المحتوى الرئيسى

القاهرة: مدينتى وثورتنا (٦) أهداف سويف

02/28 14:04

في اليوم التالي لزفافنا القاهري قدت السياره بنا بطول قناه السويس، ولم نكتشف اننا علي طريق حربي الا حين وصلنا الي حاجز وكان من الصعب الرجوع. استدعي الجنود الضابط فاسلمته جوازات السفر وقصتنا وقسيمه الزواج الجديده. حدق للحظه في الاجنبي الصامت الجالس الي جواري مستترا خلف نظارته الشمسيه ثم تمتم «مبروك» عن غير اقتناع واشار لنا بالمرور. مررنا عبر علي الاقل عشره حواجز قبل ان نتمكن من مغادره الطريق.

وبعد اربعه اشهر كان زفافنا اللندني في العيد التاسع والعشرين لثوره يوليو، واتخَذَت حياتي رتما جديدا: القاهره/لندن، لندن/ القاهره، والمدينتان تتغيران ولكني ــ علي العموم ــ راضيه عن تغيرات لندن: المشهد من علي جسر ووترلو يصبح اكثر تركيبا واثاره كل عام، اسواق الشوارع تزدهر، والملاك الجبسي الابيض يحط من جديد علي قبه مسرح حَيِّنا الصغير في ويمبلدون، اما في القاهره ففي كل مره اعود الي الديار اجد الديار تتفتت من حولي.

اعود فاجد ناصيه شارعنا تغيرت: القصر الغامض الذي كان يشغلها وسط غابته الصغيره اختفي. كان احد زملائي يغيب وراء تلك الاشجار في نهايه كل يوم مدرسي. الان السور الحديدي المشغول، والاشجار الكثيفه، والاضواء اللامعه في الداخل البعيد ــ كلها اختفت وظهرت مكانها هذه الصيدليه في مدخل عماره حديثه.

اعود فاجدهم فككوا كوبري ابو العلا الحبيب وبنوا مكانه كوبري ١٥ مايو البشع. لا تمشيه الان الي ماسبيرو ولا الي بولاق ثم وسط البلد ولا الي كازينو الشجره. الكوبري العلوي (والمسمي علي تاريخ «ثوره التصحيح» التي تخلص بها السادات ممن تبقوا من رجال عبدالناصر) يمر عبر الزمالك ويضع بصمه كارثيه علي شارعها الرئيسي.

وفي العتبه، المسرح الرئيسي لطفولتي، ممشي من الحديد الكئيب يدور حول الميدان، ميدان العتبه الخضرا. خَطِّي العتبه، شرقا الي قلب المدينه القديمه، غربا الي قلب مدينه هاوسمان التي انشاها اسماعيل في نهايات القرن التاسع عشر، والقلبان يعشقان التجاره، شغوفان بها. الكل هنا يعمل بالصناعات الصغيره والتجاره والحِرَف. بيت جدي كان هنا، ومحلاته وورشته علي بعد تمشيه خمس دقائق عبر شارع الازهر. رَحَل جدي، وحَوَّل خالي الورشه من صناعات الخشب الي الالومنيوم بسبب سياسات البلطجه التي تمارسها مصلحه الضرائب. كانت الورشه والمحلات تقع في العمائر الضخمه الايطاليه الطراز في الجانب الشرقي من الميدان. تاملها. تامل الثقه التي تنطق بها هذه العمائر، التي تنطق بها مباني البوسته الخديويه والمسرح القومي وعماره قهوه ماتاتياس حيث كان خاليا يلعب الشطرنج كل ليله.

والبيت: عماره كبيره صلبه منمقه من الطراز المنتشر في عواصم المتوسط. كانت تفتح علي حوش هادئ في شارع الجيش، وكنت احب ان اتي اليها من الازبكيه وسوق الرويعي، طريق مزدحم لكن المشي فيه متعه، نمر بمحلات «الف صنف وصنف» المكدسه بلعب الاطفال والتي اشترينا منها كل لعبي ولعب اخوتي، ثم ندخل الي ممر رطب يجري تحت البنايه لنخرج الي حوش مزين باللافتات والبانرات معلقه علي باب محل الخطاط، ندلف يمينا الي البهو الواسع ذي المصعد الخشبي الفخم والارضيه من البلاط الرخامي كلوحه الشطرنج العملاقه. هذه مفروشات مخيلتي، تدفات عليها وغَذَّيت بها روحي خلال سنوات غُربَه الدكتوراه البارده في شمال بريطانيا، وحين عُدْت وجدت المشي في سوق الرويعي يتطلب كفاحا وجَلَدا، ووجدت خالتي طوفي في حرب قائمه مع كل ما يحدث خارج باب شقتها: فيض القمامه يرتفع في بئر السلم والدهانات الرديئه تكسو الجدران والعناكب ترقمها، ورخام الدرج يتكسر ويتشقق. دفنوا خشب المصعد القديم ذي الظلال العميقه المتغيره تحت طبقه من اللاكيه البني، واحتل الباعه الجائلون (الذين يُشَغِّلهم نائب الحي لمجلس الشعب) المدخل فاتخذوه مخزنا لبضاعتهم. وجدت الكبار من جيراننا يتلاشون وابناءهم ينتقلون الي الاحياء الجديده فتؤول شققهم الي القيادات المحليه التي تستعملها كمخازن للبضاعه والبلطجيه.

من القاهره الي لندن ومن لندن للقاهره، والقاهره في تدهور مستمر، بالرغم من العمارات الجديده الفاخره ومولات التسوق الرخاميه والشقق التي تباع بملايين الدولارات، المدينه تتاكل بفعل الاهمال وربما بفعل فاعل. يحفرون الشوارع ويتركونها دون رصف، يحولون مواقع رئيسيه وتاريخيه ــ مثل موقع دار الاوبرا التي احترقت في ميدان ابراهيم باشا ــ الي مواقف للسيارات. انوار الشوارع تخبو. لا شيء يُصَلَّح او يصان، البيوت القديمه والقصور تهدم وتصعد مكانها ابراجٌ بذيئه، المواصلات العامه صارت مزحه سخيفه وفي حبل مشنقه حول المدينه انشاوا مجتمعات سكنيه مغلقه علي ارض شبه مسروقه وزينوها باراضي الجولف المتعطشه دائما الي الماء ونادوها بـ«الريف الاوروبي» و«بيفرلي هيلز».

وخلال كل هذا كنت احبها. احبها، واحبها اكثر. الملايين منا يحبونها. كنا نستيقظ في الصباح فنجد نفقا انتهوا من انشائه منذ اسبوعين قد بداوا في هدم جدرانه مره اخري ليكسوها بالرخام والسيراميك. نتساءل اي من نواب مجلس الشعب يعمل في الرخام والسيراميك؟ (هم نفس النواب الذين سيبعثون باللوريات محمله بالبلطجيه وبكسر الرخام والسيراميك يشقون بها رءوسنا في شوارع الثوره). اشارات المرور مائله معطله ونستيقظ في يوم لنجد المدينه قد انبتت نَخِيلا من البلاستك مزين بالاضواء الحمراء والخضراء تغمز لنا كالمهرج الرخيص. نعتذر لمدينتنا في قلوبنا، نكرر اننا نحبها، واننا باقون. كنت اشعر بموجه من الحب في كل مره امر بذلك البيت الاصفر ذي الابراج الصغيره المتهدمه الذي لم يزيلوه بعد، بدور السينما الارت ديكو الضخمه، متاكله تعث فيها البراغيت لكنها صامده. في اليوم الذي فقد فيه برج الجزيره كشافاته البيضاء المتحفظه ورموا حوله شبكه من الاضواء الملونه بكيت. ردموا اجزاء من النيل ليقيموا عليها بيوتهم. باعوا الاراضي من تحت اقدام السكان الي المستثمرين الاجانب. صبوا الاسمنت في كل مشروعات المنشات العامه بما في ذلك ترميم مساجد عمرها الف عام، ومصانع الاسمنت تدور بالوقود المدعوم فتصل معدلات ارباحها الي ٦٥٪. وفي المقطم نشعت مجاري الحي الثري الجديد الذي بنوه اعلي الجبل فخلخلت الصخر الذي تجلس عليه «الدويقه» الفقيره اسفله فانهارت بيوتها تتدحرج علي سفح الجبل (سكانها في الخيام الان امام ماسبيرو، يحتجون ويعرضون بؤسهم علي الاعلام والماره). ربع مليون طفل يعيشون في الشارع، والبعض يحاول مساعدتهم والبعض يصور الافلام عنهم والبعض يسرق منهم الكلي والعيون.بعض ضباط البوليس يديرون شبكات البلطجه وتجاره المخدرات والمواطنون ينتظمون في السقوط من نوافذ الاقسام اثناء التحقيق معهم او الموت بهبوط حاد في الدوره الدمويه وهم في الحجز. فيديو لسيده معلقه من ساقيها تستعطف وتستعطف وترجو... احتجاجات ومسيرات ومظاهرات كل يوم، وعروض مفاجئه لفيديوهات التعذيب، وحين وقف كبار القضاه ساعتين في وقفه صامته امام ناديهم بالاوسمه والقلادات علي صدورهم ايقنا ان وقت الحساب ات.

مُهانه ومكلومه ومنهوبه ومستغَلَّه ومعتدي عليها ومستهزا بها: مدينتي. كنت اخجل من نفسي لاني لا انقذها. كلنا نخجل من انفسنا امامها. كل ما نستطيعه هو ان ننظر ونستمع ونشهد ونحتج ونصر اننا ــ نحبها. وهي تتظاهر بانها لا تكترث، تتفكك في صخب وشجاعه؛ كل خيط من منظومه كانت محكمه ينفر وينطلق وحده: الازرق والاخضر والاحمر والاسود وخيوط من كل لون وكل ملمس تقفز نافره من المنسوجه في فوضي معقده متلويه حيه متفجره حاضره. سهرت المدينه واطلقت ناسا اكثر في الشوارع، اقامت مناطق جديده بالجهود الذاتيه ولما لم تمدها الحكومه بالمياه والكهرباء اخذها الناس من الشبكات، فتحت المطاعم ونظمت الخدمات الخاصه لزوارها من الخليج الغني منها وكالات للزيجات الموسميه من شابات مصر الفقيرات.

معارض فن جديده فتحت وصالات صغيره للعروض المسرحيه والشعبيه. فرق موسيقيه تكونت واصوات وانماط جديده ظهرت، مساجد ومراكز ثقافيه قامت تتشبث بالمساحات المهمله تحت الكباري، الاخضر في المدينه يختفي ولكن في كل ليله تكتظ الكباري باهل القاهره يشمون الهواء، مشكله السكن تتفاقم ولكن في كل امسيه تري عروسا تعيش لحظه نجوميه في موكب فرحها في الشارع، تصل معدلات البطاله الي ٢٠٪ وطوال اليوم تسمع الاغاني ودقات الطبول الراقصه من المراكب الصغيره البراقه التي تجري في النهر.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل