حواسيب وبرمجيات خارقة في خلايا أجسامنا

ليس في هذا العنوان مبالغه، ولكنه حقيقه علميه توصل اليها العلم الحديث، بما لا يدع مجالاً للشك، وهي حقيقه جعلت بيل غيتس ملك الحواسيب والبرمجيات في العالم، ومالك اكبر شركة برمجيات عالميه هي شركه "مايكروسوفت"، يقول في وصف الاحماض النوويه، وهي من مكونات الخلايا الحية: "ان الحمض النووي يشبه برنامجا حاسوبيا، ولكن تعقيده الشديد اكبر بكثير من اي برنامج كتبه البشر".

هل يعقل ان تكون هناك برامج حاسوبية في خلايانا الحيه؟ نحن نعلم ان البرمجيات لها لغات خاصه، وتنفيذها يحتاج الي وجود معلومات تقوم البرمجيات بمعالجتها لتحصل علي نتائج، فهل يحدث كل ذلك في خلايانا الحيه؟

نعم، واكثر من ذلك، ففي داخل خلايانا الحيه يحدث العجب العجاب، وما يقوله بيل غيتس غيض من فيض ونقطه في بحر، وحتي ناخذ فكره عن تلك البرمجيات المذهله التي تحدث عنها، علينا ان نعرف اين توجد الاحماض النوويه؟ وكيف تتموضع فيها هذه البرمجيات؟ وما هي الوظائف التي تقوم بها الاحماض؟ وما هي وظائف هذه البرمجيات؟

اكتشف العلماء -حتي الان- ان المعلومات والبرمجيات الموجوده في هذا الحمض النووي العجيب تقوم بوظيفتين اساسيتين:

الاولي هي تخزين صفات الكائن الحي الذي يحملها، فمثلا، ان لون عيني الانسان، وثخانه شعره، وسمك اظافره، وشكل انفه، ومناعه جسمه، واستعداده لبعض الامراض دون غيرها، ونبره صوته، وبصمه عينه (...) وكل ما يتعلق به من صفات مكتوب بدقه خارقه داخل هذا الحمض النووي العجيب، بواسطه رموز خاصه تشبه المعلومات والبرمجيات الحاسوبيه، ومن تلك الرموز يتكون ما يعرف بـ"الجينات الوراثيه".

والثانيه هي تخزين المعلومات اللازمه لتصنيع البروتينات، ثم تشغيل البرمجيات اللازمه لهذا التصنيع.

كيف يتم تخزين المعلومات الوراثيه ونقلها للاجيال اللاحقه؟ وما اهميه البروتينات لجسم الانسان؟ وما تركيبها؟ ولماذا تحتاج الي برمجيات ومعلومات لتصنيعها؟ وكيف ساهم اكتشاف وظائف الحمض النووي في انحسار نظريه دارون؟

هذا ما سنجيب عنه في سلسله من المقالات، نحاول من خلالها شرح هذه الامور بلغه مبسطه، بعيدا عن المصطلحات العلميه المعقده، بحيث يفهمها كل من يقرؤها حتي لو لم يكن من اهل الاختصاص.

الحمض النووي الذي يحتوي علي هذه البرمجيات الخارقه، والمعروف باسمه العلمي "دي ان اي" (DNA) هو جزيء غايه في الصغر موجود في نواه كل الخليه الحيه ولا يمكن رؤيته الا بالمجاهر الالكترونيه، التي تكبر بملايين المرات.

ويحتوي جسم الانسان علي عشره تريليونات من الخلايا، ويختلف حجم الخلايا حسب نوعها، ولكن معظم خلايا الجسم البشري يبلغ متوسط قطرها 10 ميكرونات، والميكرون هو جزء من الف من المليمتر، اي ان قطر الخليه هو جزء بالمائه من المليمتر، ولكل خليه نواه داخلها ويبلغ قطر النواه في المتوسط ما بين 5 ميكرونات و7 ميكرونات، وداخل هذه النواه يوجد 46 كروموسوما، والكروموسوم هو جسيم هام جدا ومعقد، ويحتوي كل كروموسوم علي جزيء حمض نووي (دي ان اي) بالاضافه الي بروتينات وجزيئات اخري.

الحمض النووي هو علي شكل ضفيره من سلسلتين متوازيتين ملتفتين، وحلقات كل سلسله هي وحدات متشابهه متراصه تسمي كل منها "نيوكلوتيد"، وهو مركب كيميائي يتالف بدوره من جزيء من السكر يسميه العلماء "السكر الريبوزي المنزوع الاوكسجين"، ومن هنا جاء مصطلح "دي ان اي".

ويرتبط جزيء السكر من احد طرفيه بجزيء فوسفاتي، معظم ذراته من الفوسفات، ومن الطرف الاخر بجزيء يسمي "قاعده نيتروجينيه" مكوناته ذرات من الهيدروجين والكربون، وحتي يتم تشكيل الضفيره والسلسلتين، يرتبط كل نيوكلوتيد طولياً بجاره في السلسله نفسها بواسطه الجزيء الفوسفاتي، في حين يرتبط بنيوكلوتيد المقابل له في السلسله الاخري من الضفيره بواسطه القاعده النيتروجينيه فتكون هذه القواعد بمثابه درجات سلم تصل كل رابطه بين نيوكلوتيد من السلسله الاولي ومثله من الثانيه، ثم تلتف السلسلتان لتشكلا الضفيره المذكوره.

ان جزيء السكر والجزيء الفوسفاتي متطابقان تماما في جميع النيوكلوتيدات، اما القاعده النيتروجينيه فهي التي تختلف، وتوجد هناك اربعه انواع مختلفه من القواعد النيتروجينيه، لها تراكيب كيميائيه مختلفه، واسماؤها العلميه الادينين ورمزه "اي" والثايمين ورمزه "تي" والجوانين ورمزه "جي" واخيرا السيتوزين ورمزه "سي".

ويبلغ عرض الضفيره 2  نانومتر (النانومتر هو جزء من بليون من المتر، وتبلغ ثخانه شعره الانسان في المتوسط 100 الف نانومتر)، بينما يقاس طول الضفيره بوحده خاصه، هي "كاي بي" وهي تعادل الف نيوكلوتيد اي الف وحده من الوحدات المكونه للسلسله.

فاذا علمنا ان المسافه بين كل وحدتين هي 0.34 نانومتر، وان طول الحمض النووي في خلايا البشر هو 200 الف كاي بي (اي مائتا مليون نيوكلوتيد) امكن لنا ان نحسب طوله وهو 67 الف نانومتر.

واذا كان طول الحمض النووي 67 ميكرونا، فكيف يكون متومضعاً في نواه الخليه، والخليه كلها قطرها 10 ميكرونات؟

الجواب ان الحمض النووي يلتف علي نفسه الاف المرات ويضغط نفسه ليصبح كتله صغيره يتم حشرها داخل الكروموسوم، وهذا ممكن اذا تذكرنا العرض المتناهي في الصفر لجزيء الحمض النووي.

 هذه الروابط الواصله بين سلسلتي ضفيره الحمض النووي مرتبه بدقه مذهله تماثل تماما ما يسميها المبرمجون "الشيفره المصدريه"

اين اذن تكمن تلك البرمجيات التي اذهلت بيل غيتس؟ فقد كان كل ما سبق وصفا لجزيئات كيميائيه، فاين البرمجيات؟

ويكمن الجواب في درجات السلم الواصله بين السلسلتين، اي في القواعد النيتروجينيه، فهذه الروابط كما اسلفنا لها اربعه انواع، وقد اكتشف علماء الكيمياء الجزيئيه والكيمياء الحيويه ان هذه الروابط الواصله بين سلسلتي ضفيره الحمض النووي مرتبه بدقه مذهله تماثل تماما ما يسميها المبرمجون "الشيفره المصدريه".

ان لدينا معلومات وبرامج حاسوبيه مكتوبه بابجديه مؤلفه من اربعه احرف او اربعه رموز، فكل رابط يمثل حرفاً في هذه الشيفره، فاذا كان كل حمض نووي يحتوي علي مائتي مليون رابط، وان الخليه تحتوي علي 46 جزيء "دي ان اي"، فمعني ذلك ان مجموع الروابط يزيد علي تسعه مليارات رابط في كل خليه، اي تسعه مليارات حرف من المعلومات والبرمجيات.