الغرب بالحضاره العربيه والاسلاميه ولما يمض بعد اكثر من 12 عاماً علي غزو العراق؟

نعم، من الصعب ان نصدر الان حكماً نهائياً، ولكننا يجب ايضا الا نمنع انفسنا من ان نفكر فيما يحدث من هذه الزاويه (بالاضافه الي الزوايا الاخري). وتزداد ضروره هذا النوع من التفكير بسبب ما ينطوي عليه هذا التشخيص من خطوره.

من المعروف ان العراق (الذي كان اليونانيون القدماء يسمونه بلاد ما بين النهرين) يضم كنوزاً من اثمن اثار الحضارات الانسانيه. ففيه قامت او ازدهرت حضارات السومريين والعقاديين والبابليين والاشوريين والكلدانيين، والحضارتان الفارسيه والاسلاميه. وليس من المبالغه القول ان العراق شهد بدايه التحضر الانساني منذ اكثر من سبعه الاف سنه، وشهد خلال ذلك بدايات الفكر الفلسفي والديني، واتقان الكتابه، ونمو التجارة الدولية، وتحول الافكار الجماليه والفنيه الي اشكال ملموسه...الخ.

في 11و12 ابريل 2003، اي بعد شهر واحد من بدايه الغزو الاميركي للعراق، بدا نهب المتحف القومي في بغداد الذي يضم اثاراً من كل هذه الحضارات، والذي وصف بانه واحد من اغني مراكز الاثار في الشرق الاوسط. وبعد يومين (14 ابريل) امتد النهب الي المكتبه القوميه ومحفوظاتها، والي مكتبه المصاحف القرانيه التابعه لوزاره الاوقاف.

وفي الجنوب الاقصي من العراق، حيث تقع مدينه (اور) الشهيره، مهد الحضارة السومرية، ويبلغ عمرها سته الاف سنه، ظلت الاثار في مامن عن ايدي العابثين حتي شهر ابريل 2003، حين قررت القوات الاميركيه بناء قاعده جويه ضخمه علي مساحه واسعه مجاوره لمدينه اور، وبجانبها اربعه معسكرات للجنود، مما قضي علي اي فرصه للتنقيب عن الاثار في هذا المكان. ولكن القوات الاميركيه اقامت ايضا في نفس المكان مطعمين لسندوتشات البورجر والبيتزا للترفيه عن الجنود وتعويضهم عن الاقامه في الصحراء، بتقديم الوجبات التي تجلب لهم رائحه لوطن.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل