المحتوى الرئيسى

حماة، المدينة السورية التي اشترت أمنها بمال تجارها

02/21 13:34

تاخرّ الحمويون في اللحاق بركب الثوره. خافوا ان تكرّر الاحداث تجربه الماضي. ولكن ارجل شبابهم ساقتهم الي اول تظاهره كبيره في ساحة العاصي اواخر مارس 2011، ليعود الكبار ويعملوا علي تحييد المدينه.

في المرابط، شارع اسواق الخضر واللحم والسمك، تختلط رائحه المجارير برائحه الشواء ويمتزج الضجيج بصافرات كشاشي الحمام. الشارع هو منطقه الوصل بين شارع 8 أذار من جهه، والطريق المؤديه الي ساحه العاصي الشهيره من جههٍ اخري.

اعتادت منطقه المرابط، عندما بدا حراك المدينه ضد النظام السوري، ان تكون نقطه تجمّع وانطلاق للتظاهرات. يخرج رجلٌ اتفّق علي مهمته مسبقاً، يراقب حركه الامن، يوعز باشارهٍ سريّه الي اصحاب المحالّ التجاريه ببدء الاغلاق، ينتظر ساعهً معيّنه، ثمّ يصيح "الله اكبر" باعلي صوته، ليبدا المتظاهرون بالتوجّه الي ساحه العاصي، مركز المدينه الرئيسي، وليعرف من لا يرغب في التظاهر، انّ عليه التوجّه بعكس تيار الحشود، نحو الكاراج. وهؤلاء يكونون غالباً من اهالي الريف، كالطلاب والموظفين وغيرهم، وعليهم ان يهربوا الي الباصات قبل ان تغلق المدينة إبوابها، ويبدا الرصاص.

منذ ان نحّت حماه، كمدينه لا كريف، نفسها بشكل مباشر عمّا يحدث في سوريا، في اواخر عام 2013، عادت منطقه المرابط الي شكلها السابق تقريباً. الاعمال جميعها تجري علي قدمٍ وساق، حركه السوق، البيع والشراء، بالاضافه الي حركه طلاب كليّه الاداب القديمه الواقعه في وسط المنطقه، والتي لم تنقطع يوماً، انّما اضمحلت، والان عادت الي سابق عهدها.

كل شيءٍ عاد كما كان، انّما مع فروق ليست ببسيطه: سواتر رمليه علي مفرق شارع  8 اذار، تحت البنايه التي يشغلها الجيش السوري، والتي يعتلي سطوحها من كل جههٍ قنّاص، وحاجز للامن العسكري علي مفرق الطريق المقابل. تطويق امني كامل للحي. الكتابات الممحوه علي الحيطان، علي طول الطريق في شارع 8 اذار، والتي تكاد تعجز عن قراءه بقاياها، تدلّك علي ان حركه احتجاجٍ ما، في يومٍ ما، قد مرّت من هنا. تقرا: "يسقط بائع الجولان"، "ماهر عميل الامريكان"، "رامي الحرامي" وسواها.

تاخرّ الحمويون في ثورتهم الجديده، تريثّوا قبل ان يخرجوا الي الشوارع، حاولوا فهم ما يجري قبل ان يتورطوا في ما سبق لهم ان تورطوا فيه. كاد يُجمع الاهالي تقريباً علي انّ من ذاق الفاجعه يوماً، سيفعل كل شيء كي لا تحل به مره اخري. الا انهم وبعد شهرين تقريباً من بدء الحراك في درعا ودمشق وبانياس واللاذقيه وحمص، ساقتهم ارجلهم وحدها الي اول تظاهره كبيره في ساحه العاصي في اواخر مارس 2011.

يروي ابو عماد، الرجل الخمسيني، صاحب محل الالبسه في شارع ابن رشد، المعروف بكونه سوقاً للالبسه والاحذيه، انّه كان في بدايه شبابه في الاعوام الماسويه الثلاثه التي مرت علي المدينه، بين عامي 1979 و1982. ويقول انّه شهد الكثير: الاجتماعات السريّه لتنظيم الاخوان المسلمين، ومحاولات تجييش الشباب، وادخالهم في الجماعه، وحملات التبشير الهائله التي كانت تجتاح المدينه، وحلقات التعليم الديني وتحفيظ القران التي كانت تُنظم يومياً في بيوت احد "الاخوه"، وتغيّر المظهر الخارجي للشباب كاطلاقهم لحاهم، والعلاقات الغريبه المنظمه التي تشكّلت بين الحلقات، والتنظيم الشديد الذي ينمّ عن عقد النيه علي القيام بتحرك ما.

راحت الحركه تتسع، بالتنسيق مع "الاخوه" في حلب بشكل رئيسي، وبعض المناطق السوريه الاخري بشكل اقل، وبدات سلسله من الاغتيالات الفرديه لشخصيات مهمّه في السلطه، او لشخصيات معروفه متهمه بتعاملها بشكل او باخر مع النظام.

ابو عماد الذي شهد الامر كما هو، وشهد ايضاً نتائجه الكارثيه علي المدينه في ما بعد، من تدمير بعض احياء المدينه باكملها، مروراً بموجات الاعتقالات الهائله، الي المجازر الجماعيه، يقول: "عندما بدات الثوره في درعا، كنت علي وشك ربط ابنائي المتحمسين علي مقاعدهم. كنت مستعداً لقتلهم انا، قبل ان اراهم يشاركون في موتهم وموت المدينه الجديد".

ردينه (67 سنه) زوجهٌ لمقاتل سابق مع جماعه الاخوان المسلمين، مفقودٌ منذ فبراير 1982. لا جثّه، ولا اسم مع المعتقلين، ولا حتّي ذكر لاي اثر له. وامٌّ لشابّ معتقل لدي النظام السوري منذ ابريل 2012، حين تمّ اخذه من البيت، في احدي حملات الاعتقال التي شهدها الحيّ، بتهمه التعامل مع الجماعات الارهابيه المسلحّه. تسكن ردينه في حاره يطلق عليها ابناء حماه اسم "حي الارامل" نسبه الي العدد الهائل من النساء اللواتي فقدن ازواجهنّ في الثمانينيات من القرن الماضي، وهي احدي حارات منطقه "الحاضر"، المنطقه الاكثر تديّناً، والتي كانت البيئه الحاضنه للاخوان، والتي تحمّلت المسؤوليه بشكل رئيسي عمّا حدث في حماه سابقاً، وما زالت تدفع الثمن حتّي الان.

تقول ردينه: "المرّه الاخيره التي رايت فيها زوجي، كانت قبل ان ينطلق لتنفيذ احدي عمليّات الاغتيال. اخبرني انّ الله يريدهم ان يفعلوا ذلك، وانّه الحلّ الوحيد لرفع الظلم الواقع علينا. كان صوت المدافع اعلي من ان اسمعه جيّداً، وكنا قد فررنا الي بيت اصدقائنا في حيّ الجراجمه، ذي الاغلبيه المسيحيه. اوصاني ان انتبه الي الاولاد. لو عرفَ انّه السبب في خروج ابنه للانتقام، لو عرف انّه السبب في اختفاء ابنه بعد ثلاثين عاماً عن امّه وزوجته واولاده، لما فعل كلّ ما فعله، انا علي ثقهٍ في ذلك".

في 3 يونيو 2011، شهدت المدينه ما عرف بـ"جمعه اطفال الحريه"، الجمعه التي اختلفت شبكات الاخبار علي عدد المتظاهرين فيها، وبالتالي علي عدد ضحايا المجزره، الا انّها كانت نقطه تحوّل مهمه في مسار الاحداث في حماه. دخلت بعدها المدينه في اضراب كامل دام خمسين يوماً حتّي دخول الجيش في اغسطس واعاده فرضه سيطرته الكامله عليها. منذ ذاك الوقت، شهدت المدينه اعمالاً قتاليه متفرقّه وبفترات متباعده. بعض الانفجارات، بعض المحاولات المسلحّه من الكتائب المعارضه لدخول المدينه من حيّ طريق حلب شمالاً، الّا انّها كانت تبوء بالفشل وفي وقت قصير. فهناك الان في حماه، شبه اجماعٍ علي الانعزال.

قرر الحمويّون بشكلٍ غير معلن، وبالتشاور بين "كبار" المدينه من تجّار مهمّين وابناء العائلات، ان تغيّر شكل الثمن الذي تدفعه. فقام "كبار" المدينه، التي تتميز بطابع ريفي وبسلطه الرجال الكبار علي ابنائهم، بالاجتماع مع الكتائب المسلحه في ريف المدينه واقناعهم بان تدفع حماه المال اذا ابقوها بعيدهً عن القتال. صفقهٌ واضحه جداً: يدفع الحمويون للمقاتلين، ويبقون الاشتباكات بعيده عنهم. اكّد ذلك تاجر كبير من عائله الكيلاني، التي نالت جزءاً كبيراً من العقاب الحموي سابقاً، والذي يقطن في تركيا الان، ويتابع بعض اعماله العالقه في حماه، ويدفع كغيره من اصحاب رؤوس الاموال لبعض الكتائب التي ما زال الحمويون يثقون بها.

يخطئ من يعتقد انّ الحمويين تصالحوا فعلاً مع النظام. الامر ليس كذلك. العلاقه المتوتره القديمه، والحقد القديم الذي يستمر الحمويون في المعاناه من نتائجه حتي اليوم، يجعلان المصالحه تبدو مستحيله. يتاقلم اهل المدينه مع الوجود العسكري والامني الكثيف في كل الاحياء، بصعوبه. يحاولون الّا يزعجوا الجنود لانهم يعرفون النتائج مسبقاً، كما حصل مع احمد، طالب السنه الرابعه في كليه الاداب، والذي قضي شهراً كاملاً تحت التعذيب لانّه نظر الي عسكريّ، علي الحاجز المعروف بتسلطه في "نزله الدباغه" واعتقد الاخير انه يتحدّاه.

يحاول الحمويون ايضاً التاقلم مع التضخم السكاني الهائل الذي حدث في المدينه بعد النزوح الشديد من مدن الداخل كحمص وحلب وحتي الرقه اليها. تتزايد حالات الفقر الشديد، ومظاهر التسوّل والاطفال المنكوبين في الشوارع، وتستضيف الجوامع ما يفوق استيعابها من النازحين والمتسولين. في المقابل، انتقل بعض الاعمال التجاريه من حلب ودمشق اليها، وانتقلت بعض المعامل ايضاً. فبرغم تضخّم عدد المقيمين الهائل، هناك صفقات ضخمه تتم واموال وفيره تضخّ في المدينه.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل