المحتوى الرئيسى

الأسطورة.. محاولة في فهم النبوة والقرآن

02/17 17:19

ليس من السهل ايجاد حد للاساطير او تفسير شامل لها ولو في مجلد ضخم، فضلا عن ان نقوم بهذا في هذه العجاله. فتركيب هذه الظاهره جعل مدخلا واحدا غير واف في استياعبها. فهناك من اهتم بوظائفها الاجتماعيه، وهناك من اهتم بكونها طريقه قبل علميه لتفسير العالم، وهناك من ركز عليها من حيث هي حكايه سرديه، فضلا عن الاهتمام الكبير بها من قبل علم النفس الفردي والجماعي وتشابهها مع الاحلام في رسمها حالات عصاب "فرويد" او نماذج بدئيه "يونج" الي اخر هذه المداخل المتعدده، المتكامله ايضا.

لذا فما سنحاوله هنا مع تعذر استيفاء كل هذه المداخل هو محاوله الاقتراب من الاسطوره بالشكل الذي يخدم موضوع هذا المقال، وهو فكرتي خلف الله عن وجود اساطير في القران وعن تاثر القصص بنفسيه النبي محمد والذين ابتدانا بنقاشهما في المقال السابق؛ وما يحتمه هذا من بحث لفكره علاقه الاسطوره بالتاريخ، ووظيفه الاسطوره في الدين، والفهم النفسي لها، وعلاقه الاسطوره بالرمز، وتعامل الاديان التوحيديه مع الاسطوره.

وربما توفر لنا دراسات مرسيا الياد مؤرخ الاديان الكبير للاسطوره مدخلا جيدا لموضوعنا، بسبب استفادته الجمه من عدد كبير من المداخل مثل علم نفس الاعماق وتاريخ الاديان في تحليل الاسطوره ورموزها من جهه، ومن جهه اخري لتنبهه للفارق بين الاديان التوحيديه والاديان قبلها في التعامل مع الاسطوره، مما يجعله شديد المناسبه كمدخل لموضوعنا هنا.

"للعيش في العالم، يجب تاسيسه"(1)

هذه هي كلمه الياد الشهيره التي ربما تلخص كل نظرته نحو اهميه البعد الديني عند الانسان حيث توقه الي المقدس توق جذري غير قابل للالغاء او للاختزال، "لا يمكن تخيل الوعي البشري يعمل دون ان تكون لديه قناعه بوجود شيء (حقيقي) في العالم، ودون ان يضفي (معني) علي دوافعه و تجاربه"(2)، وكل توق الي "الحقيقه" و"المعني" هو توق الي المقدس؛ وهذا ما يعنيه الدين.

وهذا التوق يدفع الانسان المتدين لتاسيس العالم الذي نحياه واعاده خلقه عن طريق كسر عاديه ازمنته وامكنته برفع بعضها فوق مرتبه العادي لتتقدس، واضفاء المعاني علي كل فعل بشري برده الي اصل تم في زمن بدئي خارج الازمنه الثلاثه. هذه الافعال والاحداث التي تمت في زمن بدئي وارتبطت او تفرعت عن حدث خلق للكون -وتاسيس العالم هو تكرار له- هي الاسطوره كما يعرفها الياد.. فالاسطوره والدين صنوان، والدين حد انساني لا يمكن تجاوزه، فحتي اكثر العوالم تجردا من القداسه لم تخل من تاسيس ديني وفقا لالياد..

واذا قارنا نظره الياد هذه بالتعريف الذي اورده عجينه في محاولته ايجاد تعريف شامل للاسطوره في كتابه "موسوعه اساطير العرب.. عن الجاهليه ودلالتها" حيث اورد تعريف الفرنسي بول ريكور من دائره المعارف: "الاسطوره حكايه تقليديه تروي وقائع حدثت في بدايه الزمان وتهدف الي تاسيس اعمال البشر الطقوسيه حاضرا، وبصفه عامه الي تاسيس جميع اشكال الفعل والفكر التي بواسطتها يحدد الانسان موقعه من العالم. فالاسطوره تثبت الاعمال الطقوسيه ذات الدلاله و تخبرنا عندما يتلاشي بعدها التفسيري بما لها من مغزي استكشافي، وتتجلي من خلال وظيفتها الرمزيه، اي في مالها من قدره علي الكشف عن صله الانسان بمقدساته"(3).

سنلاحظ كون تعريف ريكور كتعريف الياد يشي بان الاسطوره لم يعد ينظر لها كتفسير للعالم، بل كتاسيس له، وهو ما يعني ان تطور العلم لا يعني بحال انهيار الاسطوره، حيث لا يتنافسان بالاساس، وحيث لا يحل العلم معضله الهدف والمعني والحقيقي.

والتدين عنده وليد ازمات وجوديه قاسيه وضعت وجود الانسان والعالم موضع سؤال، ولا تزال محصلتها قائمه في اللاشعور - فضلا عن ان هذه الازمات تتكرر وتكرر معها محصلتها. والتدين لا يقدم فقط حلا لهذه الازمات بل يفتح طريق الامل امام الانسان لصنع قيم ليست ممكنه بعد، مجيزه للانسان تجاوز اوضاعه الخاصه، في اخر المطاف الوصول الي عالم الروح(4).

والرمز الديني وفقا لالياد هو رمز خاص حيث يتعلق بمعاني القداسه والقابليه للتكرار والاستعاده الدوريه، ومزيه الثبات المعطاه عنده للرمز الديني تجعله اشبه بالتوصل لـ"نماذج مثاليه سائده"، تصلح للتطبيق علي كل الثقافات(5).

وكما يركز الياد علي قابليه الرمز الديني للتكرار وقابليه الاسطوره للتحيين -استعاده مشاركه الانسان الالهه في خلق الكون حيث اساطير النشاه قبل التوحيديه هي كونيه، او استعاده لحظات خلق الانسان والعهد مع الله في التوحيديه، كخلق ادم والنزول من الجنه وابتلاء ابراهيم- يركز السواح علي ما تتعرض له الاسطوره من فقد لهذه السمات -الحركه والاستعاده الحيه- حين تتحول لعقيده جامده. هذا التحويل الذي صارت به الاساطير الي حاله ثابته تؤتمن عليها مؤسسه دينيه تعمل علي صيانتها من التفسير المنفتح، فتتحول لقناعات ذهنيه سطحيه تتنزل من اعلي -تقرا حرفيا او تؤوّل مجازيا لكنها لا تحين ولا تقرا رمزيا- والي جمله طقوس فقدت فحواها ودورها ومعناها -مع الوقت تصبح اطار لضبط المجتمع- مما يجعل الافراد يحاولون صنع اساطيرهم و احياءها اغناء لبعد روحي مفقود علي اطراف المؤسسه الامينه علي الدين(6).

وهذا التجميد للاسطوره الحيه المتحركه التي هي تجربه اتصال مع المقدس هو اول طريق التخلص من الاسطوره. فبعد تفريغها من هذه السمات تصبح محض تخييل، مما يسهل نفيها انطلاقا من كونها غير حقيقيه تاريخيا او عقليا او عقديا، وهذا تم بالفعل مع ثلاث لحظات مفصليه كبري في تاريخ البشريه هي ظهور الفلسفه اليونانيه، وكذلك نشاه الاديان التوحيديه، ثم ظهور الحداثه.

فهذه اللحظات الثلاث حاولت بناء ذاتها بالاساس علي التخلص من الاسطوره، هذا رغم تاسيس نفسها اسطوريا!

فالفلسفه اليونانيه التي نشات وفقا لفرنان علي انقاض الكهنوت المسيني، وظلت الاسطوره حاضره في تاسيس اعتي واعمق واكمل لحظات تبلورها مع افلاطون في محاوره تيماوس الشهيره؛ فانها ورغم هذا ما فتئت تدين الاسطوره وتنفي الميثوس باسم اللوغوس والتاريخ.

كذلك الاديان التوحيديه، التي ربما صلتها بالاسطوره اكثر وضوحا؛ حيث الدين اكثر اعتمادا علي الرموز التي تصلح كموضع عيني لموضوع الايمان "الهم الاقصي"، فضلا عن سرديه بنيته في مقابل تجريديه الفلسفه؛ الا ان الاديان التوحيديه حاكمت الاسطوره، بشكل واضح مع المسيحيه والاسلام، هذه المره من فوق ارضيه الكلمه المقدسه التي تملك قوه نفي نهائيه لكل ما هو خارج سرديتها، لذا تم تحكيم "الكلمه" في امر صحه اساطير ما ونفي اخري، فانقسم العالم الاسطوري معها الي حقائق واساطير، والاساطير اساطير الاخرين فقط كما يقال؛ هذا طبعا بعد تجميد الاساطير المقبوله وتحويلها لعقائد ثابته مما افقد رموزها قدرتها الاسكشافيه المحركه لعلاقه الاتصال وقابليتها للالغاء المستمر تجاه موضوع الهم الاقصي غير القابل للاقنمه(7).

اما مع الحداثه، ورغم اعتماد قطبيها ديكارت وبيكون علي الاساطير في تمرير قيم الحداثه، حيث اعتمد ديكارت في تصويره معيار البداهه المميز لليقين من الضلال والخطا علي صراع الله والشيطان، كما اعتمد بيكون علي اساطير يونانيه كثيره منها اسطوره "بان" واعاد تفسيرها بحيث يخلصها من حمولتها القروسطيه ويشحنها بقيم العوده للطبيعه، فضلا عن اعاده تفسيره قصه جنه عدن واعتبار السقوط هو الحرمان من زمن التواصل البسيط مع الطبيعه - رغم هذا كله، فقد كان تنامي العلم نجيب الحداثه، والمؤسس علي فكر ديكارت وبيكون، سببا في بلوره نظريات حول الاسطوره تراها طريقه تفسير عفا عليها الزمن اشهرها نظريه كونت في مراحل تطور البشريه الثلاثه.

وهي النظره التي ذكرنا في بدايه حديثنا انها بحصرها وظيفه الاسطوره في تفسير الكون، تتجاهل اهم ما في الاسطوره من سمات الحركيه، والقابليه للتحين، وتاسيس العالم، واستكشاف عالم الايمان.

حصار الاسطوره في خطاب النهضه:

واذا كانت هذه اللحظات الثلاثه ضربت حصارها علي الاسطوره تباعا، فاننا لا نعدم تاثيرها مجتمعه علي مقاربه خطاب النهضه للقران. ونستطيع تبين هذا مع رائد مدرسه المنار، حيث في لحظه واحده اجتمعت الرؤيه الاعتزاليه التي تنفي الاسطوره باسم العقل، كذلك الرؤيه الرشديه كبيره الاخلاص للمعقوليه اليونانيه والتي تؤوّل القران اذا خالف العقل، بالاضافه لمحاوله التوفيق بين الدين والعلم الحديث وما تتطلبه من نفي للاسطوره باسم التجربه العلميه. لذا فرغم فكره خلف الله وريث المنار عن اسطوريه جانب من القصص القرآني الا انه لم يستطع بسبب هذا الحصار للاسطوره ان يكتشف ما يمكن ان تقدمه هذه الاسطوريه -لو نظر اليها دون هذه الادانات للاسطوره- من قدره علي ابراز الجانب الروحاني المتوتر في القران، والمرور عبره لتجربه النبي محمد، الذي اراد خلف الله كشف بعضا من جوانب نفسيته عبر القصص.

في تناوله للقص القراني قسم خلف الله هذا القصص لقصص تمثيليي، وقصص تاريخي، وقصص اسطوري. وكما قلنا في المقال السابق فان القصص التمثيلي لا يهمنا كثيرا، حيث لم يات فيه خلف الله بجديد، وحيث الاقرار بوجود قصص تمثيلي في القران امر لا يعرف كبير خلاف. اما المهم لموضوعنا فهو القصص الاسطوري، و خلف الله يفرق بين القصص الاسطوري والقصص التاريخي علي اساس ان الاخير يدور حول اشخاص تاريخيين. بالطبع خلف الله لا يعتبر الاحداث المحكيه قرانيا عن الرسل صحيحه تاريخيا، بل كما قلنا يري فيها تاثرا بنفسيه النبي محمد اثناء دعوته؛ لذلك فانه يبدو من الغريب ان يفرق خلف الله بين هذه القصص والقصص الاسطوريه علي اساس الصحه التاريخيه، حيث في النهايه المحكيات غير ثابته تاريخيا في النوعين.

وظننا ان هذا التفريق لم يفعل سوي انه اضعف فعاليه فكره خلف الله عن علاقه القصص بنفسيه النبي. اضعف فعاليتها بحركه مزدوجه نشات من هذا التقسيم لاسطوري وتاريخي، فمن جهه تم ابعاد صفه الاسطوريه عن قصص الانبياء نفسها، رغم ان هذا غير لازم حتي مع اقرار وجود نواه تاريخيه لهذا القصص، فالاسطوره لا تعني الاختلاق الكامل بالضروره وحيث اهميه الاسطوره ووظائفها لا تستلزم احقيه المضمون التاريخي لها كما ذكرنا سالفا؛ ومن جهه اخري تم حصر تشابه هذا القصص مع قصه النبي محمد في قضايا الصراع مع قومه وشعوره بهذه المشاعر النفس-خارجيه مثل الالم والامل.

ولا نستطيع ان نجزم ايهما اثر في الاخر، فهل حصر الاطار النفسي للنبي في الالم والامل وطلب الاطمئنان والمواساه هو الذي جعل خلف الله يقصر فكرته عن "التاثير او المراعاه" علي القصص التاريخي الخاص بالانبياء مع نفي اسطوريتها؛ ام ان سيطره فكره كون الاسطوره ما ليس الا اختلاق عار من الصحه التاريخيه وعدم التنبه لوظائفها الرمزيه هو الذي جعل خلف الله يقصر اهتمامه علي تلك المشاعر القليله التي وفرتها له بالطبع قصص نوح وهود التي تحكي صراعا خارجيا وتسكت عن صراع داخلي اكبر؟

نميل للقول ان لا تاثر ولا تاثير هنا، وانما هما كما قلنا حركه مزدوجه نشات من تموضع فكره خلف الله عن القصص ونفسيه النبي داخل اطار الاتصال كوحي او تنزيل عمودي. فهذه الفكره، اي الوحي العمودي، مرتبطه من جهه بتقنيه المجاز الذي يوصل الحقيقه قدر الاستطاعه للافهام، "والخيال انما يسود هذا القصص لحاجه البشر اليه وجريهم في بلاغتهم عليه، والله سبحانه وتعالي انما يحدثهم من هذا بما يعتادون"(8). فالمجاز مرتبط باراده المتكلم في التقريب -اي ان القرب ليس اصليا- للمخاطب عن طريق ضرب الامثله، ومن جهه اخري، ولان هذا الاطار للاتصال كوحي عمودي  يجعل طريق الاتصال ممهد عبر "زيارات جبريل"(9) بلا مشاعر جذريه كالقلق والشك -والمقصود الشك الاصلي الذي لا يسكن بنزول الوحي- فانه ينفي او يتجاهل المشاعر النفس-داخليه، فلا يجد ما يهتم به سوي تلك المشاعر الواضحه فوق مسرح الاحداث الواقعي فحسب الناتجه عن صراع النبي مع قومه.

وفي كلمه واحده، هذه الرؤيه لخلف الله تجاه القصص كانت تنفي الاسطوره من حيث هي قصه تحيين ورمز يتجلي، ومن حيث هي تعبير عن دراما مسرح ما قبل تموضع القران بشريا التي تكشفها.

لهذا فحتي القصص المفترض انها تعبر عن تجربه الاتصال ذاتها وعن المشاعر النفس-داخليه، استحالت مع خلف الله لقصص تحكي مشاعر خارجيه ايضا. فمثلا قصه ذهاب يونس في البحر ظنا ان لن يقدر الله عليه، التي تحكي عن عمق تجربه الاتصال ذاتها وتكشفها؛ هذه القصه اعتبرها خلف الله تعبيرا عن مشاعر ضيق النبي بالرساله جراء الدعوه ايضا، وغاب ما تحكيه من مشاعر مرتبطه بتجربه الاتصال نفسها لا نعدم وجودها في تجارب الاتصال الكبري فيما يسميه تيليش الهرب من الله..

والخروج من اطار النفس-الخارجيه للنبي نحو النفس-الداخليه، تماما كالخروج من التشبيه الذي يقتل ابعاد القصه الاسطوريه حين يحولها لتمثيل غرضه تكريس عقيده ما، نحو الاسطوره والرمز الاكثر قدره علي التعبير عن عمق تجربه الاتصال التي تعتمل داخل نفس النبي. فكلاهما يتطلب اطارا اخر ينتظم داخله لوصف الاتصال مع الله بصوره تجربه حيه تتجاوز اطار الاتصال كوحي عمودي.

وهذه الصله بين النفس-الداخليه والاسطوره وتجارب الاتصال ليست جديده، فعلم النفس بانفتاحه علي عالم الاعماق شديد الارتباط بعالم الاسطوره وبالدين. فمنذ فرويد، تمّ الاهتمام بالاساطير والرموز التي تتضمنها وعلاقتها بالاحلام، واللاوعي، وعلاقه كل هذا بالدين. واذا كان فرويد قد تعرض لهذا كله من حيث هو دلائل مرض وعصاب جماعي او فردي، فان الامر شهد توسعا كبيرا بعد هذا، فمع يونج لم يعد ينظر للاوعي كمحض مخزن للعقد المكبوته والنوازع المرضيه، ولا للدين كجنون؛ فضلا عن توسيع معني الجنون نفسه مع فروم حيث اصبح قدرا مرتبطا بوضعنا الوجودي ينقذنا منه جنون اخر هو الدين.

هذا التعامل المختلف مع اللاوعي ومع الدين نشات عنه قراءه اخري للاساطير؛ فتوصل يونج بتحليلها وبتحليل رموزها المتجليه في الاحلام ان ثمه نماذج بدئيه جامعه لكل البشر تتجلي في اساطيرهم وفي احلامهم -يذكرنا هذا بالياد المتاثر كثيرا بيونج-.

فصّل في الامر فروم حيث اعتبر ان وجود نماذج بدئيه لا يمنع من كون كل ثقافه قد تحتوي علي نسق خاص من الرموز، فضلا عن تشكيلات فرديه لها. وتحولت الاحلام والاساطير بهذا للغه منسيه كما هو عنوان كتاب فروم. واصبحت تخييلات تعبر عن استحاله مواجهه المستحيل كما يقول فتحي بن سلامه.

هذه اللغه الرمزيه تختلف عن اللغه العاديه، حيث " الرمز كما يري البعض شديد الثبات، ولا يشبه دوال اللغه في اعتباطيتها، هذا ما يعطيه كونيته او ثباته داخل ثقافه ما".

نستطيع القول ان ثباتها يجعل لهذه اللغه شبه معجم، وظيفته: التعبير عن ما لا تستطيع التشبيهات الوفاء به. ليس فقط لثبات الرموز بل لكونها تقوم بوظيفه حركه وكشف، وتناسب التعبير عن الدراما النفسيه اكثر من المجاز الاكثر عقلانيه مما يجعلها مناسبه للحقائق الثابته؛ فضلا عن الفارق الرئيس والاساسي بين المجاز والرمز: وهو ان الرمز يرتبط دوما بمنزع انساني حدي، ولا يوجد ربما اكثر حديه من تجلي المقدس.

واذا كان عجينه يعتبر ان قصص الانبياء، او ما يصنفها خلف الله كقصص تاريخي، هي قصص اسطوريه بحق، حيث الزمن البدئي غير الملوث، وحيث الدعوه الي التوحيد، وتدخل الله في الكون ودحر الكافرين؛ فاننا نستطيع التساؤل: الا يمكن ان تكون هذه القصص الاسطوريه قد مثلت رموزا تستطيع وحدها التعبير عن تلك المواجد التي يعانيها شخص يتصل بالله، اي ان هذا القصص الاسطوري وما يتضمنه من رموز مثّل البيئه لتعبير النبي محمد عن ما يمر به في اتصاله بالله و كان كاشفا لهذا الاتصال في نفس الوقت؟

من هنا فحسب يمكن استخدام هذا القصص للبحث عن نفسيه النبي؛ فنستطيع من خلال توسيع البحث في القصص وعدم حصر الاهتمام بتلك الخاصه، بسير الدعوه افقيا كما فعل خلف الله، وانما في تلك التي تحكي تجربه الاتصال ذاتها، ان نتوصل لفهم اعمق للدراما التي يحياها ضمير النبي في اتصاله بالله. تصبح نفسيه النبي هنا شيئا اوسع كثيرا من مشاعر الالم والخوف والضيق، محور اهتمام خلف الله، لتشمل الشك الدائم والجذري، الرغبه في الله والرهبه منه، تصدع النفس بهزه اللقاء والتجلي، الخوف والغبطه، وكل هذه المواجد التي يستشعرها ويحياها كل متصل بالله.

فلا يمكن لفكره خلف الله ان تثمر الا فوق تربه اطار اخر للعلاقه مع الله، وفي ضوء فهم اخر للاسطوره. حينها فقط تساعدنا الفكره علي الانتقال من التفكير في القران للتفكير في النبوه ذاتها، وتنقلنا من الاهتمام بتامل حروف القران -او معانيه- نتاج الصله بالله، الي الاهتمام بالصله ذاتها.

(1) مرسيا الياد، المقدس و العادي، ترجمه عادل العوا، دار التنوير، ص60.

(2) مرسيا الياد، البحث عن التاريخ والمعني في الدين، ترجمه سعيد المولي، المنظمه العربيه للترجمه، ص39.

(3) محمد عجينه، موسوعه اساطير العرب عن الجاهليه ودلالتها، ص72.

(4) مرسيا الياد، مرجع سبق ذكره، ص235.

(5) بسام الجمل، من الرمز الي الرمز الديني، ص125.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل