المحتوى الرئيسى

مقالةٌ في التَنَاقُض؛ رضوانُ السيِّد والحركة الإسلاميَّة

02/17 16:48

مؤخرًا عقد معهدُ البحوثِ العربيه بالقاهره، وهو مؤسَّسه تابعه لجامعة الدول العربية، مُحاضره للدكتور. رضوان السيِّد، وكانت بُعنوان: النصُّ التراثي السياسي. وكانت المُحاضره في جوهرها استمرارًا للمسار الذي ابان عنه الدكتور رضوان السيِّد اكثر من مره خلال مُحاضراتِه الاخيره، وهو المسار الذي تهدُفُ هذه المقاله الي فكِّ التباساتِه، والكشف عن تناقضاتِه.

بشكلٍ عام يُمارِسُ الدكتور رضوان السيِّد لُعبهً نظريِّه تكرَّرت في اكثرِ مُحَاضَرَاتِه التي شَاهدتُهَا مؤخرًا، بالذات تلك التي يُلقيها في ندوات ومؤتمرات مركز "مؤمنون بلا حدود".

تنقسِمُ اللعبه الي عده اقسام ساحاول الابانه عنها في نقطتين مُحدَّدَتين:

اولاً: يبدا الدكتور رضوان السيِّد، مُستغِلاً خبرته الطويله والحقيقيَّه بالتراث الإسلامي، في بناء سرديه تاريخيه عن العلاقه بين "الدين" و"الدوله" في التاريخ الاسلامي ابتداءً من عهد النبوَّه، فالخلافه الراشده الي اخرِ عهدِ الخلافه بسقوطِ اخر مُمَثِّليها؛ الخلافه العثمانيه في مارس 1924.

وخلال عمليه بناءه لتلك السرديه يؤكِّدُ علي امتلاكِ الاسلام، بشكلٍ عام، منظومه معرفيَّه واخلاقيَّه مُستقلِّه انتجت تاريخيًا ما يُسميِّهِ التقليد السني الذي، لاسبابٍ كثيره، فشِل في الاستمرار مع دخول العصر الحديث واَفَلْ. وداخل عمليه بناءِ هذه السرديه يُعرِّجُ علي مواقف بعض دارسي التراث من المُفكرين العلمانيين العرب كمُحمَّد عابِد الجابري ومحمد اركون، فيحمِلُ حملاً شديدًا علي مواقفهم من التقليد السُنِّي الذي يتفق معهم  في مبدا افولِه، لكنه يُخالِفُهم في مساله القاء تبعه افولِه علي الدين نفسه الذي يملِكُ منظومه معرفيه واخلاقيه مستقله تُتيح انتاج تقليد سُني جديد يُناسِبُ العصر  ويُسهِمُ في انتاجِ "دوله دستوريه ديمقراطيه حديثه" علي حدِّ تعبيره. ويُخالفُهُم ايضًا في بعض جزئياتِ الموقف من الحركات الاسلاميَّه المُعاصِره التي يُسمِّيها الاحيائِيات او الصحويَّات او الاصوليات الجديده وسنُفَصِّلُ ذلك في حينه.

يخلُصُ الدكتور رضوان السيِّد في نهايه بناءه هذه السرديه الي نتيجه مفادُها انَّ التقليد السني انتهي الي ضروره فصل الدين عن الدوله لانَّ الاصل في الدينِ ان يكون في المجتمع وبين الناس للدعوه والعباده وتنظيم المُعاملاتِ المدنيه.. الخ بقدرٍ اكبر من وجوده في سلطه الدوله، ذلك انَّ بناء سلطه الدوله علي اساسٍ ديني سيجعل منها "ديكتاتوريه مقدسه". كما انَّ استقرار التقليد السُني علي هذه النتيجه جاءت لانَّه اقرَّ ، خلافًا للتقليدِ الشيعي، انَّ الامامهَ ليست رُكنًا من اركانِ الدين.

ثانيًا: في الموقفِ من الصحويات الاسلاميَّه/ الحركه الاسلاميَّه، اوالاصوليات المُعاصِره كما يُسمِّيها؛ يري الدكتور رضوان السيِّد انَّ هذه الحركات في جُملَتِها تتحرَّكُ في اطارِ قطيعهٍ تاريخيهٍ مع التقليد السُنِّي الذي اشار اليه سابقًا، وانَّ استِنادها اليه هو استنادٌ تبريري لا اكثر لشرعنه خياراتها النظريه والحركيه في الواقع المُعاصِر، وانَّها حمَّلت الاسلام ما يفوق طاقته من السعي وراء الحُكمِ والدوله، وظنَّت انَّ الوصول اليها وتطبيق الشريعه عن طريقها جوهر الدين. وهذا امرٌ  يُخالِفُ الاسلام بشكلٍ عام وتقليده السُني بشكلٍ خاص حيث لم يكتسبِ السعي للوصول الي السلطه هذا القدرَ من الاهميِّهِ طوال تاريخ الاسلام السُني قبل العصر الحديث. ويخلُصُ الدكتور رضوان في نهايهِ تحرير موقفِهِ من الحركه الاسلاميَّه المُعاصِره، بجميعِ اطيافِها، انها "فجَّرت الدين من داخله"، وهذا نصُّ تعبيره. ويري الدكتور رضوان انَّ هذه "الصحويات" لمَّا وضعت "سؤال الدوله" مره اخري كسؤال محوري في بناءها النظري ورؤيتها الحركيه، فقد اعادت انتاج اشكاليه الخوارج التي كان التقليد السني قد لفظها من البدايه حين ردَّ عليٌّ كرَّم الله وجهه علي مقوله مُناظِرِيهِ الخوارج في الكوفه: "انِ الحكم الا لله" بقوله: كلمهٌ حق يُرادُ بها باطل. وبالتالي اعادت "سؤال الدوله" الي "بطن الدين" مره اخري بعد ان كان الاسلامُ، مُمثَّلاً في تقليدِه السني، قد لفظه.

 ولا يُفرِّقُ الدكتور رضوان في هذا بين اخوانِ البنَّا او اخوان سيِّد قطب الذي حمَّله ارثًا كاملاً من اخطاءِ تاويلاتِ من ارتدوا عباءته. والسلفيه الاحيائيه علي طريقه الشيخين رشيد رضا ومُحبِّ الدين الخطيب، ثم السلفيه النجديه التي اسَّسَت الدوله السعوديه الثالثه مع الملك عبد العزيز ال سعود، والسلفيه المُعاصره المؤسَّسَه علي يدِ الشيخ الالباني رحمه الله، وقطعًا السلفيه الجهاديه، بكل فروعِها، وصولاً الي تنظيم الدوله الاسلاميَّه (داعش).

اما عن خلافه مع المُفكرين العلمانيين العرب، في مساله الموقف من الحركهِ الاسلاميَّه المُعاصِره، فهو منحصِرٌ في جزئيه القاءِ تبِعَهِ "الخرابِ" الذي جرَّته هذه "الصحويات المُعاصِره" علي الاسلامِ والتقليد السُني التاريخي نفسه، حيث يؤسِّسُ خلافه معهم علي قاعده انَّ كل هذه التيَّارات حديثه/حداثيه جدًا في جوهرِها، وتتحرَّكُ في اطارِ قطيعهٍ تاريخيهٍ واضحهٍ مع التقليد السُني التاريخي.

هنا نكون قد انتهينا من تحرير موقف الدكتور رضوان السيِّد، وقد حاولنا قدر الامكان الاستعانه بعباراته التي سمعناها منه وارجو الا نكون قد اغفلن شيئًا يُحوِّر معنيً اساسيًا في كلامه.

الان سنُحاول اظهار ما نظنُّهُ تناقضات واضحه في وجهاتِ نظر الدكتور رضوان السيِّدِ بخصوصِ تلك القضايا الاشكاليه التي اثارها.

من المشاكل التي يقعُ فيها كثير من المثقفين الاسلاميين التقليديين، وكثيرٌ من نُظراؤهم الحركيين ايضًا، وكثيرٌ من نُقَّادهم كذلك؛ انَّهم يتعاملون مع المصطلحات والمفاهيم ككيانات نظريه مُجرَّدَهٍ في العقل، لا كتجارب تاريخيه كامله ومعاجم حضاريه انتجت هذه المصطلحات والمفاهيم حتي وصلتنا بشكلِهَا الحالي. وبالتالي فانَّ دراسه هذه السياقات التاريخيه واجبٌ اساسي لتفكيكِها وفهمها، قبل انْ نُقرِّر هل تتوافق/ لا تتوافق، يمكن استخدامُها/ لا يمكن استخدامُها. يمكن تحوير دلالتها او جزء منها / لا يمكن تحوير دلالاتها او جزء منها. يمكن ايجاد بدائل لها/لا يمكن ايجادُ بدائل لها. وقد نَتَجَ هذا ايضًا –بدرجهٍ كبيره- عن غياب المُمارسه العمليه التي تحدُثُ في التاريخ وتُغلِّبُ خياراتٍ علي خيارات، وتصل النظريه بالواقع فتُنضِجُها، والواقع بالنظريه فتفسِّرُه وتضفي المعني علي الحركه فيه . فالبطاله العمليه وغياب الممارسه يُسهِمان في انتاج هذا الوضع بشكلٍ واضح. ونحن نذهبُ الي انَّ هذا بالضبط هو ما وقع فيه الدكتور رضوان السيِّد. وبيان ذلك ما يلي.

يري الدكتور رضوان السيِّد، كما اسلفنا، انَّ التقليد السُني التاريخي انتهي الي ضروره فصل الدين عن الدوله حفظًا للدين والدوله، او كما قال. وانَّ "الصحويَّاتِ الاسلاميَّه" المُعاصِره قد قطعت مع هذا التقليد حين اعادت سؤال الدوله الي الواجهه مره اخري. ونحن لن نُناقِش النتيجه التي خلُصَ اليها الدكتور رضوان في خاتمه مُحاضرته، ولكن سنلقي ببعض ظلال الشكِّ علي المُقدِّمات التي بني عليها الدكتور رضوان السيِّد نتائجه ونرصد مدي اتصال او انفصال العلاقه بين هذه المُقدِّماتِ وتلك النتائج.

بخصوص "الدين" و"الدوله"، لا يمكن انكار اتفاقِنا مع الدكتور رضوان السيِّد انَّ مساله السلطه والوصول اليها كسبيلٍ اوحد لنشرِ الدعوه لم تكن مساله مركزيه طيله تاريخ اهل السنه والجماعه، علي عكسِ الشيعه. ذلك انَّ سُبُلَ نشر الدعوه والتعليم والقيام بامرِ  المسلمين لم يكُن مُتعلِّقًا بـ"الدوله" بشكلٍ رئيسي[1]، ولم تكُن الدوله في ذلك الوقت تملِكُ من ادواتِ التدُّخِلِ في شئون رعيِّتها ما يسمح لها بمُرَاقَبَهِ كل تلك الانشطه. تفتحُ لنا هذه البدايه الباب لمُناقَشَهِ طبيعه الدوله المركزيه الحديثه من جانبين. اولاً: مدي توافُقِهَا او تعارُضِها مع المنظومه المعرفيه والاخلاقيه الاسلاميَّه الخاصه التي يقول الدكتور رضوان السيِّد بوجودِها ونوافقه علي ذلك قطعًا. وثانيًا: مدي اقترابها او ابتعادِها عن نموذج الدوله الاسلاميَّه التقليديه الذي انتَجَه التقليد السُني التاريخي في العصور الوسطي. وهنا تحديدًا نرصُدُ نقطه التناقض الاولي خطاب الدكتور رضوان السيِّد، وهي -باختصارٍ  غير مُخِّل- كالتالي:

لم تكُن دوله الخلافه او الدويلاتُ الاسلاميَّه في عصور الضعف والقوه، علي السواء، تمتلِكُ من ادواتِ السلطه ما يسمح لها بالتدَّخُلِ في شئون رعيَّتِهَا كما هو الحال في الدوله الحديثه.

هل لو طُرِح سؤالٌ في عصر المماليكِ مثلاً، وهو عصر انحدار، عن «السياسه الحيويه –  Biopolitics» كان سيُصبِحُ للسؤال معني او نجدُ له اجابه؟ [2]

السؤال الذي نطرحُهُ هنا بوضوح: اين تقعُ قدراتُ دوله الخلافه او دويلاتُ الاسلام في عصور عزِّهَا، او انهيارِهَا من هذا المعني للدوله ووظيفتها؟

الاجابه التي تطرحُ نفسها بوضوح كذلك انَّها بعيده جدًا عن كل هذا، وبالتالي فانَّ الامر لم يعُد مُتعلِّقًا بالفصل بين الدين والدوله ولا عن العلاقه بين الديمقراطيه والاسلام ولا كل هذه المسائل النظريه المُجرَّده، بل صار مُتعلِّقًا بتغيُّرِ معني وطبيعه ووظيفه الدوله نفسها.  لذا يبدو انَّ السؤال الصحيح هنا بخصوص العلاقه بين "الدين" و "الدوله" يجب ان يكون: هل اعادت "الصحويات الاسلاميَّه" سؤال الدوله الي مركز العمل الديني  قبل انْ تؤمِّمَ الدوله الدينِ كله وتستولي عليه ضمن ما استولت عليه من كل عناصر حياه المُجتمع الاسلامي التقليدي، ام بعده؟!

ما نخلُصُ اليه بوضوحٍ هنا انَّ محاوله بناء سرديه للعلاقه بين الحركات الاسلاميَّه المُعاصِره والدين بشكلٍ مُنفصلٍ عن علاقه الدوله المركزيه الوطنيه في التاريخِ العربي الاسلامي الحديثِ والمُعاصِر بالدين نفسه ستنتج -بالضروه- مُغالَطَاتٍ كبيره . وكذلك مُحاولات بناءٍ سرديه لعلاقه العداء بين الحركه الاسلاميَّه، عمومًا، والدوله مع تحميلِ مسئوليهِ هذا العداء -بشكلٍ شبه كامل- للحركات الاسلاميَّه يحوي من المغالطاتِ الشيئ الكثير ايضًا. ذلك انَّ الحركه الاسلاميَّه، بجميع اطيافِها، هامشٌ كُتِبَ علي متنِ الدوله الوطنيه في العالم العربى والاسلامي. ونحن في غني عن ذكر  مدي سواد مِداد العنف والقوه والغصب الذي كُتِبَ به هذا المتن. ولم يتعلَّم ابنائها –ابناءُ الحركه الاسلاميَّه- الا في مدارسِ الدوله، ومن خلال نُظُمها التعليميه التي وضعها الاستشراق/الاستعمار -غالبًا- وطبَّقتها النُخبُ الحاكمه او سارت علي نهجِها. ولم يعرِف ابناء الحركه الاسلاميَّه عن "الدوله" ومعناها وطبيعتِها ووظيفتها الا من مدارسِ الدوله الوطنيه نفسِها، وخرجوا الي العالم، اوائل القرن العشرين، وقد قطعت الدوله الوطنيه كل وشيجهٍ مع التقليد السني التاريخي في السياسه والاقتصادِ والاجتماع والعمران. فمن اعادَ سؤال الدوله الي المركزِ مره اخري لم يكن سوي ردِّ فعلٍ لمن وضع الدوله كلها في المركز، واستولي بها علي الدين والامه بعد انْ اعادَ جهاز المعرفه الاستشراقيه وذيوله تعريفهُما. فهذا ما يجب ان يُقال باشدِّ ما يكون الوضوح.  ليس الاسلاميون المُعاصِرون هم من قطعوا مع التقليد السني التاريخي، بل الدوله الوطنيه نفسُها.

ثانيًا: ماذا عن المُسلِمِ نفسه؟!

 تنبغي الاشاره هنا الي مساله نحسبُ انَّها مهمه جدًا وعادهً ما تضيع في غمره النقاشاتِ النظريه، وهو الانسانُ نفسه. اعني بذلك ما "الدين" وما "الدوله" في نفسِ المسلم الذي يجد نفسه في موقع السلطه، فيُحتِّمُ عليه ضميره اولاً انْ يُخضِعَ الثانيه للاول في تقرير اسُسِهِ وحمايتها. ما "الدين" وما "الدوله" في نفس عمر بن الخطَّابِ رضي الله عنه وهل عاني من هذه المشكله اصلاً؟ وما الدين وما الدوله في نفسِ سلطانٍ من سلاطين المماليك، او "خليفهٍ" عثماني يقتل اخوته "حفظًا لنظام السلطنه والعالم". وهل غُيِّبَ "الدينُ" عن "الدوله"، وافتقرت "الدوله" "للدين" الا بقدرِ ما افتقرت اليه نفوسِ الحُكَّامِ والرعيَّه؟. هذه المساله شديدهُ الاهميه في تقريرِ مساله العلاقه بين "الدين" و"الدوله"، اذ انَّ انكار التمايُزِ  الواقعي بينهُما عبث، لكن القول بوجوبِ انفصالِهما يعني القول بوجود قلبين او ضميرين للانسان وهذا ما انكره الشرع والواقع بوضوح.

اما المسالهُ الاخيرهُ في رصدِ وبيان مجموع تناقضات الدكتور رضوان السيِّد في محاضراتِهِ المذكوره، فهي حملته علي سيِّد قطب ومحاوله تحميله كل الكوارث التي تسبَّبَ فيها مرتدو عباءته ووضعهِ، دون دليلٍ واضح، في صوره من يسعون وراء السلطه لتطبيق الشريعه، رُغمَ انَّ في  كتاباته ادله ظاهره علي عكس ما ذهب اليه مؤوِّلوه ومرتدو عباءتِه ونُقَّادهم. وهو في هذه المساله تحديدًا، وبشكلٍ شديد الوضوح، اقربُ الي التقليد السني التاريخي كما وصَّفَهُ الدكتور رضوان السيد في البدايه.

في احايين كثيره اتمني عمل جردٍ سريع لكتابات سيد قطب الاخيره التي مات عليها ولم يتراجع عنها او يُعدِّل فيها باعتبارِ انَّ هذه هي رؤيته الاخيره قبل الرحيل والتي يمكن تقييمه علي اساسها، ومن ثمَّ البحث فيها عن مصطلح "الدوله الاسلاميَّه" والنظرِ في نسبه وروده فيها. ولا اُجاوِزُ الحقيقه حين اؤكِّدُ علي انعدامِ محوريه قضيه الدوله  في كتاباتِ سيِّد الاخيره. فضلاً عن ان نجد كلامًا علي تفصيلاتِ نُظُمِهَا السياسيه والتشريعيه والاقتصاديه.. الخ، كما فعل غيره من المُفكِّرين الاسلاميين المُعاصِرين. وهو بذلك –للمُفارقه- اقرب الي التقليد السني من وجهه نظر الدكتور رضوان السيِّد رغم وجوده في القرن العشرين.

علي العكس من ذلك تمامًا، نجدُ تجنُّبًا ونهيًا واضحًا عن الخوض في هذه المسائل لانه من الناحيه العمليه كان واضحًا جدًا غيابُ الرافعه الاجتماعيه لهذه الافكار، فضلاً عن انَّ هذه الافكار، بالنسبه لسيِّد كانت بنصِّ كلامِه: استنباتُ بذورٍ في الهواء. والاسلام كما فهمه سيد، وهو كذلك في اعتقادي، ليس مجموعه من النظريات لحل مشكلات الواقع، بل تصوُّرٌ كاملٌ للوجود يؤسِّسُ واقعه الخاص في نفس المؤمن اولاً ثم في سعيه داخل التاريخ ثانيًا. وهنا كذلك يبدو سيِّد اقربُ للتقليد السني الاسلامي في اصوله الاولي، كما نظن، وكما صوَّرَهُ الدكتور رضوان السيِّد، ويُجيب سيد بهذه الطريقه –ايضًا- عن سؤالِ بناءِ الانسان الذي يُغيَّبُ دومًا في النقاشات النظريه.

من ناحيهٍ اخري يُعرِّضُ باحث العلوم السياسيه او باحث التاريخ السياسي الاسلامي نفسه لمشكلهٍ نظريه وعمليه ضخمه حين يدرس سيد قطب مُتصوِّرًا وجود خط فكري ممتدٍ، بلا انقطاعاتٍ، بينه وبين ابي الاعلي المودودي؛ احد اكبر ممثلي الصحوه الاسلاميَّه في شبه الجزيره الهنديه. واهم من نظَّروا لفكره "الدوله الاسلاميَّه" في النصفِ الاولِ من القرنِ العشرين. وهذا مُخالِفٌ للحقيقه. صحيحٌ انَّ في ادبيات سيِّد الاخيره ما يتقاطع مع جزئيه اساسيه في علم السياسه وهي نظريه السياده؛ اي السؤالُ عن مصدر السياده في عالم المسلمين الذي تُكوِّنُ الدوله جزءًا منه وليس كله، بل هي مجرد اداه من ادواته، (هل يتقاطع سيِّد هنا ايضًا مع التقليدِ السُني كما يصوِّرُه الدكتور رضوان السيِّد؟). يُحاجِجُ سيِّد بانَّها من الله/الوحي، وهو تعالي وحده مصدر التشريع الاوحد، ويملك وحده تعالي حق التشريع بجانبيه، اي التشريع وتحديد استثناءاتِه. بعد ذلك مساحهٌ تفصيليه ضخمه جدًا لم يتعرَّض لها سيد فيما اعلم في كتاباته الاخيره قطَ  بغيه تثبيت هذا المعني الجليل في اذهان المسلمين الذين راي سيِّد، عن حق، انَّ هذا المعني قد غاب عنهم. (هل غاب عنهم هذا المعني نتيجه قطع الدوله الوطنيه مع التقليدِ السُني؟) بعد ذلك فانَّ سيد يري انَّ حركتهم في التاريخ مادامت منضبطه بهذا الضابط في انفسهم وانظمتهم فهي انظمه مسلمه مهما كانت تفصيلاتها العمليه. واحسبُ انَّ هذا كان من عبقريه تصوره الحركي؛ التخفُّفُ بدرجهٍ كبيره من عبء النظريه (في زمنٍ لم يكن فيه مثقفٌ يجرؤ علي ارتشاف كوبٍ من الشاي دون تنظيرٍ ثقيل) وتثبيت تصوُّرٍ واضح للوجودِ كله ودور الانسان فيه والحركه علي اسَاسِه في اطارِ معرفهٍ حقيقيه بالشرعِ والواقعِ والتاريخ.

اذن فالدكتور رضوان السيِّد يبدا محاضرته بتقرير اصول التقليد السُني في السياسه ومعني الدوله، ويقول بانفصالِهما، ثم يعودُ فيقيس موقف الحركه الاسلاميَّه المُعاصِره من الدين والدوله فيُلقي باللائمه عليها لاستعادتها سؤال الدوله الي المركز دون التعرُّضِ لمعني الدوله الذي تغيَّرَ تغيُّرًا شاملاً.

والدكتور رضوان السيِّد، كذلك، يقول انَّ الحركه الاسلاميَّه هي التي "فجَّرت الدين من داخله"، وينظر اليها كشيءٍ مُختلِفٍ عن التقليد السُني التاريخي (نتفق معه في هذا) لكنه يتجاهل انها اتت كردِّ فعلٍ علي احتكارِ الدوله الوطنيه للدين. وهو امرٌ شديد الجِدَّه كذلك علي التقليد السياسي السني كله.

والدكتور رضوان السيِّد يفصِل نظريًا بين الدين والدوله ككيانين نظريين مُجرَّدين، ثم هو يلوم الحركه الاسلاميَّه علي دمجِهما نظريًا، بينما الطرفان يتقابلانِ في مساحه تغييبِ سؤالِ الانسانِ المسلم تمامًا.

والدكتور رضوان السيَد يُحمِّلُ الحركه الاسلاميَّه اخطاء الدوله نفسها، في حين انَّ الحركه الاسلاميَّه لم تُتح لها ابدًا فرصه تطبيق افكارها، علي عكس الدوله التي عاشَت مائه او مائتي عام، وغنيٌ عن البيانِ ذكر اوجُهِ فشلِهَا العامِّ والتام.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل