المحتوى الرئيسى

عن أوهام أربعة عمرو حمزاوي

01/31 08:34

هي اوهام احاطت بالفكره الديمقراطيه في مصر منذ خمسينيات القرن العشرين وضربت عليها صنوفا من الحصار المعرفي والقيمي والفكري والسياسي علي نحو حال دون تجذرها المجتمعي، ومكن ــ بين عوامل اخري ــ السلطويه الحاكمه من البقاء طويلا ومن احتواء لحظات الطلب الشعبي علي الديمقراطيه ــ وهو دوما ما كان طلب وحراك بعض القطاعات الشعبيه المؤثره، وليس صياح الاغلبيات الساحقه ــ معرفا بالعدل وسيادة القانون وتداول السلطه والسلم الاهلي وضمانات الحقوق والحريات الشخصيه والمدنيه والاقتصاديه والاجتماعيه والسياسيه. وما لبثت الاوهام هذه تحكم حصارها حول الفكره الديمقراطيه في واقعنا الراهن، وتفتح ابواب مصر مشرعه امام التجديد المستمر لدماء السلطويه الحاكمه وسعيها الدائم لاخضاع المواطن والمجتمع والدوله لارادتها الانفراديه.

اما الوهم الاول فيرتبط بترويج منظومات الحكم / السلطه التي سيطرت علي مصر منذ 1952 ومعها بعض نخب اليسار التقليدي بفرعيه الماركسي والناصري (ومضاده اليسار الديمقراطي الذي تبلور فكريا وتنظيميا خلال العقود الماضيه) لكون بناء الديمقراطيه يمر اولا عبر تحقيق معدلات تنميه اقتصاديه واجتماعيه تتغلب علي ازمات التخلف والفقر والاميه والبطاله والفجوات الواسعه في معدلات دخول الافراد وتحسن من ظروف الناس المعيشيه ومن مستويات الخدمات التعليميه والصحيه وخدمات الرعايه المتاحه لهم، ثم يعقب الجهود والخطط التنمويه التي ليس لها من دون «الدوله ومشروعاتها العملاقه» من فاعلين قادرين علي الاضطلاع بها ويتبعها لاحقا التاسيس لسياده القانون وتداول السلطه وضمانات الحقوق والحريات وغير ذلك من اشكال «رفاهيه الاغنياء وميسوري الحال» التي لا تعني في شيء جموع الفقراء والاميين والعاطلين عن العمل ــ طبعا وفقا لاراده منظومات الحكم / السلطه ومقولات نخب اليسار التقليدي المشار اليها هنا.

وبعيدا عن ان الكثير من دراسات العلوم السياسية والابحاث الاقتصاديه تجرد الرؤيه «التعاقبيه» ــ البدايات التنمويه المتبوعه بتحول ديمقراطي ــ من الحجيه نظرا للعدد المحدود من المجتمعات والدول التي اقتربت من التماهي معها منذ خمسينيات القرن العشرين وللخصوصيه البالغه المرتبطه بها ــ كوريا الجنوبيه كمثال ــ وتصنفها من ثم باعتبارها وهما ذا جاذبيه للسلطويات الحاكمه، يتجاهل «التعاقب» ثلاثه حقائق هي: ان 1) تطور المجتمعات والدول يندر ان ياتي في خطوط مستقيمه لا تتداخل او في مراحل زمنيه قاطعه يمكن بصددها اعمال القواعد الهندسيه والحسابات المعمليه لتعريف البدايات والنهايات المنظمه وتحديد النقلات المتوقعه من خطط تنمويه الي تحول ديمقراطي، وان 2) اعتياد منظومات الحكم / السلطه والنخب المتحالفه معها علي اخضاع المواطن والمجتمع والدوله والامتناع عن التاسيس لسياده القانون وتداول السلطه وضمانات الحقوق والحريات يزج بها الي الربط العضوي بين وجودها وبقاء ارادتها الانفراديه وحمايه مصالحها وبين غياب الديمقراطيه ويرتب من ثم دفاعها المستميت عن السلطويه ومحاربتها الشرسه للحظات الطلب الشعبي علي الديمقراطيه ــ حتي حين تنجح الخطط التنمويه في التغلب علي ازمات التخلف والفقر والاميه والبطاله وتتحسن ظروف الناس المعيشيه، وهو ما لم يحدث في مصر علي نحو مستدام منذ خمسينيات القرن العشرين، وان 3) تواصل غياب الديمقراطيه ينزع عن مؤسسات واجهزه الدوله، وعن غيرها من المؤسسات العامه، وعن المؤسسات الخاصه، بل عن بعض تنظيمات المجتمع الوسيطه في المساحات الاهليه والمدنيه القدره علي اداره شئونها ومن ثم شئون المواطن بمعزل عن السلطويه الحاكمه التي تصبح بذلك الاطار المرجعي الوحيد للمجتمع وللدوله ويصبح التعاطي معها الخبره الوحيده جاهزه الاستدعاء فرديا وجماعيا.

ولا يختلف جذريا عن وهم «التعاقب» وهم اخر تشترك في الترويج له مصريا منذ خمسينيات القرن العشرين منظومات الحكم / السلطه، والنخب الاقتصاديه والماليه والاداريه (والاخيره تعود علي بيروقراطيه مؤسسات واجهزه الدوله وعلي قطاعات موظفي العموم ذوي التاثير) المتحالفه معها، وبعض نخب اليسار التقليدي، وعديد النخب المنتسبه لفظيا للمبادئ الليبراليه والمدعيه زيفا الالتزام بالفكره الديمقراطيه، والنخب الفكريه والثقافيه والاكاديميه والاعلاميه التي لا تعرف الا البحث عن الاستتباع من قبل الحكم / السلطه كملاذ للحمايه من القمع وللحصول علي بعض الامتيازات؛ وهم «لا صوت يعلو اليوم علي..»، وما يتاسس عليه من تبرير تاجيل بناء الديمقراطيه وارتهان سياده القانون وتداول السلطه وضمانات الحقوق والحريات لاهداف تصاغ كشعارات كبري وتربط منظومات الحكم / السلطه بينها وبين «المصلحه الوطنيه» و»الصالح العام» علي نحو احادي لا يحتمل الاضافه او التعديل، وتسير علي درب الحكام نخب التابعين.

منذ منتصف القرن العشرين والي اليوم، ومقولات «لا صوت يعلو» تتعاقب لتتجه بقيه مفرداتها لتحديد الاستقلال الوطني او التنميه وتاهيل الناس للممارسه الديمقراطيه او الاشتراكيه او تحرير فلسطين او مواجهه الصهيونيه والامبرياليه او معركه تحرير التراب الوطني او الرخاء الاقتصادي او الاستقرار او الحفاظ علي الدوله الوطنيه او الحرب علي الارهاب كصنو «المصلحه الوطنيه» واهداف «المرحله» غير القابله للاضافه او التعديل، ولاقصاء كل ما يتعلق باهداف او قيم او مبادئ اخري. منذ منتصف القرن العشرين والي اليوم، ومقولات «لا صوت يعلو» توظف لتبرير تاجيل الديمقراطيه، وللتعميم الزائف للنظره السلبيه لسياده القانون وتداول السلطه وضمانات الحقوق والحريات ــ في الحد الاقصي كمعوقات وقتيه تحول بين مصر وبين حمايه «مصلحتها الوطنيه» وكذلك بينها وبين تحقيق اهداف «المرحله» ومن ثم ينبغي تجاهلها، وفي الحد الادني كترف «لا تحتمله الاخطار والتهديدات والتحديات التي يتعرض لها الوطن» يتعين تاجيله واسكات الاصوات والمجموعات التي تطالب به، وعند الحدين تستبعد وعلي نحو شمولي الروابط الايجابيه بين سياده القانون وتداول السلطه وضمانات الحقوق والحريات وبين انجاز المجتمعات والدول لاستقلالها الوطني وللتنميه وللتقدم وللرخاء وللسلم الاهلي وذلك علي الرغم مما لهذه الروابط من دلائل ذات حجيه ومصداقيه تاتي بها تواريخ الكثير من الشعوب البعيده عنا وبعضها القريب منا.

ثم تستند منظومات الحكم / السلطه والنخب المتحالفه معها الي وهم «التعاقب» والوهم التاجيلي الذي تتضمنه مقولات «لا صوت يعلو» للترويج لوهم ثالث يحكم الحصار حول الفكره الديمقراطيه في الواقع المصري، ويمكن للسلطويه الحاكمه بفاعليه، ويضمن بقاءها؛ وهم الضروره الوطنيه. قبل صيف 2013 وبعده، وكتاباتي دائمه التحذير من المحتوي السلطوي لمقولات فعل الضروره متجسدا في تدخل المؤسسه العسكريه في السياسه في 3 يوليو 2013، ومرشح الضروره في الانتخابات الرئاسيه الذي جسده وزير الدفاع السابق المشير عبدالفتاح السيسي، ورئيس الضروره الذي صار اليه بعد اعلان نتائج الانتخابات الرئاسيه. والحقيقه ان المحتوي السلطوي لمقولات الضروره هذه ينبع من كونها في حدها الادني تبرر للخروج علي الديمقراطيه بادعاء انتفاء البديل لتدخل المؤسسه العسكريه في السياسه بينما البديل المتمثل في الانتخابات الرئاسيه المبكره كان حاضرا، ومن كونها في حدها الاقصي تنزع عملا عن المواطنات والمواطنين الحق في الاختيار الحر في الانتخابات باضفاء شرعيه الضروره الوطنيه علي المرشح الرئاسي لمنظومه الحكم / السلطه (او علي قوائمها ومرشحيها في الانتخابات البرلمانيه القادمه)، ومن كونها في حدها الاقصي ايضا تحول عملا بين الناس وبين التعبير الحر عن الراي فيما وراء توجهات وافعال راس السلطه التنفيذيه التي يروج لها كالتعبير الاوحد عن الضروره الوطنيه وينتفي من ثم الحق في معارضتها سلميا ــ فالمعارضه تستحيل فورا خيانه لمقتضيات الضروره الوطنيه ــ او في البحث عن بدائل ان فيما خص التوجهات والافعال ــ تصير زيفا اما عنوان تامر علي الوطن او جهل بمصالحه العليا او مثاليه خائبه ــ او الاشخاص 11 يخونون او يشوهون او يسفهون. غير ان مقولات الضروره، وهي ذات تاريخ مديد يصل بين خمسينيات القرن العشرين وبين اليوم، تتجاوز في صياغاتها وفي مجالات توظيفها تبرير الاحداث الكبري ذات المحتوي السلطوي واضفاء شرعيه علي منظومات الحكم / السلطه؛ فباسم الضروره الوطنيه ايضا تتحالف النخب الاقتصاديه والماليه والاداريه مع الحكم / السلطه وهي في الكثير من الاحيان تبتغي فقط حمايه مصالحها وامتيازاتها وعوائدها، وباسم الضروره الوطنيه تتنصل نخب اليسار والنخب الليبراليه من الفكره الديمقراطيه وتنقلب علي سياده القانون وتداول السلطه وضمانات الحقوق والحريات وتقبل اماته السياسه كنشاط سلمي وحر وتعددي وتوافقي وتصمت علي المظالم والانتهاكات مدفوعه اما باوهام التعاقب والتاجيل او بالرغبه في الاقتراب من الحكم / السلطه وحمايه المصالح والامتيازات او بالسعي الي التخلص من العدو الايديولوجي الذي يجسده اليمين الديني، وباسم الضروره الوطنيه يخرج علي المجال العام الكثير من رموز النخب الفكريه والثقافيه والاكاديميه والاعلاميه لتبرير المظالم والانتهاكات بمعايير مزدوجه بل وللترويج لهيستيريا العقاب الجماعي.

اما الوهم الرابع الذي يسهم في احكام الحصار حول الفكره الديمقراطيه في الواقع المصري ويمنع تجذرها المجتمعي فمركزه «تديين السياسه وتسييس الدين» عبر الزج الفاسد للدين المنزه الي دروب الحكم والسلطه وشئونها وشئون المجتمع والدوله، عبر الاستغلال الفاسد للدين المنزه ومساحاته ورموزه لاضفاء قداسه زائفه ان علي منظومات الحكم / السلطه وتوجهاتها وافعالها او علي جماعات وتيارات اليمين الديني وسردياتها ومقولاتها وممارساتها، عبر التوظيف الفاسد للدين المنزه الذي يعود في مصر الي سياقات زمنيه ابعد من منتصف خمسينيات القرن العشرين والذي تتورط به الي اليوم مؤسسات دينيه رسميه كما تحاوله جماعات وتيارات اليمين الديني وينزع بادعاء احتكار الحقيقه المطلقه عن شئون الحكم والسلطه والمجتمع والدوله المحتوي الديمقراطي المتمثل في التنوع والتعدد والاختلاف والتدافع السلمي وحق المواطن في الاختيار الحر والتعبير الحر عن الراي في اطار سياده القانون وتداول السلطه وضمانات الحقوق والحريات.

يضفي وهم تديين السياسه وتسييس الدين، وبفاعليه مجتمعيه يصعب انكارها، علي منظومات الحكم / السلطه وهي تخضع لارادتها الانفراديه المواطن والمجتمع والدوله وتحارب بشراسه لحظات الطلب الشعبي علي الديمقراطيه شرعيه اعتادت المؤسسات الدينيه الرسميه (الاسلاميه والمسيحيه) ونخبها علي صياغتها، وتجديدها لتواكب تنوع الاحداث واختلاف شخصيات الحكام وتوجهاتهم وافعالهم؛ ويمكن جماعات وتيارات اليمين الديني في لحظات الصعود المجتمعي من ممارسه الاستعلاء علي المختلفين معهم والاستخفاف بمقتضيات المواطنه وضمانات حقوقهم وحرياتهم حتي وهي تجتهد للانتساب للفكره الديمقراطيه، وتزين لهم في لحظات التراجع الخلط الكارثي بين المقاومه السلميه للمظالم والانتهاكات التي يتعرضون لها وبين روايات مظلوميه شموليه ومتطرفه ومعاديه للاخر اينما كان تبرر التطرف والعنف والدماء؛ وفي الحالات جميعا تحاصر الفكره الديمقراطيه ويحاصر الباحثون عنها والمطالبون بها.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل