المحتوى الرئيسى

ديناميات الغلو والتطرف

02/15 16:48

بعض اهم ما يشغلُ بال المصلحين، والمفكرين، والتربويين المسلمين اليوم، ظاهره الغلو والتطرف في الدين، التي استشرت في اوساط الكثيرين من الشباب المسلم في معظم البلدان الاسلاميه، ولئن كان دور النخب والانظمه الحاكمه في استيلاد هذا الغلو في انفس اولئك الشباب، في كثير من بلدان المسلمين ، جرَّاء سياساتٍ فاشله، امرا لا يمكن انكاره ، فان الدور الاشد خطراً يتمثل في ضعف ثقافه هذه الاجيال من الشباب، وضعف اطلاعهم -او فهمهم- مضامين الكثير من اي القرأن الكريم ، والكثير من مفردات السيرة النبوية علي صاحبها صلوات الله وسلامه.

اول ما اُطلقت عباره (الثورات تاكل بنيها) كان عقب الثوره الفرنسيه اواخر القرن الثامن عشر، فقد انقلب روبسبيير، احد اقوي زعماء الثوره الفرنسيه، علي الكثيرين من اتباعه من انصار الثوره فاعدم منهم المئات، ثم دارت الكاس عليه فاُعدِمَ مع جماعه من انصاره بذات الطريقه التي قتل بها من قتل –المقصله- ولم يتوقف القتل في فرنسا الا بانقلاب الضابط الفرنسي نابليون، الذي اعاد فرنسا الي حكمه الشمولي العسكري.

ولكن ظاهره "اكل الثورات بنيها" هي في الواقع اقدم من الثوره الفرنسيه بكثير، بل انها في الحقيقه ظاهرهٌ صاحبت وجود الانسان علي الارض، ولا غرابه فيها الا لمن لا يفهمون ديناميات عمل (الايديولوجيا) في النفس الانسانيه ، وقابليات ومحفزات "التطرف" لدي الانسان.

والتطرُّف ظاهرهٌ هي دائماً ما تصحب الافكار الجديده الواعده/المنقلبه علي افكارٍ قديمهٍ باليه، فتُبالغ في تقديس الجديد، كرد فعل انتقامي من القديم الذي كان مقدساً (فالثوره البلشفيَّه، مثلاً، قامت بالاساس لنزع القداسه عن المؤسسات الدينيه التي كانت اهم ركائز ورموز النظام الراسمالي، ثم انتهي بها المطاف الي اسباغ قداسه اكثر تطرفاً، علي رموز الثوره وشعاراتها وافكارها، الي حد المسارعه في اعدام كل من يتم مجرد الشك في ولائه لتلك الرموز وتلك الشعارات والافكار. فشهدت سيبيريا مصارع معظم قاده الثوره البلشفيَّه، علي ايدي زملاء لهم، لمجرد الاحساس بان ولاءهم للثوره لم يعد كاملاً !!).

الاسلام ، والقران العظيم ، مثَّل –علي مدي التاريخ– اعظم حاجزٍ في وجه التطرُّف، واصدق كاشف لاخطاره ، واحكم محذِّرٍ من الوقوع  في دركاته ، بل جعل التوسُّط شرطاً لازماً لكون المرء مسلماً وكون الامه امه مسلمه: (وكذلك جعلناكم امَّهً وسطاً لتكونوا شهداء علي الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) ورمزيه التوسط هنا، التي تتيح "الشهاده" علي الناس، هي رمزيَّهٌ تُفيد خصيصتين مكانيتين، هُما التوسُّط والعلو.. فالمعلوم، بالضروره، معمارياً، ان اعلي كل بناءٍ اوسطه، يصدق ذلك علي الهرم وعلي الجبل وعلي القصر وعلي القُبَّه وعلي كل بناءٍ ، فكون الامه وسطاً يفيد في الوقت ذاته كونها اعلي مقاماً، واقدر علي الرؤيه/الشهاده، علي ما حولها، ومادام الرسول صلي الله عليه وعلي اله وسلم اوسط هذه الامه، فهو بالضروره اعلاها، اعلي قمه هرم الامه الوسط، اي بالنتيجه، اعلي قمه هرم الوجود الانساني علي الارض، والاجدر بالشهاده علي الامه الشاهده ذاتها.

ولكن التوسُّط، برمزياته العديده في الخطاب القراني، هو توسُّطٌ باطلاق مدلول الكلمه وليس بنسبياتها، فهو توسُّطٌ مكاني، وزماني، وفكري، وسلوكي، واعتقادي، وشعائري، واجتماعي، واقتصادي. ولقد وردت مفرده "وسط" ومشتقاتها في كتاب الله العزيز في خمسه مواضع، بعدد الصلوات المكتوبه التي هي عماد دين هذه الامه التي اراد الله لها التوسُّط "واخرها ايه تخصيص الصلاه الوسطي بالمحافظه" في اربع من تلك المواضع  تفضيلٌ صريحٌ للتوسُّط.

وفي واحدهٍ تقريرٌ خبريُّ في اطار قسم المولي بالعاديات الموريات المغيرات ، يفيدُ تفضيلاً مضمراً غير صريح ، لتوسُّط الخيل العتاق اذ (وسطن به جمعا). ثم وردت قيمه التوسُّط بمعناها دون اللفظ في عديدٍ من ايات الكتاب، مثل قوله تعالي (ولا تجعل يدك مغلولهً الي عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسورا) فاستغرق المعني توسُّطاً اقتصادياً وسلوكياً، وجُعلت الحكمه وسطاً بين التفريط والافراط.

التوسُّط هذا، هُو بالاساس موقفٌ انسانيٌّ متسامحٌ مع طبائع الاشياء والخلائق، موقفٌ يُدينُ التطرُّف والغُلوّ، دون ان يتطرف او يغلو في مواجهه التطرف والغلو، حتي بازاء العدو المشرك المقاتل للمسلمين (وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) والتوسُّط، في مقام الفكر –وهو ما يشارُ اليه بالمصطلح الحديث بصفه "الموضوعيه"– هو ما انتج نهضه الحضاره الاسلاميه العظيمه التي شمل شعاعها الدنيا الماهوله كلها، ذلك ان الفكر المتطرِّف –مهما توسَّل بتعميم خطابه، كالاحاله الي مصلحه الامه ودين الامه وعقيده الامه الخ –هو فكرٌ ذاتيٌّ شحيح، عاجزٌ عن التجرد والرؤيه من خارج الذات، اي عاجزٌ عن فعل (الشهاده) الذي اوكله الله الي الامه الوسط، فالشهادهُ مسؤوليهٌ لا يقدر عليها اهل الغلو والتطرف، لانغماسهم في هواجس ذواتهم الضيقه، وافتقارهم الي القدره علي مخالفه املاءات (عين الرضا) او (عين السخط) التي  تحمل صاحبها اما الي تاليه المشهود له، او الي تكفيره، اذ لا وسط!! (والامثله الصارخه، نراها يومنا هذا، في عديد من اصقاع العالم الاسلامي، حيث القتال بين المسلمين والمسلمين اشرس بما لا يقارن، من قتال المسلمين غيرهم من الغزاه، يتقاتلون تحت راياتٍ "اسلاميه" وكلُّ طائفهٍ تُفتي بكُفر خصومها وارتدادهم وتستحلُّ دماءهم واموالهم ونساءهم!! في الصومال يجري هذا، وفي افغانستان، وفي العراق قتل المسلمون من المسلمين مئات اضعاف ما قتلوا من الغزاه الاميركان!!).

علي مستوي الموثُّق من مفردات السنّه النبويه الشريفه، العمليُّ منها علي وجه الخصوص، كان لهذا التوسُّط مقامٌ مشهود في سنته صلي الله عليه وسلم، برغم انهُ صاحب الرساله والاجدر من بين جميع العالمين بان (يتطرَّف) لها ويتعصَّب.

ولكن سلوكهُ بازاء "المنافقين" الذين كشف الله لهُ بعضهُم ، كان يتسم بموضوعيَّهٍ معجزه، ورفقٍ باهر، بل انّ نص وثيقه صلح الحديبيه التي املاها –صلي الله عليه وعلي اله وسلم– علي الامام علي ، يحملُ دلالهً علي سعه اُفقه الانساني وجلاء رؤيته للامور في اُطرها الموضوعيه، فقد افتتح الامام علي –كاتب الوثيقه- الرساله بالبسمله، كما تقتضي رساله الاسلام: (بسم الله الرحمن الرحيم) فاعترض نقيب المشركين قائلاً "لا ندري ما الرحمن وما الرحيم"، بل اكتب "باسمك اللهم" فامر، صلي الله عليه وسلم، علياً ان يكتبها كما اشاروا، ما دامت الصيغه تفي بمعني البسمله.

ثم لما اراد الامام علي ان يشير الي النبي – كطرف من اطراف الصلح– بصفته التي اسبغها الله تعالي عليه: "محمد رسول الله" اعترض المشركون قائلين (لو كنا نعلم انك رسول الله لما حاربناك)  فاقرَّ، صلي الله عليه وسلم، موضوعيه اعتراضهم، وامر علياً بان يمحو "محمد رسول الله " ليكتب بدلاً عنها "محمد بن عبد الله"!! حتي تكاملت وثيقه الصلح بين الطرفين، علي وجهٍ اعتبرهُ بعض اصحاب النبيِّ صلَّي الله عليه وسلم تنازلاً، حتَّي تساءلَ عُمرُ بنُ الخطَّاب –رضي الله عنهُ– ثائراً، يخاطب النبيّ عليه السلام (الست رسول الله حقَّاً ؟ السنا علي الحقِّ؟ فلمَ نعطيهم الدَّنيَّهَ في ديننا؟؟)، وكان من ثار من اصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم انما ينظرون الي المساله من وجهه نظر (احاديّه) لا تخلو من "تطرُّفٍ"، وكانوا بحاجهٍ قصوي الي هذا الدرس، الذي يجعلهم قادرين علي رؤيهٍ ارحب للامور، رؤيهٍ تعترف بانهم ليسوا وحدهُم في هذه الدنيا، وبان كونهُم علي الحق يرتِّبُ عليهم مسؤوليه هي ليست بالضروره (اباده) اهل الباطل، بل افساح مكانٍ لهم علي بساط الحق الذي يهنؤون به.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل