المحتوى الرئيسى

عن تحريم الحب والعشق في التراث العربي

02/12 20:32

التراث العربي الذي يرشح منه اروع شعر الغزل كان مليئاً باراء علماء دين يزدرون الحب ويصلون الي حدّ تحريمه. واذا كان قلب ابن الرومي لا يرتاح “سوي ان يُري الروحان يمتزجان”، فان ابن قيّم الجوزيه كان يري في العشق “مرضاً من الامراض”، وكان ابو حامد الغزالي يعتبره “غايه الجهل ومجاوزه في البهيميه لحد البهائم”.

اشهر من حرّم العشق في التراث العربي هم الفقهاء الحنبليون. فابن قيّم الجوزيه اعتبر انه يبعد العاشق عن الله. وفي كتابه “الطب النبوي”، قال: “وعشق الصور انما يبتلي به القلوب الفارغه من محبّه الله تعالي، المعرضه عنه، المتعوّضه بغيره عنه. فاذا امتلا القلب من محبه الله والشوق الي لقائه، دفع ذلك عنه مرض عشق الصور”. ويتطرق الي قول “بعض السلف” ان “العشق حركه قلب فارغ”، اي فارغ من كل شيء سوي معشوقه، مستشهداً بقول الله: “واصبح فؤاد ام موسي فارغاً، ان كانت لَتُبدي به”، اي فارغاً من كل شيء الا من موسي، لفرط محبتها له، وتعلّق قلبها به.

ويستفيض ابن قيّم في هذه المساله في كتابه “اغاثه اللهفان من مصايد الشيطان”. يقول: “ان عشق الصور المحرمه نوع تعبّد لها، بل هو من اعلي انواع التعبّد، ولا سيّما اذا استولي علي القلب وتمكن منه صار تتيماً، والتتيم التعبّد، فيصير العاشق عابداً لمعشوقه، وكثيراً ما يغلب حبّه وذكره والشوق اليه، والسعي في مرضاته، وايثار محابه علي حب الله وذكره، بل كثيراً ما يذهب ذلك من قلب العاشق بالكليه، ويصير متعلقاً بمعشوقه من الصور، كما هو مشاهد، فيصير المعشوق هو الهه من دون الله عز وجلّ… فيصير اثر عنده من ربّه: حباً وخضوعاً وذلاً وسمعاً وطاعهً”.

من هنا يعتبر ان “العشق والشرك متلازمان”، خاصه ان “القلب الصحيح”، برايه، “هو الذي همّه كله في الله، وحبه كله له، وقصده له، وبدنه له، واعماله له، ونومه له، ويقظته له، وحديثه والحديث عنه اشهي اليه من كل حديث”. بينما العشق يستعبد النفوس لغير خلّاقها ويلقي الحرب بينه وبين التوحيد.

ويقول ابن قيّم ان العاشق “يتحرك عند ذكر محبوبه منها دون غيره. ولهذا تجد محب النسوان والصبيان، ومحب قران الشيطان بالاصوات والالحان، لا يتحرك عند سماع العلم وشواهد الايمان ولا عند تلاوه القران”. ولان العشق يجعل العاشق يؤله محبوبه ويعظمه فيقدّم طاعته علي طاعه الله ورسوله، فانه يري ان في العشق “ما قد يكون اعظم ضرراً علي صاحبه من مجرد ركوب الفاحشه”.

يلتقي فقيه حنبلي اخر هو الحافظ ابن الجوزي مع اراء ابن قيّم بحسب كتابه “ذم الهوي”. ففيه يقول: “اعلم ان مطلق الهوي يدعو الي اللذه الحاضره من غير فكر في عاقبه، ويحث علي نيل الشهوات عاجلاً، وان كانت سبباً للالم والاذي (في العاجل) ومنع لذات من الاجل. فاما العاقل فانه ينهي نفسه عن لذه تعقب الماً، وشهوه تورث ندماً، وكفي بهذا القدر مدحاً للعقل وذماً للهوي”.

ولكن ذم العشق لا يقتصر علي الفقهاء الحنبليين. ففي كتابه الشهير “احياء علوم الدين”، يعتبر ابو حامد الغزالي، الذي يوصف بانه صوفيّ الطريقه، ان العشق “هو غايه الجهل بما وضع له الوقاع، وهو مجاوزه في البهيميه لحد البهائم لان المتعشق ليس يقنع باراقه شهوه الوقاع وهي اقبح الشهوات واجدرها ان يستحي منه حتي اعتقد ان الشهوه لا تنقضي الا من محل واحد، والبهيمه تقضي الشهوه اين اتفق فتكتفي به. وهذا لا يكتفي الا بشخص واحد معين حتي يزداد به ذلاً الي ذل وعبوديه الي عبوديه، وحتي يستسخر العقل لخدمه الشهوه وقد خلق ليكون مطاعاً لا ليكون خادماً للشهوه ومحتالاً لاجلها وما العشق الا سعه افراط الشهوه وهو مرض قلب فارغ لا هم له”.

ومن جانبه ينتقد الفقيه الكبير والقاضي الشافعي ابو الحسن الماوردي، في كتابه “ادب الدنيا والدين”، الهوي علي اعتبار انه يذهب بالعقل وانه “عن الخير صادّ، وللعقل مضادّ لانه ينتج من الاخلاق قبائحها، ويظهر من الافعال فضائحها، ويجعل سِتر المروءه مهتوكاً، ومدخل الشك مسلوكاً”. وفي مقارنته بين الهوي وبين الشهوه يعتبر الاول اسوا من الثانيه ويقول: “اما فرق ما بين الهوي والشهوه مع اجتماعهما في العله والمعلول، واتفاقهما في الدلاله والمدلول، فهو ان الهوي مختص بالاراء والاعتقادات والشهوه مختصه بنيل المستلذّات، فصارت الشهوه من نتائج الهوي، وهي اخصّ والهوي اصل، هو اعمّ”.

وفي الكتاب عينه، يذكر الماوردي بعض الاراء التي تزدري الحب. فقال الشعبي: “انما سمّي الهوي هويً لانه يهوي بصاحبه”. وقال اعرابيّ: “الهوي هوان، ولكن غُلظ باِسمه، فاخذه الشاعر وقال: “ان الهوان هو الهوي قلب اِسمه/ فاذا هويت فقد لقيت هوانا”. وقال الشاعر: “وما يردع النفس اللجوج عن الهوي/ من الناس الا حازم الراي كامله”. وقال بعض الشعراء: “اتجعل العقل اسير الهوي/ وانما العقل عليه امير”.

اما ابو علي القالي، فانه يعتبر في “كتاب الامالي” ان “الشغف: حُرمه يجدها الرجل مع لذّه في قلبه”. كما يقدّم عبد الله بن المقفع، في كتابه “الادب الكبير”، النصيحه التاليه: “اعلم ان من اوقع الامور في الدين، وانهكها للجسد، واتلفها للمال، واضرّها بالعقل، وازراها للمروءه، واسرعها في ذهاب الجلاله والوقار، الغرام بالنساء”.

“لما كان مرضاً من الامراض”، يقول ابن قيّم الجوزيه في كتابه “الطب النبوي”، فان العشق “كان قابلاً للعلاج”. هكذا نظر البعض الي العشق كمرض ينبغي البحث عن علاج له قبل ان تتفاقم حاله العاشق. ولكن كيف يُعالج العشق؟ علي سبيل المثال، ينقل ابن قيّم عن سنن ابن ماجه عن النبي انه قال: “لم نرَ للمتحابين مثل النكاح”. ولكن ماذا ان كان لا سبيل للعاشق الي وصال معشوقه. هنا يعتبر ان “من علاجه: اشعار نفسه الياس منه”. ولمساعده العاشق علي التداوي من محبوبه، ينصحه ابن قيّم بان “يتذكر قبائح المحبوب، ما يدعوه الي النفره عنه”.

ولكي يسهّل الامور بعض الشيء علي العاشق يدعو ابن قيّم، ولكن في كتابه “اغاثه اللهفان من مصايد الشيطان”، الي “المحبه النافعه”. والمحبه النافعه هي “محبه الزوجه وما ملكت يمين الرجل، فانها معينه علي ما شرع الله سبحانه من النكاح وملك اليمين، من اعفاف الرجل نفسه واهله، فلا تطمح نفسه الي سواها من الحرام” ولكن هنا عليه ايضاً ان يحترز من ان يشغله ذلك “عن محبه ما هو انفع له، من محبه الله ورسوله”.

اما ابو حامد الغزالي، في كتابه “احياء علوم الدين”، فانه ينصح بالاحتراز منذ البدايه، اي انه يفضّل الوقايه علي العلاج. فيقول: “انما يجب الاحتراز به من اوائله بترك معاوده النظر والفكر، والا فاذا استحكم عسر دفعه”، وعليه “فليكن الاحتياط في بدايات الامور فاما في اواخرها فلا تقبل العلاج الا بجهد جهيد يكاد يؤدي الي نزع الروح”.

الحب ليس محظوراً في الشريعه

ولكن مقابل هذه التحريمات للحب والعشق، ينقل التراث الينا اصواتاً اكثر رافه بالمحبين والعشاق. يروي الامام محمود بن عمر الزمخشري في كتابه “ربيع الابرار ونصوص الاخبار” عن يحيي بن معاذ الرازي، وهو من اعلام التصوّف السنّي، قوله: “لو امرني الله ان اقسم العذاب بين الخلق ما قسمت للعاشقين عذاباً”.

وكما في كلّ المسائل الاشكاليه في التراث نقع علي اشعار تَنسب فتاوي لبعض علماء الدين جزافاً. علي سبيل المثال، قال جامع بن مرخيه الكلابي، وهو من شعراء الحجاز: “سالت سعيد بن المسيب مفتي الـ/ مدينه هل في حب دهماء من وزر/ فقال سعيد بن المسيب انما/ نلام علي ما نستطيع من الامر”. وسعيد بن المسيّب المذكور هو من علماء الاسلام الاوائل. وهنا يروي الزمخشري في كتابه السابق ذكره ان سعيد قال: “والله ما سالني احد عن هذا، ولو سالني ما كنت اجيب الا به”. بينما يروي ابو الفرج الاصفهاني في كتابه “الاغاني” انّ سعيداً قال: “كذب والله. ما سالني ولا افتيته بما قال”.

ولكن من اهمّ ما كُتب عن الحب في التراث هو ما كتبه ابن حزم الاندلسي، احد اكبر علماء الاندلس وصاحب المؤلفات الفقهيه والفلسفيه الكثيره، في كتابه الشهير “طوق الحمامه في الالفه والالاف”، وهو كتاب كتبه لاحد الامراء. يقول ابن حزم ان الحب “اوّله هزل واخره جدّ، دقّت معانيه لجلالتها عن ان توصف، فلا تدرك حقيقتها الا بالمعاناه. وليس بمنكر في الديانه ولا بمحظور في الشريعه، اذ القلوب بيد الله عزّ وجلّ”. هذه هي خلاصه رايه، فهو يري ان “استحسان الحسن وتمكّن الحب طبعٌ لا يؤمر به ولا ينهي عنه، اذ القلوب بيد مقلّبها… واما المحبه فخِلقه، وانما يملك الانسان حركات جوارحه المكتسبه”.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل