المحتوى الرئيسى

«نفتخر بكم» | المصري اليوم

02/22 02:02

استاذنك، قارئي العزيز، في التوقف قليلاً عن تسلسل مقالاتنا لنستعيد معاً ما يتعرض له المِصريون في تاريخهم بين الماضي والحاضر. فكما حدث في مِصر، علي سبيل المثال، في عصر الطاغيتين «نيرون» و«دقلديانوس» اللذين وقف ازاءهما المِصريون اشداء صامدين، وانتهي هذان الطاغيتان وامثالهما، وسُطرت صفحات التاريخ بسيره هؤلاء الشهداء السابقين والحاليين، هكذا قبل ايام، احتفل المِصريون باستشهاد 21 من ابناء وطنهم بيد الارهاب في ليبيا، ليُعِيد الي الاذهان ما عانَوه، وليشد من ازرهم، وليكتُبوا تاريخاً جديداً.

معني كلمه «شهيد».. الكلمة العربيه «شهيد» مشتقه من الفعل الثلاثي «شهِد»، وفي الاصل اللُّغوي، كانت دلاله علي الشخص الذي لديه معلومات عن حدث شهِده فقدم هذه المعلومات وشهد بها، وفي هذا المعني يقال «استُشهد» اي طُلبت شهادته فيما عاينه. وفعل «استشهد» يحمل ايضاً معني اشتقاقياً فقهياً هو «سُئل الشهاده» او «طُلب للشهاده»، والشهاده تعني الشهاده للايمان الذي يدين به. امّا المعني الاصطلاحي له، فهو يشير الي الانسان الذي يُقتل في سبيل الله. وايضاً استشهد في سبيل كذا: ان بذل حياته تلبيهً لغايه كذا.

في المسيحيه.. اُطلقت الكلمه اولاً علي تلاميذ السيد المسيح والرسل الذين جالوا في الارض مبشرين، ففي سفر اعمال الرسل: «... وتكونون لي شهودًا في اورُشليم وفي كل اليهوديه والسامره والي اقصي الارض». ثم اُطلقت علي الذين احتملوا الشدائد بسبب الايمان قُتلوا او لم يُقتلوا. واخيرًا اصبحت الكلمه تصف الذين قبِلوا ان يقدِّموا حياتهم من اجل ايمانهم.

لماذا الموت؟.. يسعي الانسان دائماً للحياه، ويسعي فزِعاً للهروب من الموت. الا ان ما يشُد الانتباه في الشهداء المَسيحيِّين، انهم يلاقون الموت كانهم علي موعد طالما انتظروه! فهم يتقدمون اليه بشجاعه وايمان ووداعه وفرح ما يُذهل معذبيهم ومضطهديهم. وهذا ادعي الي التساؤل: لماذا يُقبلون علي الموت بهدوء واحتمال وصبر؟ لماذا لا يرتعبون في ملاقاه الموت مثل كثيرين؟ اذ لابد من ان تكون لهم الافكار والدوافع التي تجعلهم يفعلون هذا.

العالم والابديه.. لقد ادرك الشهداء ان الحياه في هذا العالم وقتيه وقصيره جدًا في مقابل الحياه بعد الموت، يقول يعقوب الرسول: «انتم الذين لا تعرفون امر الغد! لانه ما هي حياتكم؟ انها بخار، يظهر قليلًا ثم يضمحل»، فعاشوا حياتهم غرباء مؤمنين بانهم سيعودون يومًا الي وطنهم السمائي، وان امور هذا العالم الي زوال. وحين انتهت رحلتهم، عادوا الي وطنهم فرحين. وهنا دائمًا تتردد في عقلي وفكري كلمات البابا «شنوده الثالث»: «تذكَّر دائمًا انك غريب علي الارض، وانك عائد الي وطنك السماوي».

التعب والراحه.. لقد ادرك الشهداء ان الحياه علي الارض هي حياه تعب، لا تحمل في طِياتها راحه حقيقيه. الا انهم سعَوا فيها بكل جد واجتهاد وامانه لانها هبه الله لهم. فهم يُدركون تعب هذه الحياه، ولكنهم يؤدون رسالتهم في الحياه علي افضل وجه ممكن. وحينما يوضعون امام الموت، لا يهابونه لانهم يُدركون ان الراحه الحقيقيه والحياه الفُضلي هما في السماء.

حياه الشهداء.. حين نتعمق في حياه الشهداء، نجد انها حياه امتلات بكثير من الفضائل، وجاء الاستشهاد ليكلل هذه الحياه المباركه النقيه الممتلئه بتلك الفضائل، التي منها:

لقد اثبت الشهداء شجاعتهم في ملاقاه الموت، فلم يخافوا اجتيازه، متذكرين كلمات السيد المسيح: «ولكن اقول لكم يا احبائي: لا تخافوا من الذين يقتُلون الجسد، وبعد ذلك ليس لهم ما يفعلون اكثر. بل اُريكم ممن تخافون: خافوا من الذي بعدما يقتُل، له سلطان ان يُلقي في جَهنم. نعم، اقول لكم: من هذا خافوا!».

قدَّم الشهداء مشاهد رائعهً لاحتمالهم الالام والاتعاب بدرجه ابهرت حتي اعدائهم، فهم لم يتحدثوا عن احتمال الالام بل كانوا هم انفسهم نماذج له. وقد تعجب الوُلاه والحكام من تلك القدره الفائقه علي الاحتمال التي امتلكها الجميع: شيوخًا، ورجالًا ونساءً، واطفالًا.

استمرت اضطهادات الشهداء والامهم في بعض الاحيان علي مدي سنوات، يحاول فيها الطغاه اضعاف عزيمتهم واستنفاد صبرهم. لٰكنّ الايام كانت تشدهم وتجذبهم نحو وطنهم السمائي الذي يشتهون العوده اليه. بل لقد نفِد صبر الحكام امام صبر الشهداء، فكانوا عندما يتعبون من ثبات احد الشهداء، يُرسلونه الي حاكم اخر ليعذبه، وامّا هم فكانوا يملكون صبرًا فولاذيًا لا يَلين ولا ينتهي، وقوه لا تخور.

ان حياه الوداعه هي جزء لا يتجزا من حياه الانسان المَسيحي. وقد قدَّم الشهداء مشاهد عظيمه لتلك الوداعه، فلم نجدهم يتمردون او يُثيرون الشغب، او يقاتلون من يقتلونهم، بل كانوا يحملون في قلبهم وداعه فائقه. وتُعد «الكتيبه الطِّيبيه» التي استُشهد افرادها جميعًا مثالًا لذلك، فقد كتبوا رساله الي الامبراطور الروماني يقولون فيها: «ايها القيصر العظيم، اننا جنودك، لكن في الوقت نفسه عبيد الله... لسنا ثوارًا، فالاسلحه لدينا، وبها نستطيع ان ندافع عن انفسنا ونعصاك، لكننا نفضل ان نموت ابرياء، علي ان نعيش ملوَّثين. ونحن علي اتم الاستعداد ان نتحمل كل ما تصبه علينا من انواع التعذيب، لاننا مَسيحيون، ونُعلن مَسيحيتنا جهارًا...».

امّا عن المحبه، فقد كانت لالئ تضيء في حياه الشهداء. فقدموا محبه الي الجميع، وبخاصه اعداؤهم، تفوق التصور متمِّمين قول السيد المسيح: «... احبوا اعداءكم. باركوا لاعنيكم. احسنوا الي مبغضيكم، وصلوا لاجل الذين يُسيئون اليكم ويطردونكم...».

عاش الشهداء في حياتهم متمتعين بالسلام الذي يهبه الله لهم طوالها، وقابلوا الموت بهذا السلام العظيم الذي يحتار فيه العالم! فسلام الله الموهوب منه لا يستطيع احد ان ينتزِعه منهم. وهنا تبرُق امام عيني كلمات البابا «كيرلس السادس»: «لا يوجد شيء تحت السماء يقدر ان يكدرني او يزعجني لاني مُحتَمٍ في ذلك الحصن الحصين داخل الملجا الامين، مطمئن في احضان المراحم، حائز علي ينبوع من التعزيه». انه مشهد لحياه الشهداء، فقد عاشوا ممتلئين سلامًا، ورحلوا يظللهم السلام الذي لا ينتزعه السيف.

لقد استشهد 21 من ابنائنا في ليبيا، وقد راينا صورًا وفيلمًا عنهم قبل استشهادهم، وقدمت د. «مشيره حنفي» خبيره علم الباراسيكولوچي تفسيرًا فقالت: «بالنظر الي وجوه الشهداء، يتضح انهم جميعـًا يتمتعون بدرجه عاليه من الايمان والرضا بالمقسوم، والدليل علي ذلك انهم في اثناء جلوسهم علي الارض، وحاله الصمت الشديد التي سيطرت عليهم، كانوا يصلون ويدعون الله، وكانوا يتمتعون بالصمود الشديد والسكينه النفسيه». وتُفسر: «عندما تتحد الروح الذاتيه، يصل الشخص الي اعلي درجات الايمان، وما جعلهم يصلون الي ذلك انهم كانوا مُغمَضي العيون، وهذا دليل علي انهم شاهدوا مكانه افضل من الدنيا ما جعلهم في حاله استسلام».

وعبر التاريخ، كانت نهايات المضطهِدين نهايات سيئه وماتوا اشر ميته، اذ ان الله العادل لا ينسي حق كل من ظلم، ومن امثله هؤلاء: «نيرون» الذي اُبعد عن السلطه وهو مايزال شابًا ثم اختفي ولم يُعثر له علي جثه او قبر، و«دومتيان» الذي قُتل في قصره بيد اعدائه، وقرر مجلس الشيوخ الروماني محو اسمه، و«ديكيوس» الذي سقط في يد اعدائه وذُبح هو وابنه وكثير من جيشه، و«اُوريليان» الذي ذبحه اصدقاؤه المقربون اليه، و«دقلديانوس» الذي اعتزل الحكم ومرِِض بشده حتي قيل انه انهي حياته بيديه. ان الله ضابط الكل يتاني لكنه لا ينسي، هو يُمهل ولا يُهمل، ويسلِّم ولكن ليس الي الانقضاء.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل