"غوغل إيرث" والثورة الإلكترونية للخريطة الجغرافية

بعيداً عن العذابات الانسانيه المعاصره، لا خلاف علي ان المدنيه الحديثه تعيش حالياً واحده من ازهي عصورها، والفضل في ذلك يعود الي الحاسوب وغير ذلك من ادوات التقدم العلمي والتكنولوجي، وما اكثرها.

من المفارقه ان المتعه واللهو مع الخرائط الجديده قد افضيا الي نتائج اعمق واكثر جديه في اكثر من مجال اخر، سواء كان معرفياً يتعلق بنشر العلم والمعارف العامة، او اقتصادياً يتعلق برواج صناعات وانشطه تجاريه محدده

"فقد ادي ظهور الحاسوب والاستخدام المدني للاقمار الصناعيه وما تبع ذلك من انجازات تقنيه في مجالات كثيره -ابرزها الاتصالات والانترنت- الي تحقيق فضائل وثورات عديده، ابرزها بالطبع الثوره المعلوماتيه التي اضحي معها العالم بالفعل قريه واحده تتشابك اوصالها في لحظه بمجرد كبسه زر.

كما ادي ظهور الحاسوب والانترنت والبرمجيات المتخصصه الي تغير وتطور مفاهيم كثيره في اكثر من مجال، ومنها مفهوم الخريطه الجغرافيه والفكر الجغرافي، بصفه عامه.

لقد احال "غوغل ايرث" وغيره من محركات البحث الجغرافي علي الشبكه العنكبوتيه، الخارطه الجغرافيه من مجرد ورقه صماء لا تحوي سوي رموز غامضه وخطوط متعرجه تستعصي في اغلب الاحيان علي الفهم وتبعث احياناً اخري علي النفور والنمطيه، الي شيء ممتع ولعبه مسليه تتميز بالتجديد والحداثه، ويصعب علي الزائر مبارحتها او تركها.

 لكن المفارقه هنا ان المتعه واللهو مع الخرائط الجديده قد افضيا الي نتائج اعمق واكثر جديه في اكثر من مجال اخر، سواء كان معرفياً يتعلق بنشر العلم والمعارف العامه، او اقتصادياً يتعلق برواج صناعات وانشطه تجاريه محدده.

اقترنت الخرائط منذ القدم بالانسان، حيث كان الانسان البدائي يلجا لتوثيق وتصوير الدروب التي يسلكها من خلال الرسم علي جدران الكهوف وجلود الحيوانات وغيرها من الوسائل المتاحه، وذلك من اجل الاستدلال بها في تنقلاته وترحاله، ساعده في ذلك معرفته للرسم قبل الكتابه.

ومع معرفته للكتابه تطور الامر وتحسنت جوده الخرائط المرسومه وزادت كذلك التفاصيل والمعلومات الناطقه بها، كما كان ظهور الورق عاملاً هاماً في زياده مهاره رسم وانتاج الخريطه.

غير ان النقله الكبري للخرائط لم تحدث الا مع بدايه القرن السادس عشر مع انتشار الطباعه والتوسع في حركه الترجمه، وزياده حركه الكشوف الجغرافيه والملاحه البحريه، حتي بلغت اوجها في القرن التاسع عشر بظهور خرائط مدققه ومزوده بالمساقط والاحداثيات الجغرافيه.

لكن الخريطه الورقيه رغم التحسينات الجوهريه التي طرات عليها ورغم الدقه التي وصلت اليها، لم تخرج من عباءه التقليد والنمطيه، ولم تتحول الي الصوره الالكترونيه او الرقميه الا مع ظهور الحاسوب واطلاق تطبيقات الأقمار الصناعية ونظام تحديد المواقع العالمي (GPS) للاستخدام المدني، في سبعينيات القرن الماضي.

فقد اتاح هذا التطور تصوير كامل اجزاء الارض وانتاج عدد لا حصر له من صور الاقمار الصناعيه في هيئه رقميه ومدققه جغرافياً، ما سهل كثيراً امر تحويل هذه الصور الي خرائط رقميه يحمل كل رقم فيها معلومه، وتنبض كل نقطه ضوئيه بها بالحياه والديناميكيه.

بيد ان عجله التطور لم تقف عند هذا الحد، فمع انتشار الحواسيب السريعه وظهور نظام المعلومات الجغرافيه (GIS)، وامكان اضافه ودمج البيانات العلميه والثقافيه والاجتماعيه والسياسيه المتاحه، الي الصور الفضائيه والخرائط المنتجه منها، لتكوين طبقات معلوماتيه اضافيه يمكن الربط بين عناصرها وتحليلها احصائيا وكمياً، او اظهار جوانب معينه فيها.. تطوّر شكل ومفهوم الخريطه الجغرافيه الي ما نراه حالياً علي الشبكه العنكبوتيه عبر "غوغل ايرث" ومحركات البحث الجغرافيه المشابهه الاخري.

النقله الكبري للخرائط لم تحدث الا مع بدايه القرن السادس عشر، مع انتشار الطباعه والتوسع في حركه الترجمه، وزياده حركه الكشوف الجغرافيه والملاحه البحريه

"الثوره الالكترونيه وابداع الخريطه الحديثه

يُؤرخ عام 2005 علي انه بدايه الانطلاقه الكبري للخريطه الجغرافيه الحديثه علي الشبكه العنكبوتيه.

فقد شهد ذلك العام اطلاق اكثر من برنامج ومحرك خاص بتصفح الخرائط وعرضها لزوار الشبكه بشكل مجاني وبدون اي قيد، من ابرزها برنامج "غوغل ايرث" (Google Earth) الشهير الصادر عن شركه غوغل، و"فيرتشوال ايرث" (MSN Virtual Earth) الصادر عن مايكروسوفت، وخدمه "ياهو مابس" (Yahoo Maps) المقدمه من شركه ياهو.

"كما شهد العامين المنصرمين اكتمال هذه الانطلاقه بظهور محركات بحث منافسه وقويه مثل "ويكي مابيا" Wikimapia، الصادره عن موسوعه ويكيبديا مفتوحه المصدر، والاصدار الاخير من "ناسا ورلد وند" NASA World Wind التي تقف ورائها اكبر وكاله فضاء علي مستوي العالم وهي ناسا الاميركيه، وان بقيت ملاحظه هامه بخصوص هذين المحركين، وهي ان اطلاقهما تم بدعم من شركتي جوجل بالنسبه الاول، وميكروسوفت بالنسبه للثاني".

فانت مع "غوغل ايرث" لا يمكنك فقط مشاهده ومعاينه حديقه منزلك او اي موقع تحبه، باضافه البعد الثالث وباعلي قدر من الوضوح، بل يمكنك ايضاً المشاركه في المحتوي المعلوماتي للخرائط المعروضه، سواء باضافه رابط او صوره او معلومه الي حيز منطقه ما، او سواء باستنباط قياسات وبيانات جغرافيه محدده عن تلك المنطقه، وهي ميزات تساعد ولا شك علي الشعور بالذات واثبات الوجود والاحساس بالايجابيه.

ما يميز "غوغل ايرث" ايضاً انه في تطوير مستمر وبياناته في تحديث دائم، حيث اضيفت اليه منتصف العام الماضي علي سبيل المثال خدمه "ستريت فيو"، وبها يمكن لاي من قاطني المدن الكبيره -خاصه في اميركا واوروبا- التعرّف علي احوال السير وظروف الطقس وحركه المرور ومناطق الازدحام والاختناقات في الشوارع المختلفه، وذلك قبل انطلاقه الي محل عمله او وجهته.

كما تعدت غوغل افاق ذلك بالانطلاق الي الفضاء الخارجي وعرض الصور الملتقطه بواسطه التلسكوب العملاق هابل، لتتيح بذلك لزوراها الابحار مع النجوم والمجرات والكواكب الخارجيه من خلال خدمه "سكاي" الملحقه بغوغل ايرث، و"غوغل مون" و"غوغل مارس" المعنيين باستكشاف وتصفح الصور والخرائط الخاصه بالقمر وكوكب المريخ.

توضح التجربه ان العوالم الجغرافيه الافتراضيه التي قدمتها مؤخراً غوغل ومايكروسوفت وناسا وويكي مابيا، قد ساهمت في تحقيق ايجابيات كثيره علي اكثر من مستوي ومجال، كما ساهمت في احداث حاله من الحراك المعرفي والتفاعل الايجابي بين عدد كبير من مستخدمي الشبكه العنكبوتيه.

بيد ان نفس التجربه قد افرزت ايضاً -كونها جديده- اكثر من اشكاليه وجانب سلبي، اقلق بعضها بالفعل مضاجع الساسه ومستشاري الامن القومي في بعض الدول، نتيجه تهديدها المباشر والخطير للسياده الوطنيه والصالح العام، في حين تمت المزايده علي بعضها الاخر بشكل مبالغ فيه دون ان تكون هناك مخاوف او تهديدات جديه تستدعي كل هذا القلق او التصعيد.

وتشمل الايجابيات المنظوره -فيما تشمل- امورا كثيره، من اهمها:

- دعم العمليه التعليميه في المدارس والجامعات عبر الاستعانه بالامثله والحالات الدراسيه والصور وملفات الوسائط المتعدده المتاحه بتلك العوالم.

- المساهمه في زياده مستوي الثقافه والمعرفه العامه، نتيجه الاقبال علي الخرائط وتداول المعلومات العلميه والتاريخيه والاجتماعيه الملحقه بها.

- شعبنه علوم كثيره وجعلها محببه الي القلب وفي متناول الجميع، ومن ابرز تلك العلوم الجغرافيا والفلك والجيولوجيا والاستشعار عن بعد.

- دعم جهود اهليه وامميه كثيره، خاصه تلك المتعلقه بحمايه البيئه ومكافحه حرائق الغابات واعمال الاغاثه والانقاذ، ومناهضه الجريمه والاباده الجماعيه وانتشار الفقر.

- دعم صناعات وانشطه تجاريه واقتصاديه كثيره عبر الدعايه المجانيه والترويج السياحي، وارساء خدمات تسويقيه جديده وغير تقليديه.

اما فيما يخص الاشكاليات والجوانب السلبيه المرصوده فهي تنبع من واقع ان حدود الدول ومنشاتها الحيويه والاستراتيجيه والعسكريه، بل وخصوصيه الافراد فيها، قد اصبحت مكشوفه ومرئيه بوضوح للجميع، بما يعني امكانيه استغلال هذا بشكل سيئ من قبل اي فرد او مجموعه وفي اي وقت.

من هذا المنطلق لم يسلم "غوغل ايرث" علي وجه الخصوص ودون غيره من العوالم الجغرافيه الافتراضيه الاخري، من النقد اللاذع الذي بلغ في بعض الاحيان حد المطالبه بتغيير المحتوي المعلوماتي لبعض الاماكن والمواقع الحساسه، وفي احيان اخري حدّض حجب الموقع تماماً كما حدث منذ عامين في مملكه البحرين.

وتنطوي هذه الانتقادات علي اكثر من وجهه نظر، يمكن حصرها فيما يلي:

- تهديد الامن القومي والمصالح الاستراتيجيه للدول، بسبب امكانيه استخدام المقاومين والمتمردين والارهابيين ومهربي السلاح والمواد المخدره لصور "غوغل ايرث" عاليه الوضوح وتفاصيلها الدقيقه في التخطيط لعملياتهم وتحديد المواقع والمصالح المستهدفه.

- امكانيه تاجيج بعض الصراعات والنزاعات الاقليميه، وهذا من خلال تباين حجم ودقه المعروض من صور "غوغل ايرث" في كلا المعسكرين المتنازعين.

ولعلنا ما زلنا نذكر في هذا الصدد الجدل الذي اثارته تصريحات الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل في احد حواراته علي قناه الجزيره بشان حجم المخفي والمعلوم علي صور "غوغل ايرث" الخاصه بكل من مصر واسرائيل، وما تبع ذلك من طلبات احاطه برلمانيه ومطالبات في كلا الجانبين بتدارك الامر وحجب تلك الصور.

- امكانيه اثاره بعض المشاكل السياسيه والعرقيه بين الدول، خصوصاً في المناطق المتنازع عليها، وهذا علي غرار ما حدث بين تشيلي والارجنتين صيف العام المنقضي، نتيجه خطا غوغل في ترسيم الحدود بين الدولتين وادراج اسم وموقع قريه تشيليه ضمن الحدود السياسيه للارجنتين.

- تهديد الخصوصيه الفرديه وامكانيه انتهاكها من خلال خدمه "ستريت فيو" -مثلا- المقدمه من "غوغل ايرث"، اذ تقوم هذه الخدمه علي وضع كاميرات رصد ومتابعه في الشوارع الرئيسيه والكبيره، بما يعني الكشف عن هويه الاشخاص وفضح سلوكهم الشخصي.

- احتماليه الاستخدام الخاطئ للمعلومات وذلك عن طريق التضليل المعلوماتي وتعمد بث معلومات كاذبه او خادعه او مهينه بجانب احد الاماكن او المرافق العامه او الخاصه.

التباكي علي الماضي ام الاستفاده من الحاضر؟

من البديهي بعد هذا العرض التساؤل: اين نحن من الثوره الحاليه؟ وما هي سبل استفاده الشعوب العربيه من العوالم الجغرافيه الجديده؟

الحقيقه التي لا يمكن المواربه فيها، هي اننا -ونحن اسلاف جغرافيين ومستكشفين عرب عظام- ابعد ما نكون حالياً عن التداخل او المشاركه في الثوره الحاليه للخارطه الجغرافيه، فكل انجازاتنا في هذا الصدد لم تزد عن موقع واحد علي الشبكه العنكبوتيه (موقع اينَ) لعرض الخرائط الجغرافيه المجرده، هو الاول وقد يكون الاخير من نوعه الصادر من المنطقه.

علي المسؤولين العرب وخاصه اولئك الذين لا يزالون يديرون الامور بطريقه ممنوع الاقتراب او التصوير، الانتباه الي ان سماء جميع الدول العربيه وجميع منشاتها الحيويه باتت مكشوفه للقاصي والداني حالياً

"من هنا واعتماداً علي مبدا "ما لا يؤخذ جله لا يترك كله"، ينبغي علي الحكومات العربيه القائمه الاستفاده باكبر قدر ممكن من معطيات تلك الثوره، حتي لو كان من باب الاستخدام وليس المشاركه. والحقيقه ان افاق استفاده شعوب المنطقه من هذه الثوره كثيره ويصعب حصرها.