المحتوى الرئيسى

إسلاميون أم مسلمون ؟ (2-2)

03/06 20:42

اسهبنا في القسم الاول في تتبُّع الخلفيه التاريخيه للمصطلح واشتقاقاته، وفي هذا القسم نتتبع اثره، واسباب استخدامه، لتكتمل الاطروحه.

لقد عبَّر استخدام لفظه "اسلامي" ليس عن طاريء لغوي فحسب، ولا عن مُجرَّد ادلجه جعلت من الاسلام اداه لمحاربه المذاهب البشريه ومنافستها علي ارضيّتها الوضعيّه؛ بل عبَّر عن تغيُّرٍ اعمق اعتري الحركه الاسلاميّه في التصوّر والاعتقاد. ما يُمكن تسميته ب"الاثر السلفي" او "الاثر السعودي". وعلي عكس ما يتوهَّم العلمانيون والمراقبون والباحثون الغربيون؛ فقد كان جوهر ذلك الاثر تشوُّهًا في الرؤيه وتسطيحًا للتصوّر الاسلامي للجيل الذي عاش في السعوديه واكشاك الخليج، وتاجر فيها ومعها؛ اذ تم دمجه بهديه الظاهر في منظومه الاقتصاد الراسمالي، ولو علي يسار تلك المنظومه؛ بديباجات اسلاميّه طنانه (السعد والريان والبنوك الاسلامية حالات نماذجيه)، بالاضافه لدمجه بعد ذلك في النظام السياسي ما بعد الكولونيالي تحت السادات، بمعونه من عمر التلمساني ومن تخفّي وراءه من كوادر النظام الخاص. وكان الاثر الافدح هو "اعتدالُ" رؤيه هذا الجيل السياسيه والاقتصاديّه والاجتماعيّه؛ ان شئنا النظر بعين الغرب وادواته. "اعتدال دعويّ" وبراغماتيّه اجرائيّه صاحبها تطرُّف وتمركُزٌ حول جُزئيّات الفقه وتفاصيل الاعتقاد النظريّه. "اعتدالٌ" عملي وطنطنه نظريّه استهدفت اسلمه مظاهر الواقع المتعفِّنه كما هي، بدلًا من اعاده تشكيل اسس الاجتماع الانساني علي مهل. وكان المظهر الاهم لهذه الخلخله هو انتقال الاخوان الفجّ من خانه المربي-الداعيه الذي يعمل علي بثّ تعاليم الاسلام افقيًا في الوجود، لتغيير بنيه الاجتماع الانساني (والسياسي والاقتصادي فروع منه)؛ الي خانه الحزبي الذي يُنفق عمره في محاوله اقناع السلطه المتغلّبه بتقنين الشريعه وتقييد رحابتها، تمهيدًا لتطبيقها؛ حتي تصير الدوله ما بعد الكولونياليه دولهً اسلاميّه!

لقد فرضت البنيه الهرميّه للتنظيم نفسها علي التصوّرات واعادت صياغتها، حتي اننا لا نغالي حين نذهب الي ان منتسبي جماعه الاخوان لم يشغلوا خانه الداعيه-المربي اجتماعيًا وافقيًا الا في حالات نادره، وفرديه، وشاذه. اذ كان السمت الغالب هو الداعيه-الحزبي الذي يصُبّ ايديولوجيته علي من هو دونه رُتبه داخل التنظيم الراسي. وحتي حين يدعو احدًا من خارج تنظيمه؛ فانه لا يدعوه الي الله مُتجرّدًا، بل يدعو الي حزب يتوهَّم انه "حزب الله". لذا؛ كان من الطبيعي ان تتفكك جماعه الاخوان كمبدا وتصوّر، منذ السبعينيات؛ وتنحلّ الي عدّه حركات وتنظيمات حزبيّه؛ تقوم كل منها علي ثغرٍ مما فرَّط فيه الاخوان (السلفيه العلميه، الجهاد، الخ)، ولو اعتري ذلك تشوشٌ واضح في التصوّر، لا يقل خطوره عن التشوُّش الاخواني. اذ تُعاني جميعها من ازمه الحزبيّه؛ كونها جميعًا مجرد ردود افعال علي نكول بعضهم بعضًا عن القيام بواجبات الحركه الاسلاميه/الداعيه المسلم كامله.

 لقد كان اسوا ما في "الاثر السعودي" هو انتقال عدوي الانبطاح للسلطه من السلفيه النجديه السلطويه لتُشكِّل قلب الايديولوجيه الجديده لجماعه الاخوان المسلمين (وربّما كان هذا هو سبب ظهور التيار السروري كرد فعل لاحق)، في الوقت نفسه كان محمد قطب يعزل نفسه في السعوديّه، ويتبنّي ويُربّي جيل "سعودي" علي قيمٍ مُناقضه تمامًا. كان تاثير الفراغ الذي خلفه ال قطب في مصر شنيعا، فتمكَّنت السلفيّه النجديّه في مصر عبر المركب الاخواني وباموال السعوديين، في حين انكمشت قيم الحركه الاسلاميّه، بشمولها؛ لتُربَّي بها نخبه صغيره، شكَّلت الي حد ما؛ ما عُرف بعد ذلك في السعوديّه بجيل الصحوه ... المجهضه! وكانه قُدِّر للحركه الاسلاميّه الاحتفاظ بقيمها، الي اجل؛ في جيل اخر وبلدٍ اخر، بل ومواجهه ذات التجربه مع الاعتقالات والتدجين، لتمحيص الصف، وحفظ المبدا نقيًا في اصله، مهما تكاثف عليه الغبار وتغبّشت الممارسه. وهو ما اصطُنعت الفرقه المدخليّه بعدها لتفكيكه؛ حتي يتساوي حجم السائل في الانيه "العربيه" المستطرقه للحركه الاسلاميه، فلعب ربيع المدخلي في سعوديّه التسعينيات دور شيوخ الازهر في مصر الستينيات.

وبعد ان كانت الحركه الاسلاميه املًا حقيقيًا، بتمثيلها النسبي لطليعه الامه؛ املًا يُعاني تعثُّرًا اجتماعيًا ودعويًا بسبب القيود التنظيميه التي يُجاهد للتفلُّت منها، فقد تفككت الحركه/الجماعه الي فرق واحزاب وجيوب ايديولوجيه انكفات جميعها علي محاوله تحقيق حلم "تطبيق الشريعه" في طوبيا "الدولة الإسلامية"؛ سواء باستخدام ادوات السلطه السياسيه ما بعد الكولونياليه (الاخوان)، او بمحاوله الاستيلاء علي هذه السلطه بقوه السلاح (الجهاد والجماعه الإسلاميه)، او حتي بالتنظير لهذا التطبيق المغلوط والحض "السلمي" عليه (السلفيه العلميه والدعويه). لقد استُبدل الحراك الاجتماعي-الدعوي-التربوي من اسفل، في النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين؛ بمعركه تطبيق الشريعه من اعلي وبناء مؤسساتها القانونيّه، وهي المعركه التي شاركت فيها عشرات الاقلام والاصوات المشهوره، خصوصًا في مجلّتي الدعوه والاعتصام؛ وهللت لما توهَّمته اعاده للحق الي نصابه وتحكيمًا للشريعه في باكستان، علي يد ضياء الحق وبمعاونه الجماعه الاسلاميّه. فكان "الاسلاميون" المصريّون يهاجمون صوفي ابو طالب تاره، وتاره يطالبونه بالانصياع للجماهير المسلمه؛ كان من المسلَّم به (والطبيعي!) ان تعزل الشرائع الالهيّه في مجتمع مسلم ويُتحاكم الي الطاغوت، وتظلّ الجماهير المسلمه الغيوره صامته لا تحرك ساكنًا، يحدوها الرجاء؛ بانتظار تفضُّل اولي الامر علي شريعه الله! وقد تزامن ذلك مع اسلمه النظام البنكي وظهور ما سُمّي بالبنوك الاسلاميّه، بالاضافه للموجه العارمه من الكتب التي تسعي لتقديم حلول قانونيه/فقهيّه لكل اشكالات الواقع "الاسلامي"؛ بدءًا بالتنظير للبنك الاسلامي وانتهاءً بالتاصيل للدوله "الاسلاميّه"، ومرورًا باسلمه النظام البرلماني والمنظومه الديمقراطيه؛ بل وتفنيد اراء الشاب –حينذاك- عبد الوهاب الافندي، الذي كتب في مجله العربي الكويتيه، التي كان يراس تحريرها احمد بهاء الدين؛ مُعارضًا تطبيق الشريعه، رُبّما بتاثير التجربه السودانيّه.

ان الاسلامي في الممارسه التاريخيه-الكلاميه هو من اوَّلَ النصّ وشقق المقولات، ولو كان ذلك بضرب النصوص ببعضها. وهو يختلف عن المسلم في انّهُ يمتحن الناس ويواليهم ويتبرا منهم علي تاويله، او تاويل شيخه، لا علي النصوص المحكمه التي كان الرسول يُعلّمها لكل احد. اما المقلِّدُ او العامّي فهم الجمهور؛ الذين قد ينحازوا لتاويلٍ او رايٍ، لمجرد التقليد والشعور بالانتماء؛ لكنَّ  شبكه علاقاتهم الانسانيه والاجتماعيّه لا تتشكَّل علي اساسه، وان تعصّبوا له حينًا، وفي اوقات الشحن المذهبي. اما الاسلامي المحدث فتضاف لصفته السالفه صفتين اخريين: اولاهما دوام تعلُّق نظره بالدوله باعتبارها هدفًا وغايه، ووسيله وحيده لحفظ الدين والدعوه اليه، وضرب المثل المبتغي، وتجسيد النموذج الربّاني. فهو عبدٌ للبني الصلبه؛ لا يثق في المجتمع صراحه، ولا يثق في اثر القران ضمنًا، ولا يعترف بوازع ل"المؤمن" الا وازع السلطان، وان دبَّج الخطب عن مكانه القران والسُنّه؛ الا انه في قراره نفسه يظل مُعلَّق القلب مُعطَّل العقل بانتظار دوله التمكين التي ينتفي فيها التكليف الفردي، ويلزم المجتمع حدّه، ويتوقف التاريخ بالتطبيق الصارم ل”القانون الاسلامي”، وهو بهذا يعامل السلطه/الامامه، ضمنًا؛ باعتبارها من اصول الدين. اما الصفه الثالثه فهي الفصل بين المعرفه، بكل فروعها؛ والديانه، وبين المنتجات الحضاريّه والاجراءات التقنيّه من جهه وبين الرؤيه الكونيّه الحاكمه؛ فهو يقبل كل شيء بغير تمحيص ولا عرض حقيقي علي القيم الحاكمه للاسلام، وراس ذلك قبوله للنظام الراسمالي بلا غضاضه؛ لعجزه عن تفكيكه اجتهادًا، وتشوّش رؤيته وتشظّيها. لهذا؛ فان اكثر تعامله مع الامور الحياتيّه والدنيويّه هو تعامُل تسويغ وتبرير وتاصيل سطحي، وليس تفكيكًا وتركيبًا اجتهاديًا يقف علي طبيعه الظاهره الانسانيه ويستكنه حقيقتها، ومن ثمّ يقيس حلّها او حرمتها. ان الاسلامي المحدث مُقلِّد بطبيعته، وهو يُقلِّد الغرب في اكثر مظاهر معاشه بغير تحرُّج، كما يُقلِّد هو وشيخه غيرهما، ويواليان ويتبريّان علي ما يُعجزهما الاستدلال عليه!

ان اعاده تعريف المسلم، بما ان الاسلام اصلًا ايمان بهيمنه الوحي علي التاريخ والحياه؛ بانه "اسلامي"، حتي لا يواجه من يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض بحقيقتهم؛ ثم تضييق التعريف ثانيه الي تعريف مذهبي فرقي. هذه العمليه التي تحدث غالبًا بشكل دفاعي غير واع، تبتعد بالفرق عن حقيقه الاسلام بمقدار ما تنقسم علي نفسها، لتُفرز احزابًا وفرقًا جديده؛ انه تاهيل للمجتمع لقبول الكثير من مظاهر الشرك، والتاصيل لها بحُجّه "عدم التكفير". من ناحيه اخري؛ فان اسباغ المحدثين لصفه "اسلامي" علي شخص او مذهب او شيئ، صارت تسحبه لمجال المُطلقات المقدسه وتنهي به حركه التاريخ، علي نقيض الاستخدام التراثي؛ فقد تحقق الفردوس الموعود ب"اسلمه" البنك الربوي او التنظيمات الشركيه ذات الطبيعه الهرميّه او الرؤيه التي افرزتهما؛ قبل ان يُرفعا لمرتبه القداسه. ان هذا التصور السكوني مُناقضٌ للاسلام علي طول الخط، وهو انحدار لالزام المتمذهِب ب"لازم" مذهبه، ليستريح المؤدلجون الكسالي من التفكير والرصد والبحث والفهم.

لقد التقي مقصد الاشعري "التدنيسي" من استخدام اللفظه مع واقع الاسلاميين المعاصر، برغم انهم قصدوا عكس الدلاله؛ لان القداسه التي يُسبغها الانسان علي شيء/شخص لا تنتهي الا بنزع القداسه عنه كليًا، بل بتقوّض فكره القداسه نفسها، والوقوع في شرك الدنس؛ وذلك حين يفشل الشيء/الشخص في تحقيق مهمته الدنيويه "المدنسه". وربّما كان هذا هو ما يُفسِّر موجه الحاد شباب الاسلاميين الحزبيين في الاعوام الاخيره.

ان قبول تسميه اخري للمستخلف، واعتبارها ضمنًا اسمي من وصف "المسلم" الذي ارتضاه الله لعباده، هو في حد ذاته تجل لانغلاق النسق وانحراف اصحابه. وليس ثمه فارق حقيقي بين اعتبار السلفيه "مذهب" الصحابه والتابعين، وبين اعتبارهم اشاعره؛ فهو ذات النسق الوضعي يملئه المتحزبون، تحت اي شعار؛ بترهاتهم. ان المسلمون يجاهدون الجاهليه في انفسهم واهليهم، لاقامه دين الله فيها، وفي الارض كلها؛ قيامًا بواجب البلاغ عن سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم. لكن الاسلاميين "يجاهدون" بعضهم بعضًا في سبيل السلطه؛ "يجاهدون" في الانتخابات فقط!

واحد لوازم هذه الرؤيه الحزبيه في مراحلها الاخيره، قبل تحطم النسق؛ هي السعي لاقتلاع مخالفها (ولو بمعاونه السلطه كما فعل المعتزله مع الامام احمد والبرهاميّه مع الاخوان)، ويكون ذلك ايذانًا بتحطم وشيك للجميع. ان الهلاك يكمُن فيما يتوهمه المتحزب حفظًا لنقاء "العقيده". ذلك ان التمذهُب كتقليد هو بطبعه تصور سكوني نهائي للاسلام كقوي مُحركه ومتحركه. فشتان بين العقيده النهائيه التي انعقد القلب علي تفاصيلها النظريّه، وبين الاسلام كتصور حي نابض مُتدفق ابدًا؛ يزيد العمل فعاليته او ينتقص منها في النفس والوجود.

منذ بضعه عقود الف استاذنا محمد قطب، رحمه الله؛ كتابًا بعنوان: "هل نحن مسلمون؟"، وظني انه سؤال الوقت وكل وقت، والذي لا يمكن اجابته بشكل نهائي؛ خصوصًا لاسلاميي السلطه. واذا كانت الايديولوجيات كلها تعاني من مساله تعريف المنتمي اليها في مرحله تحطُّم النسق كما في مرحله تشكله؛ فان الاسلام لا يقتضي اعاده تعريف المنتمي اليه تعريفًا نظريًا رياضيًا مثل: السلفي او اليهودي او الاشتراكي او الشيعي الخ، وانما يقتضي دوام محاكمه الواقع الانساني والاجتماعي للتعريف القراني المتجاوز للتاريخ، بغير سفسطه عن اصول نظريّه وجذور تاريخيه وماديّه. وشتان!

والسؤال الذي تطرحه العلمنه الفجه للممارسه والتصوّرات السياسيه ل"الاسلاميين"؛ هو: هل يُغني وصف "اسلامي" عن حقيقه "المسلم"؟ وهو مجرَّد سؤال بلاغي يفضحه اطراد نسق الممارسات اليوميه. وبعد ان كان الاسلاميون يتقاتلون علي تاويله، ها هم يحثون خطاهم اليوم لتنحيه الكتاب كله. انه اذا كانت ثقافه الاسلاميين السياسيه لا زالت دون الديمقراطيه بكثير، من وجهه نظر الغرب؛ فانهم لا زالوا يحتاجون للديمقراطيه لفرض "شرعيتهم". ذلك ان  حضور الاسلاميين السياسي يجعل من دعوي الديمقراطيه التي يتبناها اي نظام يُقصيهم من المجال السياسي؛ مجرد هراء. وكما يقول اوليفييه روا: لم يعد الاسلاميون والديمقراطيه في العالم العربي يستطيعون الحياه بغير بعضهم بعضًا، فقد صارا قرينين!

ان الاسلام ليس "مشروعًا حضاريًا" ولا "برنامجًا نهضويًا" يُمكن فصله اجرائيًا ومعرفيًا عن نظام الاعتقاد والعباده، ومن ثم نُحسن التمييز بين المسلم والاسلامي علي دين من يؤيديون استخدام المصطلح. ان الاسلام اصلًا وحصرًا هو نظام للاعتقاد والعباده يُفرز تلقائيًا، من خلال حيوات المسلمين؛ منتجاته الحضاريّه والسياسي والاقتصادي بعض منها. ان الحضاره والنهضه، وسائر المسمّيات البرّاقه التي يفرح بها المهزومون؛ هي مُجرَّد ثمار لرحله طويله من التزكيه اثمرت في مراحلها النهائيه هذه المنتجات "الحضاريّه" التي يُفاخر بها البعض. ان هذه المنتجات الحضاريّه البرّانيه هي اكثر ثمار الرحله هزالًا وضعه؛ انها المشهد الاخير في رحله طويله من الكبد للعروج الي الله، انها اتفه ثمار القُرب من الله، ولا يُمكن قطعًا استعاده تلك الثمار بغير استنبات جديد للبذور.

لكن هل تُثمر البذور بهذه النيّه اصلًا؟

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل