المحتوى الرئيسى

من يحيي الأوقاف الإسلامية؟

02/24 20:46

"والوقفُ قُربه مندوبٌ اليه، ولا يصحُّ الا ممن يجوز تصرّفُهُ في ماله، ولا يصحُّ الا في عينٍ مُعينه؛ فان وقفَ شيئًا في الذمه بان قال وقفتُ فرسًا او عبدًا لم يصح، ولا يصحُّ الا في عين يمكنُ الانتفاع بها مع بقائها علي الدوام كالعقار والحيوان والاثاث؛ فان وقفَ مالاً يُنتفع به مع بقائه؛ كالاثمانِ والطعام، او مالاً ينتفع به علي الدوام؛ كالمشموم لم يجُز، ولا يجوز الا علي معروف وبرٍّ؛ كالوقفِ علي الاقاربِ والفقراء والقناطر وسُبل الخير، فان وقفَ علي قاطعِ الطريق او علي حربي او مرتدٍّ لم يجز، وان وقفَ علي ذمي جاز"

أبو إسحاق الشيرازي (ت476هـ/1083م): التنبيه في الفقه الشافعي ص136. نشره عالم الكتب.

"ومن اطرف المؤسسات الخيريه؛ وقفُ الزبادي (الانيه) للاولاد الذين يكسرون الزبادي وهم في طريقهم الي البيت فياتون الي هذه المؤسسه لياخذوا زبادي جديده بدلاً من المكسوره، ثم يرجعوا الي اهليهم وكانهم لم يصنعوا شيئًا"

مصطفي السباعي (ت1384هـ/1964م): من روائع حضارتنا ص99. نشره دار السلام.

الوقف في اللغه هو الحبس. وفي اصطلاح الفقهاء: حبس الاصل وتسبيل المنفعه او الثمره[1]. فهو في مضمونه الواقعي: وضع اموال واصول منتجه في معزل عن التصرف الشخصي باعيانها وتخصيص خيراتها او منافعها لاهداف خيريه محدده شخصيه او اجتماعيه او دينيه او غيرها علي الوجه المشروع، والشروط التي استنبطها الفقهاء من الشارع الحكيم.

واول من اوقف الاوقاف ودعا المسلمين الي الاقتداء به هو نبينا (صلي الله عليه وسلم)؛ فقد اوقف/حبس سبعه حوائط "بساتين" في المدينه المنوره علي الفقراء من بني هاشم[2]. وسار الصحابه الكرام رضوان الله عليهم من خلفه علي دربه، واشهر من اوقف من بعده عثمان رضي الله عنه حينما اشتري بئر روميه من اليهودي وجعلها حبسًا/وقفًا لعامه المسلمين.

من هنا نري ان الوقف عمل من اعمال البر والخير يريد من ورائه الواقف ابتغاء الاجر والمثوبه من الله تعالي بتحبيس الاصل/العين الموقوفه والانتفاع بالريع او الثمره او المنفعه. ونتيجه لاهميه قضيه الاوقاف منذ عصر النبي (صلي الله عليه وسلم) والي يومنا هذا، لم يخلُ مصنف من المصنفات الجامعه الفقهيه علي المذاهب المختلفه من باب كامل يتناول قضيه الوقف بكل ما عنّ فيها من مستجدات حضاريه، ونوازل طارئه تستدعي مزيدًا من البحث والتعليق والتكييف والاجابه. واننا بحق نملك تراثًا فقهيًا ناضجًا يكشف لنا كيف ابدع العقل الاسلامي في هذه المساله، واخضعها لمقدار الاهميه، من حيث التعريف والتهيئه والاداره والمسئوليه الفرديه والاجتماعيه، واحترام شروط الواقف بل وجعلها كنصّ الشارع ما لم تُخالف شرعًا، وكيف اعمل الفقهاء مبدا المصلحه العامه بنقل الوقف او استثماره او ايجاره والبحث عن افضل العناصر لاداره هذه المنشات الوقفيه.

ونتيجه لهذه الصرامه واليقظه والحنكه من جمهره الفقهاء بمختلف مشاربهم المذهبيه في مساله الاوقاف، تعددت انواع الاوقاف الي الوقف الاهلي او الخيري والوقف الذُّري ووقف الارصاد. فالوقف الخيري هو الذي يعود نفعه علي فئه او فئات من المجتمع الاسلامي، والوقف الذُّري هو الذي ينحصر علي ابناء وذُريّه الواقف بحسب وصيته/وقفيته، ووقف الارصاد، هو الوقف الذي تُرصده الدوله من بيت مالها علي فئه تري ان الاوقاف الاهليه و الذريه لم تصل اليها او تشملها[3].

ان الوقف الخيري كان عبقريه من عبقريات الحضاره الاسلاميه؛ ذلك انه فتح المجال للمجتمع الاسلامي كي يخدم نفسه بطريق فذّه متجدده، فابدع في هذا المضمار، وتنوعت الاوقاف الخيريه من وقف علي المساجد والمدارس والرباطات والمستشفيات والاسبله وطلبه العلم والفقراء والايتام والمعوزين.

ذلك ان بنيه الدوله الاسلاميه قد فتحت المجال امام الراي العام بخلاف الدوله الحديثه التي سيطرت علي الفضاء والمجال العام من خلال الاعلام والاقتصاد المركزي والسيطره علي الاوقاف وغير ذلك، وغالبًا ما كانت الامه متقدمه علي الدوله/النظام السياسي/الفئه الحاكمه في الحضاره الاسلاميه؛ تتمظهر هذه الحقيقه في امتزاج شعوب العالم الإسلامي فيما بينها دون عائق يعوقها، وفي احتفاظ الامه بذمتها الماليه مستقله من خلال الاوقاف ومصارف الصدقات الاخري، كما تتجلي في وحده المرجعيه الدينيه والشرعيه.

ان ابرز المنجزات الحضاريه التي قامت بها الاوقاف الاسلاميه انها لم تحصر المؤسسات الخدميه علي الطبقه الحاكمه/الدوله كما نري اليوم، ما قدّم للامه فيضًا من المؤسسات علي كافه المناحي الاجتماعيه والاقتصاديه بل والسياسيه والعسكريه كما في الاوقاف علي المجاهدين ورباطات الثغور وغير ذلك، وادي هذا بدوره الي نهضه ملموسه علي المستويات الاجتماعيه بوجود مؤسسات التضامن الخيريه الوقفيه، وعلي المستويات العلميه بوجود الاوقاف علي طلبه العلم بمختلف تخصصاتهم، وخزائن الكتب وعلي المستويات الاقتصاديه بوجود الاوقاف التي تُعين الفلاحين والمزارعين والصُنّاع، والتجّار مثل الخانات والفنادق الموقوفه!

ولا يمكن في هذا المقام الضيق ان نكشف ولو عن شطر ضئيل من اثار هذا المنجز الحضاري الكبير، بيد انه يكفينا ان تاثير الاوقاف قد تجلي في اشد اللحظات خطوره في تاريخ الدوله الاسلاميه، ففي اللحظه التي كان صلاح الدين الايوبي (ت589هـ) يجابه فيها القوي الصليبيه في بلاد الشام وفلسطين، وهي اللحظه التي من المفترض ان المجهود العسكري والحربي يستنزف كافه موارد البلاد، فانه علي الرغم من ذلك لم تتاثر الاوقاف الخدميه بذلك، ولا جرؤ صلاح الدين ولا غيره علي الاقتراب من هذه الاوقاف، بل علي العكس؛ فان الرحّاله الاندلسي ابن جبير البلنسي (ت614هـ) كان في احدي رحلاته المشرقيه سنه 581هـ في ظل جهاد صلاح الدين، وراي اثر هذه الاوقاف علي المستويين الاجتماعي والعلمي في دمشق، فكتب لابناء جلدته من المغاربه والاندلسيين قائلاً: "ومرافقُ الغرباء بهذه البلده (دمشق) اكثر من ان ياخذها الاحصاء، ولا سيّما لحفاظ كتاب الله، عزّ وجل، والمنتمين للطلب. فالشان بهذه البلده لهم عجيب جدا. وهذه البلاد المشرقيه كلها علي هذا الرسم، لكن الاحتفال بهذه البلده اكثر والاتساع اوجد. فمن شاء الفلاح من نشاه مغربنا فليرحل الي هذه البلاد ويتغرب في طلب العلم فيجد الامور المعينات كثيره؛ فاولها فراغ البال من امر المعيشه، وهو اكبر الاعوان واهمها، فاذا كانت الهمه فقد وجد السبيل الي الاجتهاد، ولا عذر للمقصر الا من يدين بالعجز والتسويف، فذلك من لا يتوجه هذا الخطاب عليه، وانما المخاطب كل ذي همه يحول طلب المعيشه بينه وبين مقصده في وطنه من الطلب العلمي، فهذا المشرق بابه مفتوح لذلك، فادخل ايها المجتهد بسلام، وتغنم الفراغ والانفراد قبل علَق الاهل والاولاد، وتقرع سن الندم علي زمن التضييع"[4].

ومن الاسهامات الحضاريه التي قامت علي الاوقاف حصرًا المستشفيات الكبري مثل المستشفي النوري الذي بناه نور الدين محمود بن زنكي (ت569هـ) في دمشق، والبيمارستان او المستشفي المنصوري الذي بناه المنصور سيف الدين قلاوون (ت689هـ) في القاهره، واوقف عليه وقفًا هائلاً عده قري وارض ومتاجر وغيرها كثير، ولا تزال اثار هذا المستشفي المملوكي في شارع المعزّ بوسط القاهره شاهدًا علي عظمه المنشاه والمُنشئ، وان مجرد الرجوع الي نص وقفيه السلطان قلاوون عند النويري في "نهايه الارب" والتفاصيل الدقيقه التي ذُكرت فيها تُبين كيف ان النظام الوقفي كان خير معين لانشاء اعظم صرح طبي في العصور الوسطي كما اكد علي ذلك كافه الرحاله الباحثين، قال المؤرخ شهاب الدين النويري (ت721هـ) وقد كان احد الموظفين الكبار في ذلك البيمارستان: "اوقفه السلطانُ علي الملك والمملوك، والجندي والامير والوزير، والكبير والصغير، والحر والعبد، والذكر والانثي. وجعل لمن يخرج منه، من المرضي عند برَئِه كسوه، ومن مات جَهّزه، وكُفِّن ودُفن. ورتَّب فيه الحكماء الطبائعيه[5] والكحالين[6] والجرائحيه[7] والمجبّرين[8]، لمعالجه الرمدي والمرضي والمجرحين والمكسورين من الرجال والنساء. ورتب[9] به الفراشين والفراشات، والقَوَمه لخدمه المرضي، واصلاح اماكنهم وتنظيفها، وغسل ثيابهم، وخدمتهم في الحمام. وقرّر لهم علي ذلك الجامكيات[10] الوافره. وعُملت النخوت والفرش والطراريح والانطاع والمخدات واللحف والملاوات لكل مريض فرش كامل. واُفرد لكل طائفه من المرضي امكنه تختصُّ بهم. فجعلت الاواوين الاربعه المتقابله للمرضي بالحميات وغيرها، وجُعلت قاعه للرمدي، وقاعه للجرحاء، وقاعه لمن افرط به الاسهال، وقاعه للنساء، ومكان حسن للممرورين[11] من الرجال ومثله للنساء، والمياه تجري في اكثر هذه الاماكن. واُفردت اماكن لطبخ الطعام، والاشربه والادويه، والمعاجين وتركيب الاكحال ... وعمل المراهم والادهان، وتركيب الترياقات[12]، واماكن لحواصل العقاقير، وغيرها من هذه الاصناف المذكوره، ومكان يفرّق منه الشراب، وغير ذلك من جميع ما يحتاج اليه. ورتّب فيه مكان يجلس فيه رئيس الاطباء، لالقاء درس طب، ينتفع به الطلبه، ولم يحصر السلطان، اثابه الله، هذا المكان المبارك بعده في المرضي يقف عندها المباشر[13] ويمنع من عداها، بل جعله سبيلاً لكل من يصل اليه في سائر الاوقات من غني وفقير. ولم يقتصر ايضا فيه علي من يقيم به للمرضي، بل يرتب لمن يطلب وهو في منزله ما يحتاج اليه من الاشربه والاغذيه والادويه، حتي ان هؤلاء زادوا في وقت من الاوقات، علي ما تبين، غير من هو مقيم بالبيمارستان"[14].

ودخلت الاوقاف في جوانب اخري طريفه ولافته بلا شك، مثل اوقاف امداد الامهات بالحليب والسكر في عصر صلاح الدين الايوبي، وهي اسبق في الوجود من جمعيات نقطه الحليب، مع تمحُّضها للخير الخالص لله عز وجل، وثمه مؤسسات وقفيه اسلاميه اُقيمت لعلاج الحيوانات المريضه او لاطعامها او لرعيها حين عجزها، وشاهد الدكتور مصطفي السباعي رحمه الله احد هذه الاوقاف في دمشق وهو وقف المرج الاخضر للخيول والحيوانات العاجزه المسنه "ترعي منه حتي تُلاقي حتفها"[15]!

هذه مجرد امثله عابره للاوقاف الاسلاميه، ودورها الحضاري في مسيره الدوله الاسلاميه، ولم يكن الحُكّام يجرؤن علي الاستيلاء علي هذه الاوقاف في ظل الرقابه الصارمه من مؤسسه العلماء الذين اُنيط بهم المراقبه والمحافظه علي هذه الاوقاف، عملاً بوصيه الواقفين، وفصلاً بين المتخاصمين فيما يتعلق بالاداره، واصدار الفتاوي التي تُحقق المصلحه العامه للعين الموقوفه والموقوف عليهم. وفي مقالنا القادم سنري اثر تغير بنيه الدوله الحديثه في العالم العربي عن الدوله الاسلاميه في تاريخها الطويل علي مؤسسه الاوقاف الاسلاميه بصوره سلبيه، وفي المقابل مدي استفاده العالم الغربي وعلي راسه الولايات المتحده الامريكيه من هذا النظام العبقري في تنميه ونهضه مجاله العام علي المستويات الاجتماعيه والخدميه والصحيه والعلميه!

[1] السرخسي: المبسوط 12/ 27 دار المعرفه – بيروت، وابن قدامه: المغني 6/ 3. نشره دار القاهره.

[2] السهيلي: الروض الانف في شرح السيره النبويه 6/ 47. دار احياء التراث العربي – بيروت، 1412هـ.

[3] عكرمه سعيد صبري: الوقف الإسلامي بين النظريه والتطبيق ص80 - 87. دار النفائس، الطبعه الاولي - الاردن، 1428هـ.

[4] رحله ابن جبير ص232، 233. دار ومكتبه الهلال – بيروت.

[5] الطبيب العام. انظر: ابن القيم: زاد المعاد 4/ 130.

[11] المصابون بالمراره وامراض الكبد. المعجم الوسيط 2/ 862.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل